إعادة قراءة الحديث النبوي حول الرجولة والمحبة وحرمة المرأة في الأسرة
الشيخ مهدي المجاهد
منذ ساعتينبمناسبة ذكرى شهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله، نستحضر حديثًا نبويًا مهمًا يحمل في طياته دروسًا تربوية عظيمة حول الرجولة الحقة، ومحبة المرأة، وضرورة حفظ كرامتها داخل الأسرة. الحديث يقول: قال النبي صلى الله عليه وآله : « خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَ أَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي (1). ما أكْرَمَ النِّساءَ إلاّ كريمٌ ولا أَهانَهُنَّ إلاّ لَئيم » (2).
وهذا الحديث يسبر أغوار الأخلاق النبوية التي تضع الأسرة في قلب المنظومة الأخلاقية للإسلام، ويؤسس رؤية متكاملة للعلاقات بين الرجال والنساء في الأسرة، على أساس المحبة والاحترام والكرامة المتبادلة.
سنُعرض المقالة من خلال محورين رئيسيين، يسلّطان الضوء على الجوانب الجوهرية في الحديث النبوي، وفق ما ورد في العنوان والنقاط المحددة.
المحور الأول: الأسرة والتربية
تُعد الأسرة نواة المجتمع والمدرسة الأولى للتربية والقيم. وفي هذا السياق، يبرز دور الرجل، الزوج، والأب، بشكل محوري. ولذا نقترب من الحديث عبر خمسة نقاط:
1. الرجل الصالح يبدأ صلاحه من بيته
قال النبي صلى الله عليه وآله : « خيرُكم خيرُكم لأهله »، وفي هذه الجملة القصيرة درس عميق: أفضل أداء لأي إنسان يبدأ في بيته. البر بالزوجة، والمعاملة الحسنة للأهل، والإدراك بأن البر بالأسرة أولى درجات التقوى. كما أن صلاح الأسرة ينعكس إيجابًا على جميع الشؤون: النفسية، الاجتماعية والروحية.
رجل يعامل زوجته بإحسان، ويوقر سنين عمرها، لا يظلمها، ولا يستخف بها، هو رجل يُعد خيرًا في ميزان الله، لأنه يبدأ الخير من الأهم، من مركز الحب والعاطفة الأول في حياته. هذا الخير لا يقتصر على الجانب المادي، بل يشمل الاحترام، المصارحة، التعاون في إدارة شؤون البيت، وقضاء الأوقات بروح من الود والرحمة كما قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز : ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (3).
2. الأخلاق النبوية كنسخة للأب والزوج
« وأنا خيركم لأهلي »، يقول النبي صلى الله عليه وآله هذا عن نفسه، كاقتداء كامل بالرسالة الأخلاقية. النبي صلى الله عليه وآله كان أبًا مربٍّ وزوجًا رحيمًا. يُظهر التواضع أمام أصحابه حتى في بيته، يراعي مشاعر زوجاته، لا يعلو صوته، ولا يستخدم العنف في أي حال. عندما نرى علاقته مع السيدة خديجة عليها السلام، ومع سائر زوجاته، تُعد نموذجًا حيًا للتربية العائلية النبيلة.
كان النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث عن السيدة خديجة عليها السلام بافتخار أمام المسلمين، فقد ورد أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال في المسجد: « يا معشر الناس، ألا أدلّكم على خير الناس جدّاً وجدّة؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال صلى الله عليه وآله: الحسن والحسين عليهما السلام، فإنّ جدّهما محمد، وجدتهما خديجةُ بنت خويلد » (4).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يهتم بمن كان له علاقة بالسيدة خديجة عليها السلام، فقد ورد أنَّ عجوزاً دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فألطفها، فلما خرجت سألته عائشة من هذه؟
فأجاب صلى الله عليه وآله وسلم: « إنها كانت تأتينا زمن خديجة عليها السلام، وإنّ حسن العهد من الإيمان » (5).
ومن شدّة حبّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للسيدة خديجة عليها السلام سمّى العام الذي توفيت فيه، وتوفي فيه أيضاً عمُّه أبو طالب بعام الحزن.
فالأب والزوج عندما يستحضر تلك الأخلاق، يعمل على أن يبني بيته بناءً قويًا: يعلي قيمة المرأة، يوطد روابط المحبة، ويغرس الأخلاق الأصيلة في أولاده.
