العائلة والظاهرة التكوينية العالمية
موقع المستشار
منذ 10 سنواتهل ان المؤسسة العائلية ظاهرة تكوينية ام انها مختصة بلون معين من المجتمعات؟، الجواب
على هذا السؤال جاء الجواب عن طريق المدرسة الاجتماعية الامريكية ، وبالخصوص عن طريق عالم الاجتماع الامريكي (جورج ميردوخ) الذي درس العائلة ووظيفتها وتركيبتها الاساسية في اكثر من مائتين وخمسين مجتمعا من مجتمعات العالم ، وتوصل الى نتيجة مهمة وهي ان ظاهرة العائلة النووية الصغيرة انما هي ظاهرة تكوينية عالمية ، يختبرها كل مجتمع انساني مهما كان تركيبه العلمي او الديني او الثقافي. فالعوائل الانسانية جميعا تتحد في صفات مشتركة كالتعاون الاقتصادي ، والسكن المشترك ، وعملية الانجاب : الا ان الاختلاف يقع في طبيعة تركيب العائلة الكبيرة ، خصوصا فيما يتعلق بتعدد الزوجات ، او الاستقلال الزوجي عن الابوين والاحفاد ، أو الغربة الاجتماعية عن الروابط الانسانية الطبيعية التي جلبها التصنيع الحديث.
ولو قرأنا تاريخ البشرية منذ البداية لرأينا ان السيطرة الاجتماعية على السلوك الانساني تنبثق في اغلب الاحيان من العائلة. فالمجتمع لايستطع ان يحيا دون وجود مؤسسة للسيطرة على السلوك الانساني. وهذه السيطرة هي التي ولٌدت العرف العقلائي الخاص بالسلوك المتفق عليه اجتماعيا. ولولا الحقوق والواجبات التي وضعت على الافراد أو لهم ضمن المجموع ، لما تحقق وجود المجتمع والنظام الاجتماعي ، بل كان الافراد مجرد كائنات حية تعيش بانفراد دون نشاط اجتماعي ملحوظ.وعلى الصعيد التاريخي ، فان للزواج وللعائلة دوراً حيوياً في السيطرة على السلوك الاجتماعي. فقد طورٌت المجتمعات الانسانية ـ عبر رسالة الدين والفلسفة الاجتماعية ـ العلاقات التفاعلية في الزواج ، ومسؤولية رعاية مصلحة القاصرين من الاطفال والعجزة ، وانتقال الملكية ، والحقوق المدنية ، والمنزلة الاجتماعية ، وانتقال العلوم المتراكمة من جيل لآخر.الا ان تطور المجتمع عبر الاحقاب الزمنية المتعاقبة ، جعل السيطرة الاجتماعية المنبثقة عن العائلة وحدها بعيدة المنال ، وجعل الدولة والمؤسسة السياسية الحديثة تقوم بتبني دور السيطرة الاجتماعية : فكان من مباني هذا الدور الاجتماعي للدولة إن القوانين إنما جاءت لتلزم الافراد بالانصياع للتشريعات الاجتماعية والفرق بين القانون والعرف الاجتماعي ،هو إن القانون أو التشريع يكتب بينما يبقى العرف الاجتماعي أمرا معنويا متغيرا مع تغير الاحداث والافراد. ولذلك ، فان القانون أو التشريع له خاصية الديمومة والاستمرار أكثر من العرف الاجتماعي.ولاريب إن القوانين والتشريعات باجمعها تقدم للمجتمع ، نظريا على الاقل ، شكلاً عادلاً من أشكال السيطرة الاجتماعية لكل الافراد. وعندها يعرف الفرد حدود حقوقه المدنية ، ويتوقع الازامات التي فرضها المجتمع أو الدين عليه.