آداب الجيران ومراعاة حالهم
السيد حسين الهاشمي
منذ 6 ساعاتإنّ الحياة مع الآخرين ليست مجرد بيوت متجاورة أو جدران متلاصقة، بل هي فضاء رحب لصناعة عالم تغمره السكينة والمحبّة ويضيئه نور الله. وأنتنّ أيتها النساء المسلمات بما تحملنه من رسالة عظيمة في إضفاء الدفء على البيوت وتربية الأجيال، قادرات على تحويل مفهوم الجوار إلى رسالة إيمانية تشرق بها القلوب وتزدان بها الأحياء.
فالجوار في الثقافة الإسلامية ليس مجرّد وصيّة أخلاقية، بل هو جسر من الرحمة والاحترام يصل بيوتنا بقلوب جيراننا. جسرٌ إذا عُمّر بالمودّة وحُسن التعامل ورعاية الحقوق، غمر الأسرة بالأمان، والمجتمع بالوحدة، والقلوب بالطمأنينة. إنّ كل ابتسامة صادقة نمنحها لجار، وكل كلمة طيبة أو مساعدة في ساعة ضيق، هي عبادة صامتة تُقرّبنا من الله وتزيدنا نوراً وصفاءً. فالحديث عن آداب الجيران ليس حديثاً عن سلوكيات فردية فحسب، بل هو أساس لبناء مجتمع متماسك، تسوده الألفة وتنتفي منه الضغائن، ويصبح كل بيت فيه امتداداً للبيت الآخر، يربطهم جميعاً ميثاق الأخوّة والرحمة.
وقد اقتربت مناسبة ميلاد الإمام الحسن العسكري عليه السلام وهو الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام وهو أبو الإمام المهدي صاحب العصر والزمان أرواحنا لتراب مقدمه الفداء. ولد الإمام الحسن العسكري عليه السلام في يوم الثامن من شهر ربيع الثاني سنة 231 للهجرة في المدينة المنورة على المشهور. وكان من كلماته الشريفة الخالدة مدى التاريخ: « من الفواقر التي تقصم الظهر جارٌ إن رأى حسنة أخفاها وإن رأى سيئة أفشاها » (1). والفواقر جمع فاقرة أى الداعية العظيمة فكأنها تكسر فقر الظهر. بهذه المناسبة قررنا أن نكتب لكم حول آداب الجيران ومراعاة حالهم. فإن الإمام يوضح لنا هذه المعاني أنّ الجار السيء من الأمور التي تكسر الظهر.
الجيران في آيات القرآن
القرآن الكريم كتاب هداية وتشريع، لم يترك جانباً من جوانب الحياة إلا وأرشد إليها، ومنها علاقة الإنسان بجيرانه. فقد اعتنى الإسلام بالجوار عناية عظيمة، وعدّ حقّ الجار من أسمى الحقوق الاجتماعية، لما له من أثر مباشر في تحقيق السكينة بين الناس، وبناء مجتمع متماسك تسوده الرحمة والتعاون. ولهذا وردت آية تؤكد على حقوق الجيران وهي الآية الشريفة: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴾ (2). هذه الآية العظيمة تعدّ من أوضح النصوص القرآنية التي بيّنت مكانة الجار ووجوب الإحسان إليه. فقد قرن الله حقّ الجار بعبادته سبحانه وتعالى وتوحيده، وبحقّ الوالدين وذوي القربى، ممّا يدل على عِظم شأنه. فمن الواضح أنّ حق الوالدين حقّ عظيم لايمكن لأحد إنكاره. فحقّ الجار أيضا كذلك يجب أن يتنبه جميع المسلمين إلى هذا الأمر. ولايتوهم أحد أن هذه المنزلة العظيمة للجيران من الأمور المبالغة فيها. فإنّ هذا الحق قد ورد في وصية أمير المؤمنين عليه السلام بعبارة بليغة عجيبة، ونحن نعلم أنّ كلام المعصومين عليهم السلام صادرٌ عن مصدرٍ إلهي رفيع، ولا سيما إذا كان ذلك في وصاياهم التي تختزن خلاصة حكمتهم وميراثهم الروحي. فقد قال أميرالمؤمنين عليه السلام: « اللَّهَ اللَّهَ فِي جِيرَانِكُمْ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله أَوْصَى بِهِمْ وَ مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ » (3).
أقسام الجار بحسب الآية الشريفة والروايات
وقد ورد في الآية الشريفة ذكر قسمين من الجار، ومن المهم أن نبيّن هذين القسمين توضيحًا وبيانًا.
