الزواج بين التعاليم والتقاليد
الشيخ حسن الصفار
منذ 16 سنةالحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
إذا كان الزواج ضرورة وحاجة ملحة للإنسان في كل عصر، فإنه في هذا الزمن أكثر ضرورة، وأشد إلحاحاً. وذلك لما يتعرض له إنسان اليوم من وسائل تحريض للشهوة، وعوامل إثارة للغريزة، تجعله يعيش حالة من الهياج والاندفاع الجنسي العنيف. فوسائل الإعلام وأجهزة الاتصالات تتفنن في إذكاء الغرائز والشهوات، إضافة إلى انتشار أجواء الخلاعة والابتذال. ولم تعد هناك حدود أو مراعاة لشيء من الحياء والاحتشام، الذي كان يميّز الإنسان في ممارساته لغرائزه عن بقية الحيوانات.
كما تحيط بالإنسان المعاصر الكثير من دواعي القلق، وأسباب الاضطراب النفسي، للتعقيدات التي يواجهها في توفير متطلبات الحياة، وللأخطار والتحديات المختلفة التي تنتصب أمامه على الصعيد الشخصي والاجتماعي.
وبذلك تزداد حاجة الإنسان إلى مأوى يلجأ إليه ليمنحه الطمأنينة والاستقرار، وإلى قناة سليمة، وإطار مشروع، يمارس من خلاله غريزته الجنسية الطبيعية.
والزواج هو ذلك الحصن الحصين والكهف المنيع، الذي يوفر للإنسان أجواء الراحة النفسية، واللذة الغريزية، ففيه سكون واطمئنان نفسي، حيث يشعر كل من الزوجين بوجود من يشاركه هموم الحياة، ويعينه على مشاكلها، ويمكنه الانفتاح عليه، وبثه آلامه وآماله، لذلك يصف الله تعالى الزوج بأنه سكن للإنسان، فالرجل سكن لامرأته، وهي سكن له، أي يتوفر بكل واحد للآخر سكون النفس واطمئنانها. يقول تعالى:
( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) [1] والخطاب موجه للرجال والنساء.
وبالزواج يصبح الإنسان أكثر حصانة ومناعة تجاه الانحرافات السلوكية، والمفاسد الأخلاقية، بل وتجاه مختلف الجرائم. وهذا ما تدل عليه الإحصاءات والأرقام. فالمتزوج أمامه طريق سالك لإشباع رغباته وشهواته، وهو غالباً ما يفكر أكثر في تصرفاته وممارساته، لما يشعر به من مسؤولية عائلية وأسرية.
أخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود (رضي اللَّه عنه) قال: " كنا مع النبي شباباً لا نجد شيئاً فقال لنا رسول الله : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة -أي النفقة- فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج "[2] .
وإشارة إلى دور الزواج في التحصين عن الانحراف قال فيما روي عنه: " أيما شاب تزوج في حداثة سنه عجّ شيطانه: يا ويله! عصم مني دينه "[3] .
كما يشير حديث آخر إلى أن عدم الزواج يعني نسبة أكثر من احتمالات الشر والانحراف يقول فيما روي عنه: "شراركم عزابكم "[4] .
بين مسؤولية الفرد والمجتمع:
أصبح تأخير الزواج للشباب والشابات هو الحالة السائدة في مجتمعاتنا، حيث تستغرق الدراسة حوالي ثمانية عشر عاماً، إضافة إلى الست السنوات الأولى قبل سن الدراسة، وبعد التخرج يحتاج إلى بضع سنوات حتى يجد له عملاً، وحتى يكوّن نفسه ليكون قادراً على توفير مستلزمات الزواج.
وهذا يعني أن يقضي الشباب والشابات أهم الفترات حراجة وحساسية في حياتهم العاطفية والنفسية، وهم في حالة العزوبة، مما يعرضهم للكثير من مخاطر الإنزلاقات والانحرافات، ويعرّض أمن المجتمع الأخلاقي للاهتزاز والاضطراب.
