السيدة زينب (عليها السلام) حضارة خالدة
السيد علي القصير
منذ 16 سنة
عندما يتأمل الرائي البحر.. يتيه بين أسراره وعجائبه، وإذا ما ارتمى بين أحضانه يغرق، دون أن يحلّ أيّ لغز فيه! فتراه يضطرب غضباً تارة.. وحنيناً تارة أخرى، وعلى بساط الأمل يبقى متربّعاً عله يفيق من سكرة سحر الجمال (ثمَّ يَهيجُ فتراهُ مُصْفراً ثمَّ يَكُون حُطاماً) فيهشّ وجهه ويكمد، ليخلع على ذاته من مصون الأسرار ما أكنته الضمائر. لذا وذاك عرجتُ بروحي إلى شواطئ البحر.. ساكناً بعد حراك، وصامتاً بعد نطق لأتعض بهدوّه، وخفوت أطرافهوسكونه..
فلقيته (مَوْجٌ مِنْ فوْقِهِ مَوْج)، والملائك تطوف من حوله، وقبل أن أقدح الزناد لأطلق من فوهة فمي السؤال عن ماهية هذه الأمواج.. خرقت مسامعي ألحان الملائكة وهي ترتل نشيدها:
لــــــــي خـــــــمسة أطـفي بـهم حـــــرّ الجــــــــحيم الـــحاطمة | المصطــــــفى والــــمرتـــــضى وابنـــــيــــهما والـــفـاطــــــمة |
فانسابت دموعي لترقص على خدّي طرباً بذكر آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، وراحت الأعاصير التي زحفت بعسكرها على فؤادي تذوب كالملح في الماء.. حيث انصهر الظلام، وتوهّجت بصيرتي بنور اضطمّت عليه جوانحي يسمو بالهداية.. بعد أن برزت هويّة البحر فعلمت أنه محمداً وآله (صلى الله عليه وآله). ثم هويت لأجلس كالعبد بين يدي هذا البحر العظيم الذي لا يدرك قعره، ورحت أنعطف عليه لأغترف منه ما يفيض به عليّ من إشراق وتوقد.. فالتحمت كلتا يديّ وصرن تحت بضعة من جسمه البرّاق، فرفعتها لأغسل بها عوالق الهموم، وأشفي جراحاتي التي لم تندمل بعد.. وإذا بقلبي قد أخذ ينعصر، وطافت سحب الحزن عليه فرحت أستعبر منقباً عن قداستها، وما هي إلاّ هنيهة وإذا بصوت شجي:
هـي صفوة الهادي الشفيع وبضعة | مـــــن حـــــيدر وســـلالة الزهراء |
فارتعدت مفاصلي، وخشع شعري وبشري، ولحظت أنفاسي كأنها تنخلع في حالة نزع.. من الخبر الملتهب الذي أجّج صراخاتي الصامتة على شفاهي الذابلة من فم القروح، فصرت أتمرغ بين السائل والمجيب في ذاتي المعذبة.. وفرجت بين أصابعي لأضع ما اغرفته على صخرة جاورت أخواتها إلى جانبي فاضطربن اضطراباً شديداً.. فأخذتني الرعدة، وقد اندلع لسان الألم مستفهماً؟!! من هذه البضعة التي أثارت عطف الصخور؟!! وما اسمها؟ وما شأن ارتباطها بالسلسلة الذهبيّة الفاطمية؟.. وإذا الصوت بجسمه يعود بشجوه:
هـي زيـنب الكبرى عقيلة حيدر | بثـــــباته فــــــي وجه كلّ بلاء |
فعلمت حينها أنّ اسمها زينب وهي سبطة النبي (صلى الله عليه وآله) وبضعته من بضعته، ونور قد انبثق من علي وفاطمة فكانت هي فألبسه الله هيبته، وعلى مائدة التاريخ جلست لأعلم أنّ الله من فاض عليها قداسة ذا الاسم، وبانت جوانب حياتها مشرقة بعد أن رضعت لبان الوحي، وخصّت بتلكم التربية الروحانيّة، ونشأت أسمى نشأة قدسية، فتجلببت جلابيب الجلال والعظمة وتزاحمت السطور المترجمة لها في خزانة التاريخ وهي متخمة بحقائق عملاقة.. متلهفة على حسراتها التي قضت بها، وهي من ألمع نجوم الإنسانية في رسالة الإصلاح والحرية التي حمل لوائها قمر زان سماء العقيدة ببهائه وجماله.