القسم الأول الجار ذو القربى. وهو الجار القريب نسباً أو ديناً أو مكاناً. فيستحق بذلك حقّين: حقّ القرابة وحقّ الجوار. القسم الثاني الجار الجُنُب. وهو الجار الذي ليس بينك وبينه قرابة نسباً أو ديناً، لكن حقّ الجوار ثابت له بوصية الله تعالى. فيمكن أن ننقسم الجيران إلى أقسام متعددة قد عدّها الشيخ الطبرسي في تفسير هذه الآية حيث قال: « والجار ذي القربى والجار الجنب قيل: معناه الجار القريب في النسب، والجار الأجنبي الذي ليس بينك وبينه قرابة، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد. وقيل: المراد به الجار ذي القربى منك بالاسلام، والجار الجنب: المشرك البعيد في الدين. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: الجيران ثلاثة: جار له ثلاثة حقوق: حق الجوار، وحق القرابة، وحق الاسلام. وجار له حقان: حق الجوار وحق الاسلام. وجار له حق الجوار: المشرك من أهل الكتاب » (4).
فضيلة مراعاة حال الجيران والإحسان إليهم
هناك روايات كثيرة حول ثواب الإحسان إلى الجيران ومراعاة حالهم حتى أنه ورد في الروايات أنّ هذا الأمر من علامات الإيمان. فقد رود عن الإمام الرضا عليه السلام: « الْمُؤْمِنُ الَّذِي إِذَا أَحْسَنَ اسْتَبْشَرَ وَ إِذَا أَسَاءَ اسْتَغْفَرَ وَ الْمُسْلِمُ الَّذِي يَسْلَمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَ يَدِهِ. لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ » (5). والمراد ب (ليس منّا) أن هذا الشخص المسيء إلى جاره ليس من شيعتنا فليس من المؤمنين.
ومن آثاره الزيادة في الأعمار والديار. وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: « حُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرُ الدِّيَارَ وَ يَزِيدُ فِي الْأَعْمَارِ » (6).
وقد روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: « من مات وله جيران ثلاثة كلّهم راضون عنه غفر له » (7).
حقوق الجيران في الروايات الشريفة
حينما نراجع الروايات المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام هناك روايات عجيبة حول حقوق الجيران على كلّ المؤمنين. حتى ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: « حرمة الجار على الجار كحرمة أُمّه » (8).
وأيضا ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في عاقبة الذي يؤذي جاره: « ملعون ملعون من آذى جاره » (9). وأيضا ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: « من آذى جاره بقتار(10) قدره فليس منّا. من خان جاره بشبر من الأرض ، طوقه الله يوم القيامة إلى الأرض السابعة ، حتّى يدخل النار » (11).
وأيضا ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام: « قِيلَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ قَالَ: نَعَمْ، بِرُّ الرَّحِمِ إِذَا أَدْبَرَتْ، وَ صِلَةُ الْجَارِ الْمُسْلِمِ، فَمَا أَقَرَّ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَ جَارُهُ الْمُسْلِمُ جَائِعٌ » (12).
سيرة أهل البيت عليهم السلام حول الجيران
هناك روايتان جميلتان حول سيرة مولاتنا فاطمة الزهراء سلام الله عليها في الجيران. فمن الجميل أن نذكرهما كي نعتبر منها ونجعلها قدوة لنا. الرواية الأولى من الإمام الحسن المجتبى عليه السلام أنه قال: « رَأَيْتُ أُمِّي فَاطِمَةَ قَامَتْ فِي مِحْرَابِهَا لَيْلَةَ جُمُعَتِهَا فَلَمْ تَزَلْ رَاكِعَةً سَاجِدَةً حَتَّى اتَّضَحَ عَمُودُ الصُّبْحِ، وَ سَمِعْتُهَا تَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ وَ تُسَمِّيهِمْ وَ تُكْثِرُ الدُّعَاءَ لَهُمْ، وَ لَا تَدْعُو لِنَفْسِهَا بِشَيْءٍ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّاهْ لِمَ لَا تَدْعِينَ لِنَفْسِكِ كَمَا تَدْعِينَ لِغَيْرِكِ، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ الْجَارَ ثُمَّ الدَّارَ » (13). والرواية الثانية من الإمام الكاظم عليه السلام أنه قال: « كَانَتْ فَاطِمَةُ إِذَا دَعَتْ تَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَ لَا تَدْعُو لِنَفْسِهَا، فَقِيلَ لَهَا يَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ إِنَّكِ تَدْعِينَ لِلنَّاسِ وَ لَا تَدْعِينَ لِنَفْسِكِ، فَقَالَتِ الْجَارَ ثُمَّ الدَّارَ » (14).