إن المجتمع الذي يفكر في تحصين أمنه واستقراره، ويهتم بصلاح وإصلاح أبنائه، يجب أن يسهّل وييسر أمور الزواج، ويساعد الشباب على الإسراع في بناء حياتهم العائلية.
وإذا ما تأملنا النصوص والتعاليم الدينية نراها تحمّل المجتمع مسـؤولية زواج أبنائـه، يقول تعـالى: ( وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )[5] .
( وَأَنكِحُوا ) أي زوِّجوا، وهو خطاب للمجتمع بأن يزوجوا العزاب، حيث لم يخاطب العزاب هنا بأن يتزوجوا، وإنما خاطب الناس أن يزوِّجوهم. ذلك لأن الزواج غالباً ليس قضية فردية يقوم بها الطرفان المعنيان فقط، وبمعزل عن الارتباطات والتأثيرات الاجتماعية، كسائر الأمور من بيع وشراء وإجارة.. بل هو مسألة لها أبعادها وارتباطاتها المؤثرة بأكثر من جانب اجتماعي. كما أن من يريد تأسيس حياته العائلية وخاصة لأول مرة، قد يحتاج إلى دعم وعون مادي ومعنوي، لمساعدته على إنجاز هذه المهمة وإنجاحها. من هنا يتوجه الخطاب إلى المجتمع ( وَأَنكِحُوا ).
و( الأَيَامَى) جمع (ايِّم) على وزن (قيِّم) وتعني الإنسان الذي لا زوج له رجلاً كان أو امرأة، وإن كان قد كثر استعمال هذه الكلمة في الرجل إذا ماتت امرأته، وفي المرأة إذا مات زوجها، ولكنه كما نص عليه اللغويون: تشمل كل ذكر لا أنثى معه، وكل أنثى لا ذكر معها بكراً أو ثيبا.
وإذا كان بعض الأشخاص، يعانون من الضعف الاقتصادي، فإن زواجهم قد يكون دافعاً لهم للمزيد من العمل والإنتاج، كما أن الله تعالى سيبارك لهم ويوسع عليهم، بتحملهم لمسؤولياتهم العائلية والاجتماعية.
الإعفاف:
الإعفاف لغة: فعل ما يحقق العفاف للنفس أو للغير. واصطلاحاً يقصد به الفقهاء: تزويج المحتاج للزواج لتجنيبه الوقوع في الحرام.
وقد ناقش الفقهاء المسلمون من مختلف المذاهب الإسلامية هذه المسألة على الوجه التالي: هل يجب على الإنسان، إذا كان قادراً متمكناً أن يوفّر تكاليف الزواج لمن يحتاج إلى الزواج ممن تجب نفقته عليه كوالديه وأولاده؟ أم أن ذلك مستحب ومندوب إليه فقط دون أن يرقى إلى مستوى الوجوب؟
المشهور عند فقهاء الشيعة أنه لا يجب إعفاف من تجب النفقة له ولداّ كان أو والدا بتزويجٍ أو اعطاء مهر أو تمليك أمة أو نحو ذلك مما يناسب حالة الإعفاف، وإنما هو أمر مندوب مستحب.[6]
ونقل عن بعض فقهائهم القول بالوجوب للأب وإن علا، لأن ذلك من أهم المصاحبة بالمعروف المأمور بها في الآية: ( وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)[7] ولأنه من وجوه حاجاته المهمة فيجب على الإبن القيام به كالنفقة والكسوة.[8]
وهو رأي فقهاء أهل السنة (يلزم الولد إعفاف الأب والأجداد على المشهور)[9] لكن الراجح عند الحنفية أنه لا يلزمه سواء وجبت نفقته أو لم تجب.[10]
دور الحقوق الشرعية:
والمساعدة على الزواج للمحتاجين من أفضل موارد صرف الحقوق الشرعية، لأنها تحقق غرضين أساسيين في وقت واحد، هما قضاء الحاجة، وحماية الأخلاق والقيم، لذلك أفتى الفقهاء بأنه يصح أن يصرف من أموال الزكاة لتزويج المؤمنين المحتاجين للزواج، مع ضعف وضعهم الإقتصادي، وحتى غير المؤمن الملتزم يصح مساعدته من الزكاة للزواج من سهم المؤلفة قلوبهم في سبيل الله.
