الإمام الحسن العسكري: دروس في الاقتصاد وتجنّب الإسراف
الاسرة في الاسلام
منذ يومينالاقتصاد في المعيشة مبدأ أساسيّ في حياة الإنسان، إذ يقوم على حسن التدبير، وترشيد الموارد، وتحقيق التوازن بين الحاجات والإمكانات. وفي المقابل، يُعَدُّ الإسراف آفةً خطيرة تهدد استقرار الفرد والأسرة والمجتمع، لما فيه من تبديد للمال، وضياع للموارد، وخلل في ميزان الحياة. وقد جاءت الشريعة الإسلامية لتضع القاعدة الذهبية التي تجمع بين الاقتصاد والاعتدال، وتُحذِّر من الإسراف والتبذير. فقد قال الله تبارك وتعالى حول الاسراف والتبذير والاقتصاد: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ... وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ﴾ (1). هذه الآية الشريفة تبيّن لنا مدى أهمية الاقتصاد في جميع الجهات العائلية والاجتماعية. فالذي ينتبه أن لايسرف ولايقترف ويعيش في الطريق الوسط، جعل الله سبحانه وتعالى الليل والنهار خلفة له.
وفي هذا المجال قال الإمام الحسن العسكري عليه السلام: « وعليك بالاقتصاد وإيّاك والإسراف فإنّه من فعل الشيطنة » (2). ولمناسبة ذكرى استشهاد الإمام الحسن العسكري عليه السلام قررنا أن نكتب لكم عن الاسراف والاقتصاد خصوصا في الحياة العائلية.
تعريف الاقتصاد والاسراف
الاقتصاد في اللغة هو الاعتدال والتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط. قال إبن الأثير في النهاية: « الاقتصاد هو الاعتدال، والمعتدل هو الذي لا يميل إلى أحد طرفي التفريط والإفراط » (3). وفي الحياة اليومية يعني حسن إدارة الموارد، والإنفاق وفق الحاجة دون إسراف أو بخل.
والاسراف في اللغة هو التعدي عن الحدّ. فقد جاء في لسان العرب: « الاسراف هو التعدّي عن الحدّ، ومجاوزة القصد كالإسراف في إنفاق المال من غير اعتدال » (4). وفي الاصطلاح عبارة عن تجاوز الحد في الإنفاق، سواء في الطعام أو الشراب أو الكساء أو غيرها من مظاهر الحياة، بحيث يتجاوز الإنسان حاجته ويهدر النعمة.
الآثار السلبية للاسراف
إنّ للإسراف آثارًا سلبية تطال الفرد والأسرة والمجتمع معًا، فهو لا يضرّ بالإنسان نفسه فحسب، بل ينعكس أيضًا بشكل سيّئ على من حوله داخل الأسرة وفي المجتمع. لذلك ينبغي لنا أن نتجنب هذه العادة السيئة، لما لها من انعكاسات خطيرة علينا وعلى الآخرين.
آثاره السلبية على المستوى الفردي
للاسراف آثار سلبية على المستوى الفردي للشخص المسرف. فمن الآثار ضياع المال فيما لا فائدة فيه. فالشخص المسرف يعمل طوال حياته حتى يجني أموالا ثمّ يصرفها في الأمور الغير الصحيحة وبهذا تضيّع أعماله. ومن الآثار تعويد النفس على الترف الزائد مما يورث القلق عند فقدان الإمكانات. ومنها إضعاف روح المسؤولية تجاه الموارد.
آثاره السلبية على المستوى الأسري
منها تفكك العلاقات الأسرية بسبب الضغوط المالية الناتجة عن التبذير. فإن الاسراف والتبذير يسبب بالطبع بضياع المال الذي ينتج بالضغوط المالية. وهذا الأمر يسبب بأثر آخر وذلك زيادة النزاعات بين الأزواج حول إدارة المصروفاتوفي نهاية المطاف، فإن أخطر الآثار التي لا يمكن التغاضي عنها هي تربية الأبناء على عادات استهلاكية غير مسؤولة؛ إذ إن بناء شخصية الأبناء يبدأ من داخل الأسرة، ويتأثر بسلوك الأبوين وأعمالهما اليومية.