الأبعاد الاجتماعية والتربوية
يُعدّ الجوار من أهم أسس بناء المجتمع المتماسك. ولا يقتصر أثر الجوار على العلاقات الفردية، بل يتعداها ليؤثر في البنية الاجتماعية والتربوية للمجتمع بأسره.
البعد الاجتماعي للجوار
تقوية الروابط الإنسانية
حسن التعامل مع الجار يخلق بيئة يسودها التعاون والتكافل، ويخفف من حدة النزاعات والخلافات اليومية. وأيضا يشكّل الجوار سداً منيعاً أمام التفكك الاجتماعي، إذ يصبح الجيران كالأهل يساند بعضهم بعضاً في الأزمات.
تحقيق الأمن والاستقرار
الجار الصالح مصدر أمان للحيّ بأكمله، فهو العين الساهرة التي تحرس الغائب، واليد التي تبادر إلى المساعدة عند الحاجة. وكذلك انتشار ثقافة حسن الجوار يشيع الطمأنينة، ويحدّ من الجريمة أو التعدي، لأن الجميع يراقب الجميع بروح المحبة لا العداء.
البعد التربوي للجوار
تنمية القيم الأخلاقية
تربية الأبناء على احترام الجار وحفظ حقوقه تغرس فيهم قيم الرحمة والعدل. فإن الأطفال يتعلمون من تعامل والديهم مع الجيران، فينشؤون على التعاون لا الأنانية.
تعزيز روح المسؤولية
الجوار يربي الفرد على تحمّل المسؤولية تجاه الآخرين، فلا يعيش بمعزل عن محيطه. هذه المسؤولية تغرس في النفس الشعور بالانتماء والحرص على الصالح العام.
إنّ للجوار في المجتمع الإسلامي أبعاداً اجتماعية وتربوية عميقة، فهو ليس مجرّد علاقة سطحية، بل أساس لبناء مجتمع متآزر متراحم، ينهض بقيمه وأخلاقه. فإذا وُفِّق المسلمون إلى الالتزام بآداب الجوار، نشأت أجيال تربّت على الإحسان والمسؤولية، وتحوّلت الأحياء والقرى والمدن إلى أسر متماسكة يظللها السلام الاجتماعي والسكينة الإيمانية.
هذه كانت جملة من الآيات والروايات والأمور الاجتماعية حول الجيران ومراعاة حالهم التي أوردناها في ذيل كلام الإمام العسكري عليه السلام. أتمنى لكم حياة جميلة مع جيران جيدين.
1) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 78 / الصفحة: 372 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 2.
2) سورة النساء / الآية: 36.
3) الكافي (لمحمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: 7 / الصفحة: 51 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: 4.
4) مجمع البيان في تفسير القرآن (للشيخ الطبرسي) / المجلد: 3 / الصفحة: 83 / الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت / الطبعة: 1.
5) عيون أخبار الرضا (للشيخ الصدوق) / المجلد: 2 / الصفحة: 24 / الناشر: منشورات جهان – طهران / الطبعة: 1.
6) الكافي (لمحمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: 2 / الصفحة: 667 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: 4.
7) مستدرك الوسائل (للمحدث النوري) / المجلد: 8 / الصفحة: 422 / الناشر: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث – قم / الطبعة: 1.
8) مستدرك الوسائل (للمحدث النوري) / المجلد: 8 / الصفحة: 422 / الناشر: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث – قم / الطبعة: 1.
9) مستدرك الوسائل (للمحدث النوري) / المجلد: 8 / الصفحة: 422 / الناشر: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث – قم / الطبعة: 1.
10) القُتار : ريح القدر والشواء ونحوهما عند وضعه على النار.
11) مستدرك الوسائل (للمحدث النوري) / المجلد: 8 / الصفحة: 422 / الناشر: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث – قم / الطبعة: 1.
12) الأمالي (للشيخ الطوسي) / المجلد: 1 / الصفحة: 520 / الناشر: دار الثقافة – قم / الطبعة: 1.
13) علل الشرايع (للشيخ الصدوق) / المجلد: 1 / الصفحة: 182 / الناشر: منشورات المكتبة الحيدرية – النجف الأشرف / الطبعة: 1.
14) علل الشرايع (للشيخ الصدوق) / المجلد: 1 / الصفحة: 182 / الناشر: منشورات المكتبة الحيدرية – النجف الأشرف / الطبعة: 1.
التعلیقات