ولا يجب إعلام الفقير المحتاج إلى الزواج أن المدفوع إليه زكاة، بل لو كان ممن يترفع ويدخله الحياء منها، وهو مستحق، يستحب دفعها إليه على وجه الصلة ظاهراً والزكاة واقعاً.[11]
ويجوز للوالد أن يدفع زكاته إلى ولده للصرف في مؤنة التزويج وكذا يجوز للولد أن يصرف زكاته في تزويج والده.[12]
وكذلك فإن الخمس ينقسم في مصرفه إلى نصفين: نصف للسادة الهاشميين، والنصف الآخر للإمام المعصوم فمن مصارف النصف الأول تزويج السادة المحتاجين للزواج، مع ضعفهم الاقتصادي. كما أنه يجوز الصرف من النصف الآخر الراجع للإمام من أجل تزويج المحتاجين للزواج من المؤمنين، بعد الاستئذان من المرجع الديني مباشرة أو من وكيله.
كما أن مساعدة المحتاجين للزواج تعتبر من أفضل موارد البذل والصدقة، لأنها تعالج حاجة ماسة حقيقية، وتسهم في تعزيز أمن المجتمع وسد ثغرات الفساد والانحراف، كما أنها استجابة للحث الإلهي والديني على الانكاح والتزويج، وأن ذلك من أحب الأمور إلى الله تعالى، فقد روي عن رسول الله أنه قال: " ما بني بناء في الإسلام أحب إلى الله عز وجل من التزويج ".[13]
الصندوق الخيري للزواج:
إنشاء صندوق خيري لمساعدة المحتاجين للزواج، هو أفضل أسلوب لتحقيق وإنجاز هذا المطلب الديني الاجتماعي الهام، فعبر الصندوق تنتظم أمور هذا السعي المبارك، وتدرس حالات الأفراد، وتقدر لهم احتياجاتهم، والعمل الجمعي أنفع وأبرك من الأعمال الفردية. فينبغي للإخوة المؤمنين أن يبادروا إلى إنشاء هذا المشروع الهام في كل مدينة وقرية، وأن يدعم الناس الصناديق القائمة مادياً ومعنوياً لتؤدي وظيفتها المقدسة على أفضل وجه.
ولا بد أن نشيد هنا بالدور الرائد الذي يقوم به صندوق الزواج الخيري في مدينة صفوى، والذي تأسس عام 1993م وصرف حتى عام 2000م مبلغاً قدره 3,668,583 لمساعدة 357 شاباً على الزواج عبر برنامج القروض والإعانات.
وصندوق الزواج الخيري في سيهات والذي تأسس عام 1992م والذي صرف حتى عام 2000م 1,777,952 قروضاً ومساعدات، استفاد منها 225 شخصاً للزواج.
والصندوق الخيري للزواج في القطيف 1999م والذي صرف خلال سنتين من تأسيسه مبلغاً قدره 405,949 ريال لمساعدة 64 شاباً على الزواج بين قرض وإعانة.
إنها تجارب رائدة جزى الله القائمين عليها والمتعاونين معها خيراً وينبغي أن تنال حقها من الإشادة والتشجيع وأن يحتذى بها في بقية المناطق والمدن.