3. البيت مدرسة للكرامة والمحبة
في القرآن الكريم والسنة، يُصور البيت كأحد أهم أماكن التربية الفاضلة. والحديث النبوي يُعزز ذلك: المحبة والاحترام في البيت، تربط أفراد الأسرة، وتخلق بيئة آمنة ومزدهرة.
المرأة تحظى بالاحترام والتقدير.
الأبناء يكبرون في ظل هذه الأجواء، ويكتسبون تقدير الذات والاحتشام.
كما أن الله وصف رحمته بأنها تشمل كل شيء ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ (6) ، فعلى الزوج أن يتحلى بالرحمة والرفق في بيته اقتداءً بهذه الصفة الإلهية التي يحبها الله في عباده.
البيت هنا ليس مجرد بناء؛ هو مدرسة من أول يوم تلتقي فيه الأم والأب، حتى اللحظات الأخيرة بين الزوجين أو مع الأبناء المتراحمين.
4. النموذج التربوي النبوي مع أهل البيت
النبي صلى الله عليه وآله كان يربي أهل بيته بأخلاق رفيعة، ويشركهم في حياته، ويعلمهم بالإيجاب، ويهتم بتوجيههم. مثال ذلك: عندما نطّلع على سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام نرى بشكل واضح مدى التقديس والتبجيل الخاصّ للسيدة فاطمة عليها السلام عندهم، فنلاحظ نوعًا من المعاملة الخاصّة معها حتّى قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيها: « فداها أبوها » (7)، ويروى أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا دخلت عليه فاطمة قام إليها وقبّل يديها وأجلسها في مجلسه (8) ، وغيرها من الأحاديث التي يظهر منها عظم منزلة السيدة الزهراء عليها السلام ومكانتنها الخاصّة عند النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت بضعته وروحه التي بين جنبيه: « وَهِيَ بَضْعَةٌ مِنِّي وَهِيَ نُورُ عَيْنِي وَهِيَ ثَمَرَةُ فُؤَادِي وَهِيَ رُوحِيَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَي » (9). هذا إضافة إلى مدى التعظيم الذي نشهده في طريقة تعامل الأئمة جميعهم عليهم السلام فيما يخصّ السيدة فاطمة عليها السلام....
بهذا التصرف، يصبح منزل الرسول صلى الله عليه وآله محضنًا للتربية الفاضلة، يعمل فيه الحوار، ومنهجية الإصلاح دون آفة الصراخ أو التجريح.
5. الإيمان والدين الحقيقي يبدأان من البيت
"دينك في بيتك"؛ هذا هو جوهر النقطة الخامسة: دين الرجل يظهر أولاً في بيته. الخُطب والصلوات والعبادات، بلا أخلاق في المنزل، لا قيمة لها. النبي صلى الله عليه وآله لم يكن متصرفًا فقط كخطيب أو قائد، بل كأب ورجل بيت. فالتدين الحقيقي هو ما يظهر في الرحمة بين الزوجين، وفي التناصح مع الأبناء، وفي العدل بين الأولاد، وفي استقامة المعاملات اليومية في البيت.
المحور الثاني: العنف ضد النساء والكرامة الإنسانية
تكمل هذه المحور الرؤية الأخلاقية التي بنيت في المحور الأول، وتتناول سلوك الإنسان مع المرأة في ضوء الكرامة والرجولة الحقة.
1. إذلال المرأة دليل على سفالة الشخصية
حديث النبي صلى الله عليه وآله يقول: « ما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم »، الإهانة تحط من كرامة المرأة، وتعكس عيبًا نفسيًّا في الرجل نفسه. الرجل الذي يسيء أو يهين زوجته، لا يظهر رجولته بل ضعفاً نفسيًا: إذ يرى المرأة دون قدرها، ومَن يهين زوجته أو أم أولاده لا يحترم نفسه ولا يقدر الإنسانية.
2. الإسلام رفض ورَدَّ العنف الخفي داخل البيت
هناك أشكال للعنف ليست دائمًا جسمانية، بل نفسية، مثل السخرية، التحقير، التهميش، التلاعب النفسي. الإسلام برأى هذه التصرفات وسوّدها بأنها من لئام الأخلاق. الرسول صلى الله عليه وآله لم يكتفِ ببيان الإهانة المادية، بل رفض السخرية من المرأة: سواء في ألفاظها أو حجابها أو فكرها أو مشاعرها. رأى النبي صلى الله عليه وآله أن العطاء في التنظيم النفسي داخل البيت واجب.
