زيارةُ الأربعين علامةُ الإيمان
دروس من واقعة الكربلاء
منذ 5 ساعاتزيارةُ الأربعين علامةُ الإيمان
في عالمٍ تتداخل فيه الأصوات وتتزاحم فيه العناوين، تبقى علامات الإيمان الحقيقية هاديةً لمن أراد النجاة، وصوتًا نقيًّا في ضجيج الحياة. إنها ليست مجرد طقوسٍ تُؤدى، بل هي إشاراتٌ عميقةٌ لهويّةٍ روحيّة، ترسم ملامح المؤمن في سلوكه وصلاته وزيارته وتعامله مع ربّه. وقد لخّص الإمام الحسن العسكري عليه السلام هذه الهوية في روايةٍ شريفةٍ أصبحت مناراً للعارفين، حيث قال:
« علامات المؤمن خمس : صلاة إحدى وخمسين ، وزيارة الأربعين والتختم باليمين وتعفير الجبين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم » (١).
فما معنى هذه العلامات؟ ولماذا كانت هي دون غيرها؟ وكيف يمكن للمؤمنة أن تجعلها طريقاً للنور واليقين في حياتها اليومية؟ هذا ما سنتأمله في هذا المقال الذي نهديه بمناسبة أربعين الإمام الحسين عليه السلام، تلك الذكرى التي تختصر كل معاني الولاء والصبر والإيمان.
أولًا: صلاة الإحدى والخمسين – قلب المؤمن النابض
الصلاة هي عمود الدين، وهي أول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة، كما ورد في الروايات. أما الإمام الحسن العسكري عليه السلام، فقد أشار إلى خصوصيّة عدد الركعات التي يصليها المؤمن، إذ قال: « صلاة إحدى وخمسين »، وهي مجموع الفرائض (17 ركعة) والنوافل اليوميّة (34 ركعة).
إن هذه الصلاة اليومية ليست مجرّد أداء حركي، بل هي غذاءٌ روحي، وتربيةٌ مستمرّة للنفس. النوافل، في خصوصها، تمثّل تعبيرًا عن حبّ العبد لله، وحرصه على القرب منه. وقد ورد في الحديث النبوي:
قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ : « قَالَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً فَقَدْ أَرْصَدَ لِمُحَارَبَتِي وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدٌ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا اِفْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَيَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّافِلَةِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ اَلَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ اَلَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَلِسَانَهُ اَلَّذِي يَنْطِقُ بِهِ وَيَدَهُ اَلَّتِي يَبْطِشُ بِهَا إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ كَتَرَدُّدِي عَنْ مَوْتِ اَلْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ اَلْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ » (٢).
في حياة المرأة المؤمنة، تصبح النوافل ملاذًا من التعب، وفسحةً في زحمة المسؤوليات، ومجالًا لتجديد الإيمان. فما أجمل أن تكون لحظات الصمت والخشوع بعد إنهاء الأعمال اليومية، لحظات للوقوف بين يدي الله، تطلب منه القوة والسكينة والرضا.
ثانيًا: زيارة الأربعين – الولاء الذي لا يموت
العلامة الثانية التي يشير إليها الإمام العسكري عليه السلام هي زيارة الأربعين، وهي زيارة الإمام الحسين عليه السلام في العشرين من صفر، أي بعد أربعين يومًا من شهادته في كربلاء.
وقد جاءت هذه العلامة في الرواية لتؤكد أن الإيمان ليس علاقةً فرديةً فقط مع الله، بل هو أيضًا ولاءٌ لأوليائه، وارتباطٌ بأئمّة الهدى الذين يُجسّدون الإسلام في أنقى صوره.
زيارة الأربعين، في حقيقتها، هي مدرسةُ وفاء، وموقفٌ تربوي. إنها لا تختصر في المشي نحو القبر الشريف، بل تعبّر عن مدى استعداد المؤمن للتضحية من أجل القيم، كما ضحّى الحسين. ولذلك نرى ملايين الزائرين، رجالًا ونساءً، شيبًا وشبانًا، يقطعون المسافات حبًا بالحسين، وطلبًا لنوره، وتجديدًا لعهد الولاء.
أوصى المرجع الديني الأعلى، السيد علي السيستاني، النساء اللواتي يشاركن في زيارة الأربعين بالالتزام بآداب معينة، منها الحفاظ على الستر والحجاب، والتزام الوقار والسكينة في المشي، والابتعاد عن كل ما ينافي قدسية المناسبة. كما أكد على أهمية استغلال هذه الزيارة في التقرب إلى الله تعالى من خلال العبادة والذكر، والابتعاد عن كل ما هو لغو أو كلام غير لائق.
فللمرأة المؤمنة، تمثّل الزيارة درسًا في الصبر، والكرامة، والوعي الديني. فهي حين تحمل أطفالها وتمشي في درب الأربعين، إنما تُربي الجيل القادم على الحبّ والالتزام.
ثالثًا: التختم باليمين – إشراقة الهوية الولائية
التختم باليمين، علامة ظاهريّة، لكنها تعكس انتماءً باطنيًّا. فقد اشتهر أئمة أهل البيت عليهم السلام بلبس الخاتم في اليد اليمنى، بخلاف غيرهم.
وفي الروايات، ورد أن النبي صلى الله عليه وآله كان يتختم في يمينه، وأن الإمام الصادق عليه السلام كان يوصي بذلك، لأنّ التختم باليمين من « علامات المؤمن »، ويعبّر عن الاتباع والاقتداء.