أحاديث عن التزويج:
- عن رسول الله أنه قال: " من أدرك له ولد، وعنده ما يزوجه فلم يزوجه، فأحدث فالإثم بينهما ".[14]
- وفي رواية عن ابن عباس عنه : " من بلغ ولده النكاح وعنده ما ينكحه فلم ينكحه ثم أحدث حدثاً فالإثم عليه ".[15]
- وعنه : " حق الولد على والده أن يحسن اسمه، ويزوجه إذا أدرك، ويعلمه الكتابة ".[16]
- عن الإمام جعفر الصادق قال: " من زوج اعزباً كان ممن ينظر الله عز وجل إليه يوم القيامة ".[17]
- عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم : " ثلاثة يستظلون بظل عرش الله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله، رجل زوج أخاه المسلم، أو أخدمه، أو كتم له سراً ".[18]
مراسيم الزواج:
لأن الزواج حدث هام في حياة الإنسان، بل لعله أهم حدث يترك تفاعلاته العميقة في وجدان الإنسان ومشاعره، ويؤثر في مجريات حياته. كما أن له انعكاساته الاجتماعية على المحيطين بالمتزوج، لذلك من الطبيعي أن ترافقه مراسيم احتفاء، وبرامج إعلام وإظهار، تتيح الفرصة للتعبير عن مشاعر الفرح والسرور، عند المتزوجين والمحيطين بهما، وتكشف عن مدى تعاطف الآخرين وتقديرهم بالمشاركة والتفاعل.
ومراسيم الزواج هي إعلان عن ولادة كيان اجتماعي جديد، وتأسيس علاقة محترمة في شرع المجتمع وأعرافه، وأيضاً فإنها توثيق لروابط المحبة والود والتآلف بين أبناء المجتمع.
من هنا شجع الإسلام على الإحتفاء بالزواج، وإقامة مراسم مناسبة له، كصنع الوليمة والإطعام، وزفاف العريسين.
بالطبع يمكن لمراسيم الزواج أن تتطور أساليبها وبرامجها، مع اختلاف العصور والمجتمعات والظروف لكن ما ينبغي التنبيه إليه أمران:
أولاًَ: أن تبقى في إطار مراعاة الأحكام الشرعية، فلا يجوز شرعاً أن يحصل تجاوز لأحكام الستر والحجاب بين النساء والرجال الأجانب عليهن، وإذا كان بعض الفقهاء قد أجازوا الغناء للنساء في مناسبة الزواج دون استخدام آلات اللهو كما هو رأي السيد الخوئي والسيد الشيرازي والشيخ التبريزي[19] لكن ذلك مشروط بأن لا يصل صوت غنائهن للرجال الأجانب.
ومن المخالفات الشرعية تداول تصوير حفلات الزواج النسائية، وتسربها إلى الرجال الأجانب. وقد نشرت جريدة الوطن السعودية اليوم الجمعة 1/4/1422هـ ص33 تحقيقاً من الدمام حول الموضوع تحت عنوان (تسرب أشرطة حفلات الزواج بالسعودية يثير مشكلات أسرية بعضها ينتهي بالطلاق).
ثانياً: الحد من المبالغة المتصاعدة في هذه المراسيم والتي تثقل كاهل المتزوجين وأهاليهم، حيث تستنزف مبالغ طائلة، وجهوداً مضنية، تجعل تكاليف الزواج باهظة معقدة، مع ما نعيشه من صعوبة في الظروف الاقتصادية.
والملاحظ استمرار الزيادات والموضات الجديدة، في ما يرتبط بحفلات الزواج والتنافس على عقدها في أضخم الصالات، حيث تصل التكلفة في بعضها إلى 70 ألف ريال، وتقديم الولائم بطريقة فيها الكثير من الإسراف والتبذير، ثم التفاخر بأغلى الفساتين لليلة الزفاف، وأحدث موديلات السيارات للزفة، وإلى قائمة من العادات والتقاليد المرهقة الباهظة.
إن المجتمع بحاجة إلى ثقافة واعية لتغيير هذه العادات والتقاليد، وإلى مبادرات شجاعة من قبل فتيان وفتيات يتمردون على هذه الموضات والموديلات في مراسيم الزواج، ويعودون بها إلى حالة البساطة واليسر، كما تؤكد تعاليم الإسلام يقول تعالى: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ )[20] .
اللهم بارك للمتزوجين وأسعد حياتهم وارزقهم ذريات صالحة، ويسر لجميع العزّاب أمور زواجهم، ووفق الجميع للخير والصلاح إنك أرحم الراحمين.
