حديث أم سلمة
السيّدة مريم نور الدّين فضل الله
منذ 11 سنةذكر ابن هشام في السيرة النبوية عن أم سلمة قولها : « لما نزلنا أرض الحبشة ، جاورنا بها خير جار ـ النجاشي ـ أمّنا على ديننا ، وعبدنا الله تعالى ، لا نؤذى ، ولا نسمع شيئاً نكرهه. فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا الى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين ، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة. وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم
فجمعوا له أدماً كثيراً ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية.
ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة ، وعمرو بن العاص. وأمروهما بأمرهم ، وقالوا لهما : ادفعوا الى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم ، ثم قدما الى النجاشي هداياه.
ثم سلاه أن يسلمهم اليكما قبل أن يكلمهم ، قالت : فخرجا حتى قدما على النجاشي ونحن عنده ... بخير دار عند خير جار ... فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا اليه هديته قبل أن يكلما النجاشي وقالا لكل بطريق منهم :
« انه قد ضوى الى بلد الملك منّا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم ، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا الى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم اليهم. فإذا كلمنا الملك فيهم ، فأشيروا عليه بأن يسلمهم الينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
قالت : ولم يكن شيء أبغض الى عبد الله بن أبي ربيعه وعمرو بن العاص ، من أن يسمع كلامهم النجاشي. قالت : فقالت بطارقته من حوله :
صدقا أيها الملك قومهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم اليهما ، فليرداهم الى بلادهم وقومهم.
قالت : فغضب النجاشي ، ثم قال : لا ها الله إذاً لا أسلمهم اليهما ، ولا يُكاد قوم جاوروني ، ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى ادعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم. فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم اليهما ، ورددتهم الى قومهم. وإن كانوا غير ذلك ، منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
قالت : ثم أرسل الى أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم : ماذا تقولون للرجل إذا جئتموه ...؟
قالوا : نقول والله ما علَّمنا وما أمرنا به نبينا (صلّى الله عليه وآله) كائناً في ذلك ما هو كائن.
فلما جاؤوا وقد دعا النجاشي اساقفته فنشروا مصاحفهم حوله ، سألهم فقال لهم : ـ ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين احدٍ من هذه الملل ...؟
قالت : فكان الذي كلمه جعفر بن ابي طالب رضوان الله عليه ، فقال له : ايها الملك ، كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ويأكل القوي منّا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا الى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان.
وأمرنا أيضاً : بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم، وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء.
ونهانا أيضاً عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات.
وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ... الخ قالت : فعدد عليه امور الاسلام.
فصدقناه وآمنا به.
واتبعناه على ما جاء به من الله وحده ، فلم نشرك به شيئاً ، وحرمنا ما حرَّم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا ، وفتنونا عن ديننا ، ليردونا الى عبادة الأوثان ، من عبادة الله تعالى ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث.
فلما قهرونا وظلمونا ، وضيقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا الى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ورجونا ان لا نظلم عندك أيها الملك.
قالت : فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ قالت : فقال له جعفر : نعم ، فقال له النجاشي : فاقرأه عليّ. قالت : فقرأ عليه صدراً من ( كهيعص ). قالت : فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته ، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم ، حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثم قال لهم النجاشي : إن هذا الدين ، والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا ، فلا والله لا اسلمهم إليكما ، ولا يُكادون.
قالت : فلما خرجا من عنده ، قال عمرو بن العاص : والله لآتينه غداً عنهم بما أستأصل به خضرائهم قالت : فقال له عبد الله بن ابي ربيعة وكان أتقى الرجلين : لا نفعل ، فإن لهم ارحاماً وإن كانوا قد خالفونا.
قال : والله لاخبرنه انهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. قالت : ثم غدا عليه من الغد ، فقال له : أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً ، فأرسل إليهم ، فسلهم عما يقولون فيه.
قالت : ولم ينزل بنا مثلها قط : فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه ...؟ قالوا : نقول والله ما قال الله ، وما جاءنا به نبينا ، كائناً في ذلك ما هو كائن.
قالت : فلما دخلوا عليه ، قال لهم : ماذا تقولون في عيسى بن مريم ؟ قالت فقال جعفر بن ابي طالب : نقول فيه الذي جاءنا به نبينا (صلّى الله عليه وآله) يقول : هو عبد الله ورسوله ، وروحه وكلمته ، ألقاها الى مريم العذراء البتول.
قالت : فضرب النجاشي بيده الى الارض ، فأخذ منها عوداً ثم قال : والله ما عدا عيسى بن مريم بمقدار هذا العود ، فقالت : فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال :
فقال : وإن نخرتم والله ... اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي ـ والشيوم الآمنون ـ من سبكم غرم ، ثم قال : من سبكم غرم ، ثم قال : من سبكم غرم : ما أحب ان لي ديراً من ذهب ، وإني آذيت رجلاً منكم ـ ردوا عليهما هداياهم ، فلا حاجة لي بها. فو الله ما اخذ الله منِّي الرشوة حين ردَّ علي ملكي ، فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه.
قالت : فخرجا من عنده ، مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به وأقمنا عنده بخير دار ـ مع خير جار. ( انتهى ).
لقد كانت السيدة أم سلمة أول ظعينة دخلت الى المدينة المنورة مهاجرة ، وكان زوجها ابو سلمة قد سبقها إليها. وتروي لنا رحلتها الى ( يثرب ) المدينة المنورة فتقول : رحَّلت بعيري ، ووضعت ابني في حجري ، ثم خرجت اريد زوجي بالمدينة ، وما معي أحد من خلق الله ، فقلت اتبلغ بمن لقيت ، حتى أقدم على زوجي بالمدينة ، حتى إذا كنت بالتنعيم ، لقيت عثمان بن طلحة اخا بني عبد الدار ، فقال الى اين با ابنة أبي امية ؟ فقلت : اريد زوجي بالمدينة ، فقال : هل معك أحد ...؟ فقلت : لا والله إلا الله ... وابني هذا.
فقال : والله مالك من منزل ـ فأخذ بخطام البعير ، فانطلق يهوي بي يقودني ، فو الله ما صحبت رجلاً من العرب أكرم منه.
كان إذا بلغ المنزل ، أناخ بي ثم تنحى الى شجرة ، فاضطجع تحتها ، ثم استأخر عني ، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري ، فحط عنه ثم قيده في الشجرة. فاذا دنا الرواح ، قام الى بعيري ، فقدمه ، فرحَّله ، ثم تأخر عني وقال : اركبي ... فإذا ركبت واستويت على بعيري ، أتى فأخذ بخطام البعير فقاده ، ولم يزل يصنع ذلك حتى قدم المدينة
وفي وقعة أحد قتل ابو سلمة رضوان الله عليه مجاهداً ، فحزنت عليه زوجته ام سلمة ، ووجدت كثيراً على فقد الزوج المؤمن العطوف الذي كان دائماً يدعو لها بالخير والسعادة ، وطالما ردد قوله : « اللهم ارزق ام سلمة بعدي رجلاً خير مني ، لا يخزيها ولا يؤذيها ».
فلما مات قالت : من هذا الذي هو لي خير من أبي سلمة ...؟ وكأن الله قد استجاب دعاء ابي سلمة المجاهد المؤمن فتزوجها رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
التعلیقات