آثاره السلبية على المستوى الاجتماعي
من هذه الآثار السلبية، اتساع الفجوة بين الطبقات نتيجة تفاوت مظاهر البذخ والفقر وتراجع التكافل الاجتماعي بسبب انشغال الناس بالمظاهر وهدر الموارد العامة مما يضر بالتنمية الاقتصادية للمجتمع.
الاقتصاد مبدأ محوري في الثقافة الإسلامية
الثقافة الإسلامية جعلت الاقتصاد والوسطية نهجًا عامًا للحياة، فليس الاقتصاد مجرد خيار اقتصادي، بل هو عبادة وامتثال لأمر الله تعالى. فقد ورد في القرآن الكريم:﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ (5). وقد قال أميرالمؤمنين عليه السلام حول المتقين حين وصف المتقين في خطبته للهمام: « وَمَلْبَسُهُمُ الاْقْتِصَادُ » (6). فكأنّ المتقين يهتمون بالاقتصاد بحيث أنهم يجعلونه كاللباس الملاصق لهم.
رواية الإمام العسكري عليه السلام
قال الإمام الحسن العسكري عليه السلام: « وعليك بالاقتصاد وإيّاك والإسراف فإنّه من فعل الشيطنة » (7). الإمام يأمرنا بأن نهتمّ بالاقتصاد ويحذّرنا من الاسرافويشير الإمام عليه السلام إلى أن الإسراف ليس مجرد سلوك مذموم اجتماعيًا، بل جذره من وساوس الشيطان؛ فهو يزيّنه للإنسان ليخرجه عن طريق الاعتدال. وبذلك يصبح الإسراف مظهرًا عمليًا من مظاهر الشيطنة، إذ يحجب الإنسان عن شكر النعم، ويغريه بالمظاهر والتفاخر، ويجرّه من الغنى إلى الفقر، ويُفسد قلبه بالتعلّق الزائد بالماديات.
الإنسان المتوازن في إنفاقه يكتسب راحة البال، ويعيش بلا قلق من الفقر أو الحاجة. الاقتصاد يحقق استقرارًا أسريًا، ويمنع الخلافات المالية، بينما الإسراف يولّد النزاعات. حين يسود الاقتصاد والاعتدال، تُحفظ الموارد، وتُصان العدالة الاجتماعية. أما الإسراف فيؤدي إلى أزمات اقتصادية واجتماعية.
في عالمنا المعاصر، باتت ثقافة الاستهلاك تهيمن على حياة الناس. فالإعلانات ووسائل الإعلام ومواقع التواصل وصناعة الموضة تدفع الإنسان إلى شراء ما يزيد عن حاجته الفعلية. وهنا يتجلّى توجيه الإمام عليه السلام بقوله: وعليك بالاقتصاد، أي ضرورة الوعي في إدارة الحاجات، والابتعاد عن فخ الاستهلاك المفرط.
كثير من الأسر تنفق أموالًا طائلة على المظاهر، سواء في الأعراس والمناسبات، أو في تزيين البيوت، أو في المظاهر الكمالية، لمجرّد المباهاة والمنافسة الاجتماعية، حتى ولو كان ذلك فوق طاقتهم. والإمام عليه السلام يحذّرهم. فيقول لهم إنّ هذه المظاهر الزائدة ليست سوى وساوس شيطانية تدمّر الاستقرار الأسري والمالي.
التأييد القرآني
هذه الرواية الشريفة تأكيد لما جاء في القرآن الكريم: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ﴾ (8). هذا المبدأ القرآني في الوسطية هو نفسه الذي شدّد عليه الأئمة عليهم السلام. فكما نهى القرآن عن التبذير، بيّن الإمام أن الإسراف من وسائل الشيطان لإفساد حياة الإنسان، بإغرائه بالإنفاق فيما لا ينفع.
الروايات الأخرى المؤيدة لهذه الرواية
هذه الرواية ليست من الروايات الشاذة المطروحة بل مضمونها موجود في الروايات الأخرى المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام. وهذا الأمر أيضا يوضّح لنا مدى أهمية الاقتصاد في العائلة والأسرة والحياة الأسرية. لهذا نذكر البعض من هذه الروايات.
رواية أميرالمؤمنين عليه السلام
قال أميرالمؤمنين عليه السلام في احد خطبه المروية في نهج البلاغة لمّا عوتب على تصييره الناس أسوة في العطاء من غير تفضيل إلى السابقات والشرف: « أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ ... أَلاَ وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهَ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ » (9).