إذا كان الزواج ضرورة وحاجة ملحة للإنسان في كل عصر، فإنه في هذا الزمن أكثر ضرورة، وأشد إلحاحاً. وذلك لما يتعرض له إنسان اليوم من وسائل تحريض للشهوة، وعوامل إثارة للغريزة، تجعله يعيش حالة من الهياج والاندفاع الجنسي العنيف. فوسائل الإعلام وأجهزة الاتصالات تتفنن في إذكاء الغرائز والشهوات، إضافة إلى انتشار أجواء الخلاعة والابتذال. ولم تعد هناك حدود أو مراعاة لشيء من الحياء والاحتشام، الذي كان يميّز الإنسان في ممارساته لغرائزه عن بقية الحيوانات.
كما تحيط بالإنسان المعاصر الكثير من دواعي القلق، وأسباب الاضطراب النفسي، للتعقيدات التي يواجهها في توفير متطلبات الحياة، وللأخطار والتحديات المختلفة التي تنتصب أمامه على الصعيد الشخصي والاجتماعي.
وبذلك تزداد حاجة الإنسان إلى مأوى يلجأ إليه ليمنحه الطمأنينة والاستقرار، وإلى قناة سليمة، وإطار مشروع، يمارس من خلاله غريزته الجنسية الطبيعية.
والزواج هو ذلك الحصن الحصين والكهف المنيع، الذي يوفر للإنسان أجواء الراحة النفسية، واللذة الغريزية، ففيه سكون واطمئنان نفسي، حيث يشعر كل من الزوجين بوجود من يشاركه هموم الحياة، ويعينه على مشاكلها، ويمكنه الانفتاح عليه، وبثه آلامه وآماله، لذلك يصف الله تعالى الزوج بأنه سكن للإنسان، فالرجل سكن لامرأته، وهي سكن له، أي يتوفر بكل واحد للآخر سكون النفس واطمئنانها. يقول تعالى:
( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) [1] والخطاب موجه للرجال والنساء.
وبالزواج يصبح الإنسان أكثر حصانة ومناعة تجاه الانحرافات السلوكية، والمفاسد الأخلاقية، بل وتجاه مختلف الجرائم. وهذا ما تدل عليه الإحصاءات والأرقام. فالمتزوج أمامه طريق سالك لإشباع رغباته وشهواته، وهو غالباً ما يفكر أكثر في تصرفاته وممارساته، لما يشعر به من مسؤولية عائلية وأسرية.
أخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود (رضي اللَّه عنه) قال: " كنا مع النبي شباباً لا نجد شيئاً فقال لنا رسول الله : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة -أي النفقة- فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج "[2] .
وإشارة إلى دور الزواج في التحصين عن الانحراف قال فيما روي عنه: " أيما شاب تزوج في حداثة سنه عجّ شيطانه: يا ويله! عصم مني دينه "[3] .
كما يشير حديث آخر إلى أن عدم الزواج يعني نسبة أكثر من احتمالات الشر والانحراف يقول فيما روي عنه: "شراركم عزابكم "[4] .
بين مسؤولية الفرد والمجتمع:
أصبح تأخير الزواج للشباب والشابات هو الحالة السائدة في مجتمعاتنا، حيث تستغرق الدراسة حوالي ثمانية عشر عاماً، إضافة إلى الست السنوات الأولى قبل سن الدراسة، وبعد التخرج يحتاج إلى بضع سنوات حتى يجد له عملاً، وحتى يكوّن نفسه ليكون قادراً على توفير مستلزمات الزواج.
وهذا يعني أن يقضي الشباب والشابات أهم الفترات حراجة وحساسية في حياتهم العاطفية والنفسية، وهم في حالة العزوبة، مما يعرضهم للكثير من مخاطر الإنزلاقات والانحرافات، ويعرّض أمن المجتمع الأخلاقي للاهتزاز والاضطراب.
