الحياة العائلية في ضوء سيرة الإمام الرضا عليه السلام
السيد حسين الهاشمي
منذ 3 ساعاتمقدمة
قد أولى الإسلام عناية فائقة بالحياة العائلية، باعتبارها المجال الطبيعي لتنمية العواطف، وترسيخ المبادئ، وتحصين الفرد من الانحرافات السلوكية والفكرية. وفي هذا السياق، تبرز سيرة الأئمة المعصومين عليهم السلام، كنماذج عملية وتجسيد حيّ للمبادئ الإسلامية في الحياة الأسرية. ومن بين هؤلاء، يلمع اسم الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، الإمام الثامن من أئمة أهل البيت، الذي قدّم من خلال كلماته ومواقفه العائلية نموذجًا رفيعًا في التعامل الإنساني، والرعاية الأبوية، والاحترام المتبادل بين أفراد الأسرة.
كان للإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام خصوصية تميّزه عن سائر الأئمة عليهم السلام، إذ قبل ولاية العهد من طاغية عصره المأمون العباسي – لعنه الله – اضطرارًا لحفظ نفسه وأهل بيته من الغدر والقتل. ومن خلال هذا الموقع الاجتماعي استطاع أن يبلّغ صوته ويبيّن آراءه التي تمثّل الإسلام الأصيل لعامة الناس. ومن هنا تبرز أهمية التأمل في كلماته وأفعاله عليه السلام، لاستخلاص معالم الحياة الأسرية التي يدعمها الإسلام الحق والشريعة السمحاء. وبمناسبة اقتراب ذكرى استشهاده عليه السلام في اليوم الأخير من شهر صفر المظفر، ارتأينا أن نكتب إليكم لنقف سويًا عند محطات من سيرته وكلماته المضيئة.
الصبر في المشاكل العائلية
الحياة العائلية ليست دائمًا رحلة هادئة، بل تمرّ أحيانًا بأمواج من الخلافات والتوترات، نتيجة لاختلاف الطبائع، وضغوط الحياة اليومية، وتراكمات المشاعر غير المعبَّر عنها. لكن من بين القيم الأخلاقية التي أوصى بها الإسلام لمعالجة هذه التحديات، يبرز الصبر كقيمة جوهرية، قادرة على احتواء النزاعات، وإعادة التوازن إلى العلاقات الأسرية. فقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ (1). فالصبر في المشاكل العائلية ليس خضوعًا سلبيًا أو تنازلًا دائمًا، بل هو وعي، وحكمة، وضبط للنفس، يمنع الانهيار في لحظة انفعال، ويؤسس لحوار ناضج يقوم على الاحترام والمودة.
العلاقة الزوجية تتطلب صبرًا متبادلًا لتجاوز الاختلافات في الرأي أو المزاج والصعوبات الاقتصادية أو الاجتماعية والتحديات التربوية المشتركة للأبناء. ولهذا قال الإمام الرضا عليه السلام: « لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون فيه ثلاث خصال : سنة من ربه ، وسنة من نبيه وسنة من وليه ، فالسنة من ربه كتمان سره قال الله عزوجل: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول. وأما السنة من نبيه فمدارة الناس فان الله عزو جل أمر نبيه بمداراة الناس قال: خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين. وأما السنة من وليه فالصبر على البأساء والضراء ، فان الله عزوجل يقول: والصابرين في البأساء والضراء » (2). فمداراة الناس والصبر تشمل الصبر والمداراة في المشاكل العائلية.
الإحترام المتبادل في المنزل
الاحترام المتبادل يعني تقدير كل فرد داخل الأسرة لحقوق الآخر ومشاعره ومكانته والإصغاء إلى الطرف الآخر دون استهزاء أو تقليل من رأيه ومراعاة الحساسيات الشخصية، والخصوصيات، والحدود السلوكية.
الزواج الناجح لا يقوم على الحب فقط، بل على الاحترام العميق الذي يحفظ الكرامة ويصون العلاقة عند كل خلاف.
الاحترام لا يُمنح فقط من الأبناء للوالدين، بل يجب أن يكون متبادلاً. فكما يحتاج الأبناء إلى تأديب وتوجيه، يحتاجون أيضًا إلى الشعور بأن رأيهم مسموع وأن يُعاملوا بلغة راقية غير مهينة وأن تُحترم مشاعرهم وخصوصياتهم، خاصة في مرحلة المراهقة. ولهذا روي عنه عليه السلام: « رحم الله امرءا أعان والده على بره ، رحم الله والدا أعان ولده على بره » (3).
الصراعات بين الإخوة طبيعية، لكن تعويدهم على لغة الاحترام منذ الصغر يحول الخلاف إلى فرصة للتعلم، وليس إلى خصومة دائمة. إنّ احترام الإخوة لبعضهم يهيئ لعلاقة داعمة في المستقبل، ويغرس بذور المحبة الحقيقية التي تدوم بعد غياب الوالدين. لهذا قال الإمام الرضا عليه السلام: « الاخ الاكبر بمنزلة الاب » (4).