3. كرامة المرأة مقياس كرامة الرجل
المقولة المركزية هنا أن « أكرم النساء إلا كريم ». الكرامة التي يمنحها الرجل لزوجته ولبناته وأمهات الأولاد، هي مقياس رجولته الحقيقية. من يمنح الكرامة - بسلوك عادل ومحب، يعترف بدور المرأة - هو كريم. والكرامة ليست ترفًا، بل حقوق كلية: الحق في الحوار، الحق في المشاركة، الحق في الرعاية، الحق في الاحترام.
4. التعامل مع النساء امتحان للرجل وتعبير عن إيمانه
الإسلام يجعل من طريقة تعامل الرجل مع المرأة في البيت اختبارًا حيًا لإيمانه: هل يُظهر الرحمة؟ هل يُمارس العدالة؟ هل يعترف بالحقوق دون احتقار؟ الرجل المؤمن يُحسن معاملة المرأة لأن هذا جزء من طاعته لله، ولا يُنكّر فضلها ولا رسالتها، بل يُظهر لها الاحترام والاهتمام. كل تصرف فيه كرامة للمرأة هو في الحقيقة تصرف فيه تعظيم لدور الإسلام الإنساني.
5. النبي صلى الله عليه وآله أول مدافع عن كرامة المرأة
الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله لم يكتف بدعوات لفظية، بل نزل إلى مستوى الفرد والمجتمع، وأوقف الممارسات القائمة قبل الإسلام: المهدّنة، والتكفير، والإسقاط، والتوريث غير العادل. أرجع كرامة المرأة ورسّخ الحق في النفقة والتعليم والميراث.
خاتمة
هذا الحديث النبوي يجمع عناصر عظيمة لوضع أسرة فاضلة، ولغرس قيم الدعوة والعدالة، كما يربط بين رجولة الرجل وكرامة المرأة:
الرجولة: تبدأ من المعاملة داخل البيت، بالأخلاق والعدل والإحسان.
المحبة: عامل أساسي، تُرسى بالاحترام والتقدير المتبادل.
الكرامة: حق طبيعي للمرأة، لمن هو كريم وقور، وليست أولئك الذين يتصفون باللؤم.
من خلال هذا الحديث، نفهم الإسلام ليس فقط كدين يعالج موضوعات العبادة والشعائر، بل كمنظومة أخلاقية شاملة تبدأ من الأسرة. كما أن احترام المرأة، ورفع شأنها، وتقديم الرعاية لها علامة على الرجل الحق، الذي يسير على خطى نبي الرحمة صلى الله عليه وآله.
في ذكرى شهادة النبي صلى الله عليه وآله، يكون أعظم تكريم أن نعيد قراءة هذه الجامعة الأخلاقية، ونحولها إلى أفعال في بيوتنا، ونربّي أبناءنا على تروية القيم، ونعي أن الإيمان الحق يتجلّى بقدر ما يظهر في العلاقات الأسرية، التي هي الحقل الأول الذي يصنع فيه رجالًا صالحين ونساءً كريمات، فتصبح الأسرة سجلا حيًّا لتطبيق الرسالات السماوات.
ويسعدنا أن نسمع رأيكِ أيتها الأخت الفاضلة... كيف ترين أثر هذا الحديث النبوي في واقع الأسر اليوم؟
اكتبي لنا تجربتكِ، أو كلمة من قلبكِ، أو دعوة صادقة لزوجٍ أو أبٍ أو ابنٍ ليكون أكثر رحمة ومحبة... لعل كلماتكِ تُلهم غيركِ، ويكون لكِ فيها أجر ومشاركة في نشر الهَدي النبوي.
1. من لا يحضره الفقيه / الشيخ الصدوق / المجلّد : 3 / الصفحة : 555.
2. أعيان الشيعة / السيد محسن الأمين / المجلّد : 5 / الصفحة : 206.
3. سورة الروم : الآية 21.
4. الأمالي / الشيخ الصدوق / المجلّد : 1 / الصفحة : 522.
5. كشف الغمة في معرفة الأئمة: المحدث الإربلي جلد : 1 صفحه : 479.
6. سورة الأعراف : الآية 156.
7. بحار الأنوار /العلامة المجلسي/ المجلّد : 43 / الصفحة : 20.
8. الأمالي / الشيخ الطوسي / الصفحة : 400.
9. الأمالي / الشيخ الصدوق / المجلّد : 1 / الصفحة : 113.
التعلیقات