إن المجتمع الذي يفكر في تحصين أمنه واستقراره، ويهتم بصلاح وإصلاح أبنائه، يجب أن يسهّل وييسر أمور الزواج، ويساعد الشباب على الإسراع في بناء حياتهم العائلية.
وإذا ما تأملنا النصوص والتعاليم الدينية نراها تحمّل المجتمع مسـؤولية زواج أبنائـه، يقول تعـالى: ( وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )[5] .
( وَأَنكِحُوا ) أي زوِّجوا، وهو خطاب للمجتمع بأن يزوجوا العزاب، حيث لم يخاطب العزاب هنا بأن يتزوجوا، وإنما خاطب الناس أن يزوِّجوهم. ذلك لأن الزواج غالباً ليس قضية فردية يقوم بها الطرفان المعنيان فقط، وبمعزل عن الارتباطات والتأثيرات الاجتماعية، كسائر الأمور من بيع وشراء وإجارة.. بل هو مسألة لها أبعادها وارتباطاتها المؤثرة بأكثر من جانب اجتماعي. كما أن من يريد تأسيس حياته العائلية وخاصة لأول مرة، قد يحتاج إلى دعم وعون مادي ومعنوي، لمساعدته على إنجاز هذه المهمة وإنجاحها. من هنا يتوجه الخطاب إلى المجتمع ( وَأَنكِحُوا ).
و( الأَيَامَى) جمع (ايِّم) على وزن (قيِّم) وتعني الإنسان الذي لا زوج له رجلاً كان أو امرأة، وإن كان قد كثر استعمال هذه الكلمة في الرجل إذا ماتت امرأته، وفي المرأة إذا مات زوجها، ولكنه كما نص عليه اللغويون: تشمل كل ذكر لا أنثى معه، وكل أنثى لا ذكر معها بكراً أو ثيبا.
وإذا كان بعض الأشخاص، يعانون من الضعف الاقتصادي، فإن زواجهم قد يكون دافعاً لهم للمزيد من العمل والإنتاج، كما أن الله تعالى سيبارك لهم ويوسع عليهم، بتحملهم لمسؤولياتهم العائلية والاجتماعية.
الإعفاف:
الإعفاف لغة: فعل ما يحقق العفاف للنفس أو للغير. واصطلاحاً يقصد به الفقهاء: تزويج المحتاج للزواج لتجنيبه الوقوع في الحرام.
وقد ناقش الفقهاء المسلمون من مختلف المذاهب الإسلامية هذه المسألة على الوجه التالي: هل يجب على الإنسان، إذا كان قادراً متمكناً أن يوفّر تكاليف الزواج لمن يحتاج إلى الزواج ممن تجب نفقته عليه كوالديه وأولاده؟ أم أن ذلك مستحب ومندوب إليه فقط دون أن يرقى إلى مستوى الوجوب؟
المشهور عند فقهاء الشيعة أنه لا يجب إعفاف من تجب النفقة له ولداّ كان أو والدا بتزويجٍ أو اعطاء مهر أو تمليك أمة أو نحو ذلك مما يناسب حالة الإعفاف، وإنما هو أمر مندوب مستحب.[6]
ونقل عن بعض فقهائهم القول بالوجوب للأب وإن علا، لأن ذلك من أهم المصاحبة بالمعروف المأمور بها في الآية: ( وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)[7] ولأنه من وجوه حاجاته المهمة فيجب على الإبن القيام به كالنفقة والكسوة.[8]
وهو رأي فقهاء أهل السنة (يلزم الولد إعفاف الأب والأجداد على المشهور)[9] لكن الراجح عند الحنفية أنه لا يلزمه سواء وجبت نفقته أو لم تجب.[10]
دور الحقوق الشرعية:
والمساعدة على الزواج للمحتاجين من أفضل موارد صرف الحقوق الشرعية، لأنها تحقق غرضين أساسيين في وقت واحد، هما قضاء الحاجة، وحماية الأخلاق والقيم، لذلك أفتى الفقهاء بأنه يصح أن يصرف من أموال الزكاة لتزويج المؤمنين المحتاجين للزواج، مع ضعف وضعهم الإقتصادي، وحتى غير المؤمن الملتزم يصح مساعدته من الزكاة للزواج من سهم المؤلفة قلوبهم في سبيل الله.