يبيّن أميرالمؤمنين عليه السلام نقطة حساسة لنا وهي أن الاسراف ليس مجرد صرف المال الكثير. بل إنّ صرف أيّ مال في غير محله وغير حقه، تبذير واسراف. إنفاق مبالغ طائلة على الحفلات، الأعراس، الزينة، أو شراء الكماليات الفاخرة، كلّها أمثلة لإنفاق المال في غير حقّه. هذه الموارد لو وُجِّهت إلى مشاريع تنموية أو إعانة الفقراء لكان لها أثر اجتماعي عظيم. كثير من الناس يُسرفون في مظاهر الترف، لكن إذا طُلب منهم الإنفاق على الفقراء أو المساهمة في الأعمال الخيرية، اعتذروا بالعجز.
رواية الإمام الصادق عليه السلام
قال الإمام الصادق عليه السلام عندما سأل عن أدنى الاسراف: « ابتذالك ثوب صونك، وإهراق فضل إنائك، وأكلك التمر ورميك بالنوى هيهنا وهيهنا » (10). إهراق فضل الإناء أي سكب ما تبقّى من الشراب أو الماء في الإناء دون حاجة. ابتذال ثوب الصون أي إتلاف الثوب أو إهماله مع قدرته على أن يُستخدم. إلقاء النوى أي رمي نوى التمر مثلًا بدلًا من الانتفاع به. فعندما تكون هذه الأمور البسيطة في أذهاننا من الاسراف، فكيف بالأمور الأكبر. فمثلا عندما تطبخ الزوجة طعاما للأسرة ويتبقى منه شيئا، يمكننا أن نحتفظ به في الثلاجة حتى نستخدمه لاحقا أو نعطي الطعام للفقير بدلا من رميه في النفايات. وأيضا ليس من الضروري أن نشتري في كلّ مدة لباسا جديدا بل يمكننا أن نستعمل الألبسة التي عندنا. وأيضا على الآباء والأمهات أن يعلّموا أولادهم هذه الأمور حتى يتربوا على هذه القيم والثقافات الأصيلة الإنسانية والإسلامية.
النتيجة
يُعَدّ الاقتصاد والابتعاد عن الإسراف من الأصول المهمة في الأخلاق الإسلامية. فالاعتدال في الإنفاق والحياة اليومية يعكس احترام النعم، ويُعزز توازن الفرد في حياته الشخصية والاجتماعية، كما يحقّق الانسجام مع القيم الدينية.
إن الإسراف ليس مجرد تصرف مالي خاطئ، بل هو نتيجة وسوسة الشيطان الذي يسعى لإفساد حياة الإنسان وإضاعة النعم.
الاقتصاد والاعتدال في حياة الأسرة والمجتمع ليس مجرد سلوك مالي، بل هو قيمة أخلاقية ودينية أساسية، تحفظ الإنسان من الإسراف، وتحقق البركة والاستقرار، وتؤسس مجتمعًا متوازنًا وعادلاً.
1) سورة الفرقان / الآية: 62 و 67.
2) سفينة البحار (الشيخ عباس القمي) / المجلد: 4 / الصفحة: 133 / الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر – قم / الطبعة: 1.
3) النهاية (لإبن أثير) / المجلد: 4 / الصفحة: 67 / الناشر: المكتبة العلمية – بيروت / الطبعة: 1.
4) لسان العرب (لإبن منظور) / المجلد: 6 / الصفحة: 243 / الناشر: نشر دار صادر – بيروت / الطبعة: 2.
5) سورة الأعراف / الآية: 31.
6) نهج البلاغة (للسيد الشريف الرضي) / المجلد: 1 / الصفحة: 478 / الناشر: مؤسسة آل البيت – قم / الطبعة: 1.
7) سفينة البحار (الشيخ عباس القمي) / المجلد: 4 / الصفحة: 133 / الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر – قم / الطبعة: 1.
8) سورة الإسراء / الآية: 29.
9) نهج البلاغة (للسيد الشريف الرضي) / المجلد: 1 / الصفحة: 285 / الناشر: مؤسسة آل البيت – قم / الطبعة: 1.
10) وسائل الشيعة (للشيخ حرّ العاملي) / المجلد: 3 / الصفحة: 374 / الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت / الطبعة: 1.
التعلیقات