الخاتم في يد المرأة المؤمنة، لا يجب أن يكون مجرد زينة، بل عنوان ولاء. فاختيارها لخاتم يحمل عبارة ( يا حسين أو يا علي أو يا صاحب الزمان )، هو تعبير عن الحب، والانتماء، والرسالة التي تؤمن بها.
رابعًا: تعفير الجبين بالسجود – تواضع العارفين
من أجمل صور الإيمان، أن يلامس الجبينُ الأرض في لحظة السجود. والتعفير، يعني مباشرة الأرض بالجبهة دون حائل، أو باستعمال التربة الطاهرة كما هو في سُنّة الشيعة الإمامية.
هذه العلامة تعبّر عن خضوع العبد، وتواضعه المطلق أمام خالقه. فليس هنالك حركة أبلغ في الدلالة على الانكسار والتسليم من أن يُوضع أرفع مكان في الجسد (الجبهة) على الأرض.
في عالمٍ يكثر فيه التكبر والمظاهر، تأتي هذه العلامة لتقول: إنّ الإيمان الحقيقي في التواضع، في العبودية الخالصة، في الخضوع لمقام الربّ. والمرأة المؤمنة، حين تسجد، إنما تضع حجاب الكبرياء، وتتصل بالسماء من تراب الأرض.
خامسًا: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم – صوت الرحمة في قلب الدين
آخر العلامات في الرواية هي الجهر بـ « بسم الله الرحمن الرحيم » في الصلاة، وهي سُنّة مؤكدة عن أهل البيت عليهم السلام. وقد حرص الأئمة على الجهر بها، لما تحمله من دلالة على الرحمة الإلهيّة، وعلى بداية كل أمرٍ باسم الله.
إن الجهر بالبسملة في الصلاة ليس مسألة شكلية، بل هو تجلٍّ لروح العقيدة التي يؤمن بها أتباع أهل البيت عليهم السلام. إنها إعلان بأن الدين يبدأ باسم الله، ويستمر برحمته، وينتهي إليه.
للمرأة المؤمنة، فإنّ الجهر بالبسملة هو تربيةٌ للنفس على استحضار اسم الله في كل خطوة: في التربية، في الخدمة، في العمل، في الدراسة، في الزواج، في الحجاب. فهي تبدأ يومها، ووجبتها، وعملها، بكلمة بسم الله، لأنها تدرك أن البركة كلّها هناك.
مسألة شرعية
السؤال: هل الجهر في الصلاة واجب للرجال والنساء ؟
جواب سماحة السيد السيستاني:
يجب في قراءة الحمد والسورة على الاحوط للرجال في صلاة الصبح والمغرب والعشاء، ويجوز للنساء إن لم يكن بمسمع الاجنبي وإلا فالاحوط لها الاخفات فيما كان الاسماع محرماً كما إذا كان موجباً للريبة .
خاتمة:
خمس علامات قد تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها ترسم في الحقيقة خارطة طريقٍ للمؤمن الصادق. إنها تجمع بين القلب (الصلاة)، والجسد (السجود)، والهوية (الخاتم)، والولاء (الزيارة)، واللسان (الجهر بالبسملة). وهي ليست شعائر فحسب، بل معانٍ تُترجم في السلوك والعلاقة مع الله وأوليائه.
في زمنٍ يكثر فيه الخداع والادّعاء، تبقى هذه العلامات نورًا للمؤمنة التي تريد أن تسلك طريق الحق، وتربي أبناءها على الدين، وتبني مجتمعًا نقيًّا من الداخل.
فليكن هذا الأربعين الحسيني موعدًا للمراجعة، ولتجديد العهد مع هذه العلامات، ولجعلها مشعلًا يُضيء الدرب في ظلمات الدنيا.
والسلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين.
الأسئلة والأجوبة
السؤال 1: ما المقصود بـ« صلاة إحدى وخمسين » الواردة في علامات المؤمن؟
الجواب:هي مجموع الصلوات اليومية الواجبة (17 ركعة) والنافلة اليومية (34 ركعة)، أي أن المؤمن يُحيي يومه بـ 51 ركعة بين فرضٍ ونفل، تعبيرًا عن حبّه لله وتقربه إليه.
السؤال 2: لماذا اعتُبرت زيارة الأربعين من علامات الإيمان؟
الجواب: لأنها تعبّر عن عمق الولاء للإمام الحسين عليه السلام، وعن التمسك بخط أهل البيت، وهي ممارسة شعائرية تُجدد عهد المؤمن بالإمام وتُظهر استعداده للتضحية من أجل القيم التي ضحّى الحسين من أجلها.
السؤال 3: ما معنى « تعفير الجبين بالسجود » ؟
الجواب: هو وضع الجبهة على الأرض مباشرةً أو على تربة طاهرة أثناء السجود، وهو رمز للتواضع الكامل أمام الله، وخضوع المؤمن لمولاه بصدق وإخلاص.
السؤال 4: ما دلالة التختم باليمين في ثقافة أهل البيت عليهم السلام؟
الجواب: التختم باليد اليمنى هو من سنن النبي وأهل البيت عليهم السلام، ويُعد علامة ظاهرة على انتماء المؤمن إلى نهجهم، وتمسكه بهويتهم وسيرتهم.
1. كامل الزيارات/ لابن قولويه / الصفحة : ٣٢٥.
2. الكافي / للشيخ الكليني / المجلّد : ٢ / الصفحة ٥٣.
التعلیقات