ولا يجب إعلام الفقير المحتاج إلى الزواج أن المدفوع إليه زكاة، بل لو كان ممن يترفع ويدخله الحياء منها، وهو مستحق، يستحب دفعها إليه على وجه الصلة ظاهراً والزكاة واقعاً.[11]
ويجوز للوالد أن يدفع زكاته إلى ولده للصرف في مؤنة التزويج وكذا يجوز للولد أن يصرف زكاته في تزويج والده.[12]
وكذلك فإن الخمس ينقسم في مصرفه إلى نصفين: نصف للسادة الهاشميين، والنصف الآخر للإمام المعصوم فمن مصارف النصف الأول تزويج السادة المحتاجين للزواج، مع ضعفهم الاقتصادي. كما أنه يجوز الصرف من النصف الآخر الراجع للإمام من أجل تزويج المحتاجين للزواج من المؤمنين، بعد الاستئذان من المرجع الديني مباشرة أو من وكيله.
كما أن مساعدة المحتاجين للزواج تعتبر من أفضل موارد البذل والصدقة، لأنها تعالج حاجة ماسة حقيقية، وتسهم في تعزيز أمن المجتمع وسد ثغرات الفساد والانحراف، كما أنها استجابة للحث الإلهي والديني على الانكاح والتزويج، وأن ذلك من أحب الأمور إلى الله تعالى، فقد روي عن رسول الله أنه قال: " ما بني بناء في الإسلام أحب إلى الله عز وجل من التزويج ".[13]
الصندوق الخيري للزواج:
إنشاء صندوق خيري لمساعدة المحتاجين للزواج، هو أفضل أسلوب لتحقيق وإنجاز هذا المطلب الديني الاجتماعي الهام، فعبر الصندوق تنتظم أمور هذا السعي المبارك، وتدرس حالات الأفراد، وتقدر لهم احتياجاتهم، والعمل الجمعي أنفع وأبرك من الأعمال الفردية. فينبغي للإخوة المؤمنين أن يبادروا إلى إنشاء هذا المشروع الهام في كل مدينة وقرية، وأن يدعم الناس الصناديق القائمة مادياً ومعنوياً لتؤدي وظيفتها المقدسة على أفضل وجه.
ولا بد أن نشيد هنا بالدور الرائد الذي يقوم به صندوق الزواج الخيري في مدينة صفوى، والذي تأسس عام 1993م وصرف حتى عام 2000م مبلغاً قدره 3,668,583 لمساعدة 357 شاباً على الزواج عبر برنامج القروض والإعانات.
وصندوق الزواج الخيري في سيهات والذي تأسس عام 1992م والذي صرف حتى عام 2000م 1,777,952 قروضاً ومساعدات، استفاد منها 225 شخصاً للزواج.
والصندوق الخيري للزواج في القطيف 1999م والذي صرف خلال سنتين من تأسيسه مبلغاً قدره 405,949 ريال لمساعدة 64 شاباً على الزواج بين قرض وإعانة.
إنها تجارب رائدة جزى الله القائمين عليها والمتعاونين معها خيراً وينبغي أن تنال حقها من الإشادة والتشجيع وأن يحتذى بها في بقية المناطق والمدن.