وكلما غربت شمس للرسالة أو أفل فيها نجم نراها تزداد تألقاً، وتروح لتزوي الجروح والمحن في جيوب الآلام لتكمل المسيرة التي اعتنقت مبادئها منذ الولادة، فلأي جانب نقصد من حياتها العظيمة يبهرنا سحر إثماره وغزارته.. فعلمها بحر لا ينفد وصبرها موج لا يرتدْ وفي كلّ فجّ لها سيل عارم ومنهلها فيهنّ العبادة.. حين الولادة وإلى الشهادة.. فلها بالله قربى.. كأني بها لا تذوق النوم إلاّ غرارا أو مضمضة متقلبة متضرّعة بين يديه ترتعد مفاصلها هيبة وإجلالاً، وتناجي بلسان أبيها ولئالي الدموع تنهمر من كريمتيها على خزانة أسرار العصمة حتى زانت بتهجّدها أركان المحراب آمرة ناهية، ذائبة في اغتنام الفرصة ورفع الغصّة مؤكدة لقول أبيها (ألا ومن أكل الحقّ فإلى الجنة ومن أكل الباطل فإلى النار)، خافضة بالعلم جناحها ملينة للجانب باسطة للوجه بوجه كلّ يتيم مآسية بينهم في اللحظة والنظرة محذرة للأمة من مبلبل أجسام الملوك وسالب نفوس الجبابرة، لينقلبوا عن الدنيا بالزّاد المبلغ والمتجر الرابح لذا قيل فيها:
فكــــــانت كـــــالأئمة في هداها | وإنـــــقاذ الأنـــــام من الضلال |
وهكذا تنشر الفضيلة بأخلاقها النابعة من حديقة الكمال التي غرسها الله ثمّ ليشطرها إلى نصفين في عليّ وفاطمة وتعود لتجتمع مكللة بالزهور في تاج الكرامة والوقار تتوّج به زينب العقيلة من آل هاشم:
وكـــم قال ابن عــباس فخوراً: | عقــــــيلتنا ويـــــــا نعم العقيلة |
لتكون البدر بلا خسوف والشمس دون كسف، ولنعم ما قيل فيها:
بنفسي من حوت أسمى المزايا ومــــن يسمو الثناء بها ويَحلو فإن كــــــثرت مدائحها وفاضت | ومن للـــــمكرمات غدت خليله وأجــــــدر بالنّعوت المستطيله تُعـــــدّ بشــــأنها السامي قليله |
وبعد فقد صارت بأبي هي وأمي غرض الأسقام ورهينة الأيام ورمية المصائب، وانثالت عليها المحن الواحدة تلو الأخرى، فقدُ جدّها ثم أبيها بعد أمها وسمّ أخيها حتى ينتهي بها العزاء إلى كربلاء لتمنع العذب وتحلس الخوف مع فتية نحتوا في الصّخور نصر الجيد ولولاهم ما قام عمود الدين ولا أخضر عود الإيمان، ولتتحمّل ما عجزت عنه جبال رضوى:
فأبـــــــدت بعد يوم الطفّ حزماً وحلمــــاً لا يقاس بثقل رضوى لقد وثــــق الحســـين بها لكيما | ومــــا مــن حرّة أبـــــت مثيله محال بـأن يرى رضوى عديله تقوم بحــــمل أعـــــباء ثقـــيله |
ثمّ راحت لتكمل مسيرة الجهاد بخطبها الرنانة في مجالس الظالمين:
وكان جـــــهادها بالقول أمضى | من البيض الصــوارم والنضال |
فليس لها من نظير بصبرها على مضض الألم، وإليها تشخص أبصار الغوّاصين في خزائن العظمة والمتاحف والإنسانية، وفي بحر صبرها السلوى لكلّ متأوّه وذات أنين:
يـــــا قلــــــب زينب ما لاقيت من محن لو كان ما فيــــــك من صبر ومن محن يكفـــــيك صبراً قـــــلوب الناس كــلّهم | فيـــــك الـــرزايا وكلّ الصّبر قـد جمعا فـي قلب أقوى جبال الأرض لانصدعا تـــــــفطّرت للذي لاقـــــيته جــــــزعــاً |
وقد أكملت بناء ثورة أخيها الحسين (عليه السلام) إلى القمة لتبقى شاهقة تناطح السحاب، وتتكسّر عند أعتابها أحلام الطغاة، وهي النجم لم يأفل بتجلببها الصبر وتجلدها للعبادة.. لنحيى نحن فنكون بدراً يجدّد أرضاً غرّسوها جثثاً وسقوها بدم.. يفوح عطراً بالولاء.. وهو يصدح نشيداً على مائدة الحروف.. الناطقة من سكون صمت كلمة حسين، مستلهمين النهج الزينبي بنصّه المعبّر: إن في إبراز المظلومية حقيقة الانتصار.
وهكذا براكين الضمائر تغلي.. لنمشي على الجروح.. لتحال منا أفواج العبرات.. دمع ينزف.. وصوت يهتف ملتحماً بصوت العقيلة في مجلس يزيد: (فوالله لا تمحو ذكرنا).. لنقول:
نحن أبكينا الدموع.. ما بكينا.. وابتسمنا.. رغم أنف الظالمين
وانتصرنا.. في السجون.. تحت السياط.. بعد ما نحن صبرنا
وانتصرنا.. بالحياة.. حيثما خط العلم.. نحن أنصار الحسين
التعلیقات