المراقبة على الأولاد
الطفل أمانة إلهية في أعناق والديه، وقد حمّل الإسلام الأبوين مسؤولية عظيمة تبدأ منذ اللحظة الأولى لولادة الطفل، بل وقبل ذلك في كثير من التوجيهات الدينية. حيث قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ (5). لعلّ من أهم أبعاد هذه المسؤولية هي المراقبة المستمرة والتوجيه الذكي منذ السنوات الأولى للحياة، وهي مرحلة تُشكّل فيها ملامح الشخصية، وتترسخ القيم، وتُزرع البذور الأولى للوعي والسلوك. فليست التربية الناجحة مجرّد استجابة لمشاكل الأبناء عندما يكبرون، بل هي استباقية وبصيرة تربوية تبدأ من المهد، تقوم على المراقبة الحانية، لا التجسس، وعلى الرعاية الهادفة، لا التحكم.
تشير الدراسات النفسية والقرآنية والروائية إلى أن السنوات الأولى من حياة الطفل هي الأكثر تأثيرًا في تكوينه العقلي والعاطفي. وقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ (6). وهذا يشير إلى أنّ أدوات التعلّم والإدراك تبدأ منذ الولادة، ومن هنا تأتي أهمية المراقبة والمتابعة الدقيقة منذ اللحظة الأولى. وهذا ما نشاهده في أفعال الإمام الرضا عليه السلام. فقد روت السيدة حكيمة بنت الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: « ما حضرت ولادة الخيزران ام أبي جعفرعليه السلام دعاني الرضا عليه السلام فقال: ياحكيمة احضري ولادتها وادخلي وإياها والقابلة بيتا، ووضع لنا مصباحا وأغلق الباب علينا، فلما أخذها الطلق طفئ المصباح وبين يديها طست ، فاغتممت بطفئ المصباح ، فبينا نحن كذلك إذ بدر أبو جعفر عليه السلام في الطست وإذا على شئ رقيق كهيئه الثوب يسطع نوره حتى أضاء البيت ، فأبصرناه ، فأخذته فوضعته في حجري ، نزعت عنه ذلك الغشاء فجاء الرضا عليه السلام وفتح الباب وقد فرغنا من أمره ، فأخذه ووضعه في المهد وقال لي : ياحكيمة الزمي مهده » (7).
حسن الظن بالله والتوكل عليه
تمر الحياة الأسرية بالكثير من التحديات والمواقف التي تختبر صبر الإنسان وتوازنه النفسي والعاطفي. في خضم هذه المتغيرات، تظهر حاجتنا إلى ركيزتين روحيتين تُعيدان الاستقرار إلى النفوس، وتمنحان القلوب سكينة ويقينًا: حسن الظن بالله والتوكل عليه. فهما ليسا مجرد مفاهيم دينية، بل أدوات عملية تُحسن من جودة الحياة الأسرية، وتضبط الانفعالات، وتُنعش روح الأمل في البيت.
في أوقات الشدة الأسرية، من فقر، أو مرض، أو مشاكل مع الأبناء، أو توتر بين الزوجين، قد يشعر الإنسان بالإحباط أو الفشل. وهنا، يكون حسن الظن بالله كالنور في النفق، يُعيد الأمل، ويمنع الانهيار، ويحث على الصبر. الأبناء يتأثرون بمشاعر أهلهم: فإن كان البيت مليئًا بالخوف من الغد، والتشكي المستمر، فإنهم يفقدون الثقة بأنفسهم وبالحياة. لكن حين يرى الطفل والدَيه يذكران الله، ويدعوانه بثقة، ويحمدان على كل حال، فإن ذلك يُنشئه على التفاؤل واليقين. ولذا كان الإمام الرضا عليه السلام يقول: « أحسن الظن بالله، فان الله عز وجل يقول: أنا عند ظن عبدي المؤمن بي إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا. من حسن ظنه بالله كان الله عند ظنه به، ومن رضي بالقليل من الرزق قبل منه اليسير من العمل. ومن رضي باليسير من الحلال خفت مؤونته ونعم أهله وبصره الله داء الدنيا ودواءها و أخرجه منها سالما إلى دار السلام » (8). ويؤيده ما روي عن جدّه أميرالمؤمنين عليه السلام: « الإيمان أربعة أركان: الرضا بقضاء الله والتوكل على الله وتفويض الأمر إلى الله والتسليم لأمر الله » (9).
هذه كانت جملة من الحكم والأقوال والأفعال الواردة عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام حول الحياة الأسرية. أرجوا أن يرزقنا الله سبحانه وتعالى في الدنيا زيارته وفي الآخرة شفاعته.
1) سورة البقرة / الآية: 153.
2) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 75 / الصفحة: 417 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 2.
3) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 74 / الصفحة: 65 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 2.
4) تحف العقول (لإبن شعبة الحراني) ، المجلد: 1 / الصفحة: 442 / الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي – قم / الطبعة: 2.
5) سورة الكهف / الآية: 46.
6) سورة النحل / الآية: 78.
7) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 50 / الصفحة: 10 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 2.
8) تحف العقول (لإبن شعبة الحراني) ، المجلد: 1 / الصفحة: 449 / الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي – قم / الطبعة: 2.
9) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 72 / الصفحة: 333 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 2.
التعلیقات