عقليات صغارنا قد تنذر بالخطر
عقيلة آل حريز
منذ 16 سنةغدير فتاة صغيرة، طفلة عادية في أولى مراحلها الدراسية، لعل ما يجعلني أخصها بالحديث عن غيرها هو عقلية تجارية غريبة تمتلكها وتثير الدهشة من حولها، وهي من خلالها تمثل نموذجاً لكثيرات وكثيرين في سنها من أطفالنا، والعقل التجاري وحده صفة محمودة لو كانت تنمو بشكل جيد عند صغارنا، ويمكننا الاطمئنان إلى أين سيأخذهم هذا العقل، فمرحلة الطفولة فترة هامة في حياة الإنسان وتلتصق بها كل ما يتعلمه الطفل من معارف ويتأثر به من خبرات ويمارسه من سلوكيات قد تبدو في مجملها مقبولة لأول وهلة.
لكن غدير التي لا تكاد تتجاوز عامها السابع تفكر وتخطط بشكل مثير للحصول على المكاسب المادية والأرباح المضاعفة السهلة من مصروفها العادي، تتجه به غدير إلى المكتبة لتشتري أشياء تدرك أنها تثير زميلاتها منذ الصباح الباكر أو مساءاً إن لم يسعفها الوقت، وبأسعار رخيصة، لتبيعها على زميلاتها بضعف السعر، وحتى هذه المرحلة لا توجد مشكلة معينة في حديثي عنها، فموهبة التجارة والقدرة على الأخذ والرد والتخطيط أمر جيد بحد ذاته وقد يكون مبشراً بمردود واسع مستقبلاً، لكن الطفلة غدير تتحرك وفق عقليتها الصغيرة دون علم أحد أفراد أسرتها ودون الرجوع لأحد في مشاريعها، ولعلها أيضاً غير خاضعة لرقابة أسرتها ولا لملاحظاتهم، فهي تطرق بيوت زميلاتها في الفصل ظهراً وعصر وأحياناً ليلاً دون علم أسرتها بتحركاتها، إنها تمتلك استقلالية صغيرة تتناسب مع إدارتها المالية... لكن هناك مزيداً من الأسئلة تطرق أبواب تفكيرنا معها، هل هذه العقلية منظمة ومأمونة لنرحب بها تنمو بلا ملاحظات أو توجيه ومراقبة؟، وهل هي بوادر مؤشرة لتجارة مستقبلية تبشر بالخير؟، هل هي أمر ايجابي مبرئ من الخضوع للملاحظات الدقيقة والمتابعة المستمرة؟، أم أنها تشكل مشكلة قد تكون خطيرة لبدايات ضياع طفلة صغيرة إن لم يُحسن الأهل التعامل معها وتنظيمها لها؟. قد يبدو غريباً أمرها حين يسألنها أمهات صديقاتها باستنكار لأوقات الزيارة وعن مدى علم أسرتها بها، وطبعاً الصغيرة تجيد الكثير من الإجابات الملتوية التي تخلصها من الحرج. ربما تعاني غدير من مشكلة ما، وهذا واضح، فالنظام الأسري المتماسك يعمل على حل مشاكل أفراده أو وقايتهم منها، فالأسرة التي لا تلتزم بنقاش مثل هذه المشاكل في وسطها هي تساهم في خلق نوع من أنواع الانحراف لدى أبناءها، وقد تكون مشكلة غدير أسرية، فلا رقابة مطلقاً حولها ولا متابعة على ما يبدو، لأنها تجوب أحياء وطرق بلدتها الصغيرة وحدها، الأمر الخطير الذي قد ينبئ بمصير لا يحمد عقباه هو، أن طفلة ما تفتقد لرقابة الأسرة والمتابعة من الأم والأب ويمكنها أن تتصرف بأمورها دون معرفتهم، وكل هذا وسط تساؤلات من معلماتها و وسط أسئلة بسيطة قد تطرحها زميلاتها على أمهاتهن عن الحرية التي تتمتع بها زميلتهم عنهم وعن مصدر المال الذي تمتلكه وعن تحررها من الرقابة التي تحيط بهم.
السؤال الأهم هنا هو : هل امتلكت غدير ومثيلاتها عقلية تجارية نشطة وحظوا بحرية مأمونة تخولهم بالتصرف التام فيها والخروج في أوقات مختلفة دون أن ينتاب أسرهم قلق عن مدة اختفاءهم عنها لفترات طويلة نسبياً، أو حتى معرفة طبيعة تحركاتهم ونوعية ما يقومون به من عمل، ألا يتساءلون عن مصدر النقود الكثيرة التي يحملوها معهم ومن أين تحصلوا عليها، على الأقل ليطمئنوا على أنهم في مأمن ما من العبث في زمن كل ما فيه ينذر بالخطر.