أحاديث عن التزويج:
- عن رسول الله أنه قال: " من أدرك له ولد، وعنده ما يزوجه فلم يزوجه، فأحدث فالإثم بينهما ".[14]
- وفي رواية عن ابن عباس عنه : " من بلغ ولده النكاح وعنده ما ينكحه فلم ينكحه ثم أحدث حدثاً فالإثم عليه ".[15]
- وعنه : " حق الولد على والده أن يحسن اسمه، ويزوجه إذا أدرك، ويعلمه الكتابة ".[16]
- عن الإمام جعفر الصادق قال: " من زوج اعزباً كان ممن ينظر الله عز وجل إليه يوم القيامة ".[17]
- عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم : " ثلاثة يستظلون بظل عرش الله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله، رجل زوج أخاه المسلم، أو أخدمه، أو كتم له سراً ".[18]
مراسيم الزواج:
لأن الزواج حدث هام في حياة الإنسان، بل لعله أهم حدث يترك تفاعلاته العميقة في وجدان الإنسان ومشاعره، ويؤثر في مجريات حياته. كما أن له انعكاساته الاجتماعية على المحيطين بالمتزوج، لذلك من الطبيعي أن ترافقه مراسيم احتفاء، وبرامج إعلام وإظهار، تتيح الفرصة للتعبير عن مشاعر الفرح والسرور، عند المتزوجين والمحيطين بهما، وتكشف عن مدى تعاطف الآخرين وتقديرهم بالمشاركة والتفاعل.
ومراسيم الزواج هي إعلان عن ولادة كيان اجتماعي جديد، وتأسيس علاقة محترمة في شرع المجتمع وأعرافه، وأيضاً فإنها توثيق لروابط المحبة والود والتآلف بين أبناء المجتمع.
من هنا شجع الإسلام على الإحتفاء بالزواج، وإقامة مراسم مناسبة له، كصنع الوليمة والإطعام، وزفاف العريسين.
بالطبع يمكن لمراسيم الزواج أن تتطور أساليبها وبرامجها، مع اختلاف العصور والمجتمعات والظروف لكن ما ينبغي التنبيه إليه أمران:
أولاًَ: أن تبقى في إطار مراعاة الأحكام الشرعية، فلا يجوز شرعاً أن يحصل تجاوز لأحكام الستر والحجاب بين النساء والرجال الأجانب عليهن، وإذا كان بعض الفقهاء قد أجازوا الغناء للنساء في مناسبة الزواج دون استخدام آلات اللهو كما هو رأي السيد الخوئي والسيد الشيرازي والشيخ التبريزي[19] لكن ذلك مشروط بأن لا يصل صوت غنائهن للرجال الأجانب.
ومن المخالفات الشرعية تداول تصوير حفلات الزواج النسائية، وتسربها إلى الرجال الأجانب. وقد نشرت جريدة الوطن السعودية اليوم الجمعة 1/4/1422هـ ص33 تحقيقاً من الدمام حول الموضوع تحت عنوان (تسرب أشرطة حفلات الزواج بالسعودية يثير مشكلات أسرية بعضها ينتهي بالطلاق).
ثانياً: الحد من المبالغة المتصاعدة في هذه المراسيم والتي تثقل كاهل المتزوجين وأهاليهم، حيث تستنزف مبالغ طائلة، وجهوداً مضنية، تجعل تكاليف الزواج باهظة معقدة، مع ما نعيشه من صعوبة في الظروف الاقتصادية.
والملاحظ استمرار الزيادات والموضات الجديدة، في ما يرتبط بحفلات الزواج والتنافس على عقدها في أضخم الصالات، حيث تصل التكلفة في بعضها إلى 70 ألف ريال، وتقديم الولائم بطريقة فيها الكثير من الإسراف والتبذير، ثم التفاخر بأغلى الفساتين لليلة الزفاف، وأحدث موديلات السيارات للزفة، وإلى قائمة من العادات والتقاليد المرهقة الباهظة.
إن المجتمع بحاجة إلى ثقافة واعية لتغيير هذه العادات والتقاليد، وإلى مبادرات شجاعة من قبل فتيان وفتيات يتمردون على هذه الموضات والموديلات في مراسيم الزواج، ويعودون بها إلى حالة البساطة واليسر، كما تؤكد تعاليم الإسلام يقول تعالى: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ )[20] .
اللهم بارك للمتزوجين وأسعد حياتهم وارزقهم ذريات صالحة، ويسر لجميع العزّاب أمور زواجهم، ووفق الجميع للخير والصلاح إنك أرحم الراحمين.
| |||
التعلیقات