وفي الواقع ، فأن النظام القانوني أو التشريعي بالتضامن مع السيطرة الاجتماعية يقٌدم للعائلة نظاماً محكما يجهٌز الفرد ـ وهو يكدح في حياته اليومية ـ بقابلية فريدة على توقع صحيح ودقيق لسلوك الافراد. وعلى ضوء ذلك التوقع يتم تفاعله مع هؤلاء الافراد. الا إن القانون الذي يصنعه الافراد لانفسهم يختلف عن التشريع الذي يشرعه الخالق عز وجل ؛ لان قوة القانون تتناسب مع كفاءة فهم الافراد للمتطلبات الاجتماعية في زمن ومكان محدد ، الا إن التشريع الآلهي محكم باعتبار صدوره من جهة المولوية المطلقة أولاً ، وباعتبار أنه لم يحدد بزمان معين أو مكان محدد ثانياً. ومن المسلم به عند العقلاء ان القانون او التشريع لايمكن ضمان نجاحه ما لم ينزل الى الساحة الاجتماعية مع نظام متكامل للعقوبات. إن الفرق ما بين التشريع الاسلامي الخاص بالعائلة وبين القانون الغربي الخاص بها إن القوانين المعاصرة التي وضعها الانسان ماهي الااحكام مثالية لاتتطابق مع الواقع المتغير في اغلب الاحيان ، على عكس احكام الشريعة التي أخذت الطبيعة البشرية بقطبيها ووضعت القوانين التي تتناغم مع كل أمواج الطبيعة الانسانية. وأغلب القوانين المدنية والحقوقية الخاصة بالعائلة والمعمول بها اليوم في الغرب مستمدة من أفكار الثورة الفرنسية والامريكية والقانون العرفي الانكليزي ؛ وهي قوانين يصعب تطبيق عشرها على الوضع الاجتماعي المعاصر.إن الابعاد القانونية الخاصة بالعائلة في النظرية الغربية تشمل تشريعات في قانون الزواج ، وحقوق الاطفال ، والارث. ففكرة الزواج تستند على مبدأ كونه عقداً من العقود. الا إنه يختلف عن العقود التجارية لاعتبارين ؛ الاول : هو أن العلاقة الزوجية لايمكن فسخها بنفس الطريقة التي يمكن بها فسخ العقد التجاري في الحالات الاختيارية. والثاني : إن المتطلبات القانونية للدخول في عقد الزواج تختلف عن المتطلبات اللازمة للدخول في العقود التجارية. ومن الطبيعي أن الزواج في القانون الغربي ينبغي أن يسد حاجتين ؛ الاولى : سد الحاجة المالية للعائلة الجديدة ؛ بمعنى أن الدولة غير مسؤولة عن مساعدة الزوجة والاطفال والقاصرين ، بل يتعين على العائلة سد حاجتها المالية بنفسها. والثانية : سد الحاجة الاجتماعية فيما يتعلق بانجاب الذرية ، وتحديد النشاط الجنسي ضمن حدود الزواج القانوني ومن أهم متطلبات الزواج القانونية في النظام الرأسمالي هو البلوغ ، والعقل ، وعدم شرعية زواج المحارم ، وعدم شرعية الزواج بين الاعراق المختلفة كالعرق القوقازي والزنجي والمنغولي. فسن البلوغ القانوني للزواج هو ثماني عشرة سنة للذكر وست عشرة سنة للانثى بشرط موافقة الابوين. أما سن البلوغ القانوني للزواج بدون موافقة الابوين فهو واحد وعشرون سنة بالنسبة للذكر وثماني عشرة سنة بالنسبة للانثى. ولكن ليس هناك دليل يثبت على إن موافقة أو عدم موافقة الابوين في النظرية الغربية تغير من الشروط الردعية التي تنظم عملية الزواج. أما شرط العقل ، فانه من الشروط المهمة في إتمام عملية العقد لان المضطرب عقلياً أو المجنون لايستطيع أن يقوم بمسؤولياته الاقتصادية والاجتماعية الخاصةبالزواج والعائلة. وبذلك فانه سيحمل الدولة مصاريف نفقات عائلته : ولذلك يعتبر زواج المجنون أو المضطرب عقلياً بعيداً عن الصفة القانونية والروح الاجتماعية. أما البعد عن الصفة القانونية فلأن العقد يجب أن يتم ما بين فردين لهما القابلية على الموافقة الصريحة أو الضمنية ، وهذا لايتم مع المجنون. وأما البعد عن الصفة الاجتماعية أو العملية فلأن المجنون ربما يسبب حرجاً شديداً لعائلته وللمجتمع الذي يعيش فيه.