طفلة في سنها تمتلك كل هذه الأفكار التي تبعث على الدهشة والاستغراب تحتاج لعناية ما من أسرتها ومدرستها، وكذلك للعديد من الأسئلة التي تؤدي بنا إلى للتساؤل الجاد... إن كانت صغيراتنا هكذا، فما الذي يمكن أن يحدث لهن بعد 10 سنوات على الأقل إن بقي الوضع على ما هو عليه؟؟!!
ولنا أيضا أن نضيف، إن كان أمر غدير يبعث على القلق فلماذا لا تحاول معلماتها القيام بشيء من أجلها بتنبيه أسرتها للأمر والتواصل معها لإيجاد حل، وإن كن فعلن مع امكانيات مدارسنا المحدودة، ولم تستجب الأسرة لهن فماذا تراه أن يكون الحل المناسب والأمثل لهذه المشكلة؟
ألسنا بحاجة لمؤسسات اجتماعية متخصصة في حل هذه الأمور وإعادة تنظيمها بشكل جيد يحدث التوافق المطلوب، للأسف إن كل ما يوجد لدينا عبارة عن حلول بسيطة أو نظريات محدودة في هذا المجال، هذا إن استطعنا تسميتها بالمؤسسات الاجتماعية، وان وجدت فهي تناقشها بصفة محدودة أيضاً، لأن بعض المراكز النفسية والتي غالباً ما تكون على شكل عيادات نفسية مع الأخذ بعين الاعتبار ندرتها، لا يمكنها بصراحة أن تخدمنا في الأمر، فليست كل المشكلات الاجتماعية والأسرية التي نعاني منها يمكننا ارجاعها إلى أصل التعب النفسي خاصة في حالة مثل حالة غدير نتجت عن إهمال أسري وربما مدرسي وظروف بيئية تعيشها، لأننا نحتاج معها لإصلاح ومعالجة تامة لكل الأوضاع المحيطة بها، فالعلاج النفسي وهو بطبيعة الحال لا ينطبق على قصة غدير، سيختص بالحالة فقط بينما حالة غدير تستدعي التركيز على نواحي كثيرة كالأم والأب والأسرة بشكل عام كذلك المعلمات وطاقم المدرسة والظروف البيئية والإقتصادية والنفسية التي تعيشها وهذا كله لا يمكن لمركز صحة نفسية أن يستوعبهم جميعاً، فالأمر كله يرجع لضرورة التوعية الاجتماعية ولأهميتها القصوى، هذا مع الأخذ بعدم تفعيل مثل هذه التخصصات في المجتمع ومحاولة تجميدها أوتهميشها في وقت أصبح تواجدها أمر ضروري جداً.
ومن جانب آخر لا يمكننا اعتبار غدير حالة مرضية تتطلب علاج بقدر ما يمكن أن نصنفها بحالة أو ظاهرة اجتماعية نتجت عن إهمال الأسرة وعدم وجود رقابة ما عليها، ولربما هي حالة هروب من واقعها الذي تعيشه أو هو محاولة تقليد لما يصنعه الكبار، والخطورة في الأمر كله أن غدير وربما مريم وزهراء، وعبد الله ومصطفى وأحمد.... وسلسلة من أطفالنا يمارسون هذا الأمر وقد يقودهم لما لا يحمد عقباه مستقبلاً إن لم تجد أسرهم توعية تامة توفرها لهم مؤسسات اجتماعية متخصصة تهتم بمحاولة إيجاد توافق أسري واجتماعي ونفسي لهم كأفراد في المجتمع.
ومن الغريب جداً معها أننا نتحدث عن التربية وعن وسائل رعاية الأطفال والتوعية في المدارس والأسرة، وأهمية الدراسات النفسية والاجتماعية لتصحيح أوضاع المجتمع، لكننا لا نطبق شيئاً منها فعلياً على أرض الواقع، وهذا كله لن يكون طالما كانت فكرة هذه المؤسسات مجرد صور شكلية ونظريات جامدة لم تتجاوز حدود مقاعد الدراسة الجامعية إلى ساحة الواقع الفعلي الذي بدأ يضج بمشاكل لا حصر لها من هذا النوع بل وأخطر منها.
التعلیقات