والى هذا الحد فان القانون الغربي ينطبق تماما في الموارد السابقة مع الشريعة الاسلامية. وليس هناك أدنى شك من ان فلاسفة ومقنني اوروبا وامريكا قد اقتبسوا من احكام الشريعة الاسلامية كل هذه القوانين التي لايزيد عمرها على أربعة قرون على الاكثر ، بينما يبلغ عمر الشريعة الاسلامية أكثر من أربعة عشر قرناً.ولكن أحد أهم القوانين التي تعارضه النظرية الاسلامية تماما والمعمول به حتى اليوم في الولايات المتحدة هو قانون ( حرمة تمازج الاجناس عن طريق التزاوج ) : بمعنى ان هذا القانون يحرَم على الفرد الابيض التزاوج من الاجناس الاخرى ، خصوصا الجنس الزنجي ، بدعوى ان التزاوج بين الاجناس المختلفة يساهم في اضعاف الجنس المسيطر على النظام الاجتماعي. وحتى العقد السادس من القرن العشرين كانت احدى وثلاثون ولاية امريكية في الجنوب والجنوب الغربي للولايات المتحدة تحرَم التزاوج بين الافراد البيض وبين أفراد الجنس الاصفر أو المنغولي الا ان هذه القوانين كلها عرضة للتغيير والتبديل. وهذا التبديل الذي يطال هذه القوانين يعكس قصور الانسان وفكره البشري على انشاء قوانين محكمة تصلح للتطبيق في كل الاحوال دون النظر الى الزمان أو المكان. الا ان الرسالة الدينية والاسلامية بالخصوص تحقق ما عجزت النظرية القانونية الغربية عن تحقيقه.ان الدين في الدول النصرانية له تأثير كبير على شكل علاقة التغشي ما بين الرجل والمرأة. فالسلوك الشائن يعتبر خطيئة وجرما ،. وقد نظَم مفهوم الدولة الحديثة عملية العلاقة الجسدية ما بين الزوج والزوجة ، واعتبر البغاء ـ ولو نظرياَ ـ جريمة يعاقب عليها. الا انفصال الدين عن السياسة في النظام الرأسمالي ، جعل هذه القوانين المتعلقة بالجرائم الاخلاقية تنحلَ تدريجيا بتغير الوضع الاجتماعي ، بحيث أصبحت المشكلة الاجتماعية التي يعاصرها الغرب الرأسمالي هي كيفية حفظ التصميم العائلي الذي يجرفه التغير الاجتماعي المعاصر. ولعل جوهر الخلاف بين النصرانية والنظرية الرأسمالية هو ان النصرانية تعتبر المؤسسة العائلية مؤسسة للانجاب والتناسل ، بينما تعتبر الدولة الرأسمالية العائلة مؤسسة اجتماعية للمشاركة الجنسية واشباع الشهوات. ولذلك فان عدم الانجاب لايعطي الزوج حقاً في الطلاق ، بموجب رأي النظرية الرأسمالية. الا ان عدم القدرة على المشاركة ونحوها يعطي الزوج أو الزوجة حق الطلاق. ومشكلة اخرى خطيرة تواجه العائلة الغربية المعاصرة وهي انه فيما اذا كان احد الزوجين عقيما ، فهل يجوز له سلوك ذلك الطريق الذي يحل مشكلته الاجتماعية؟ علماً ان هناك طريقين لحل هذه المشكلة فالتبني هو نسبة فرد من عائلة معينة الى عائلة اخرى بطريق قانوني وانتقاله للسكن مع تلك العائلة الجديدة بصورة دائمية. فتنتقل ـ عندئذ ـ كل الحقوق المالية والقانونية الى الفرد المتبنية. ولكن المشكلة تبرز عندما تطالب العائلة البيولوجية برجوع ابنها اليها من العائلة القانونية المتبنية لذلك الطفل. ولاشك ان التبني يسبب اضطراباً عاطفياً واجتماعياً للطفل المتبنى بسبب العلاقات العائلية والقانونية الجديدة التي استحدثت دون ادراك الصبي لما يجري ، خصوصا فيما يتعلق بمصلحته الشخصية.
التعلیقات