شهادة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وبشارته بالمهدي المنتظر عليه السلام
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 8 ساعاتتُمثّل اللحظات الأخيرة من حياة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله محطةً مفصلية في التاريخ الإسلامي، فهي لحظات وداعٍ ممتزجةٍ بالألم من جهة، وبالتأكيد على استمرار الرسالة من جهة أخرى. وقد كان لأهل بيت النبي صلوات الله عليهم حضورٌ بارزٌ في هذه الساعات، وعلى رأسهم ابنته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام، التي دخلت على أبيها في ساعاته الأخيرة، وهي مكلومة القلب خائفة على مستقبلها ومستقبل ولديها وشيعتها بعد رحيله.
وفي هذا المشهد المهيب، يفيض رسول الله صلى الله عليه وآله عليها بكلماتٍ تحمل من المعاني ما يتجاوز حدود اللحظة، إذ يكشف لها عن عظمة موقعها ومقام بعلها أمير المؤمنين علي عليه السلام، وسمو مكانة أبنائها الأئمة المعصومين عليهم السلام، ليختم كلامه بالبشارة العظمى بظهور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، الذي يُحقّق الوعد الإلهي بملء الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً.
هذه الرواية التي ينقلها لنا سُليم بن قيس الهلالي، عبر سلمان الفارسي رضي الله عنه، تعدّ من النصوص المهمّة التي تجمع بين بيان مقام أهل البيت عليهم السلام وبين الإشارة إلى الامتداد المستقبلي للرسالة في شخص الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
نص الحديث
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ الْيَمَانِيِّ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ الْهِلَالِيِّ قَالَ سَمِعْتُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ كُنْتُ جَالِساً بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله فِي مَرْضَتِهِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا فَدَخَلَتْ فَاطِمَةُ عليه السلام، فَلَمَّا رَأَتْ مَا بِأَبِيهَا مِنَ الضَّعْفِ بَكَتْ حَتَّى جَرَتْ دُمُوعُهَا عَلَى خَدَّيْهَا فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله : « مَا يُبْكِيكِ يَا فَاطِمَةُ. قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْشَى عَلَى نَفْسِي ، وَ وُلْدِي الضَّيْعَةَ بَعْدَكَ ، فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله بِالْبُكَاءِ ، ثُمَّ قَالَ يَا فَاطِمَةُ : أَ مَا عَلِمْتِ أَنَّا أَهْلُ بَيْتٍ اخْتَارَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لَنَا الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا ، وَ أَنَّهُ حَتَمَ الْفَنَاءَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ وَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى اطَّلَعَ إِلَى الْأَرْضِ اطِّلَاعَةً فَاخْتَارَنِي مِنْ خَلْقِهِ فَجَعَلَنِي نَبِيّاً ، ثُمَّ اطَّلَعَ إِلَى الْأَرْضِ اطِّلَاعَةً ثَانِيَةً فَاخْتَارَ مِنْهَا زَوْجَكِ ، وَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ أُزَوِّجَكِ إِيَّاهُ ، وَ أَتَّخِذَهُ وَلِيّاً وَ وَزِيراً وَ أَنْ أَجْعَلَهُ خَلِيفَتِي فِي أُمَّتِي ، فَأَبُوكِ خَيْرُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ ، وَ بَعْلُكِ خَيْرُ الْأَوْصِيَاءِ ، وَ أَنْتِ أَوَّلُ مَنْ يَلْحَقُ بِي مِنْ أَهْلِي ، ثُمَّ اطَّلَعَ إِلَى الْأَرْضِ اطِّلَاعَةً ثَالِثَةً فَاخْتَارَكِ وَ وَلَدَيْكِ فَأَنْتِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَ ابْنَاكِ حَسَنٌ وَ حُسَيْنٌ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَ أَبْنَاءُ بَعْلِكِ أَوْصِيَائِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، كُلُّهُمْ هَادُونَ مَهْدِيُّونَ ، وَ أَوَّلُ الْأَوْصِيَاءِ بَعْدِي أَخِي عَلِيٌّ ثُمَّ حَسَنٌ ثُمَّ حُسَيْنٌ ثُمَّ تِسْعَةٌ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ فِي دَرَجَتِي ، وَ لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ دَرَجَةٌ أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ مِنْ دَرَجَتِي وَ دَرَجَةِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ ، أَ مَا تَعْلَمِينَ يَا بُنَيَّةِ أَنَّ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ إِيَّاكِ أَنَّ زَوْجَكِ خَيْرُ أُمَّتِي وَ خَيْرُ أَهْلِ بَيْتِي أَقْدَمُهُمْ سِلْماً وَ أَعْظَمُهُمْ حِلْماً وَ أَكْثَرُهُمْ عِلْماً ، فَاسْتَبْشَرَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام وَ فَرِحَتْ بِمَا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآلأه ، ثُمَّ قَالَ يَا بُنَيَّةِ إِنَّ لِبَعْلِكِ مَنَاقِبَ إِيمَانُهُ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ قَبْلَ كُلِّ أَحَدٍ فَلَمْ يَسْبِقْهُ إِلَى ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي ، وَ عِلْمُهُ بِ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ سُنَّتِي وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي يَعْلَمُ جَمِيعَ عِلْمِي غَيْرَ عَلِيٍّ عليه السلام ، وَ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَ عَزَّ عَلَّمَنِي عِلْماً لَا يَعْلَمُهُ غَيْرِي وَ عَلَّمَ مَلَائِكَتَهُ وَ رُسُلَهُ عِلْماً فَكُلُّ مَا عَلَّمَهُ مَلَائِكَتَهُ وَ رُسُلَهُ فَأَنَا أَعْلَمُهُ ، وَ أَمَرَنِيَ اللَّهُ أَنْ أُعَلِّمَهُ إِيَّاهُ ، فَفَعَلْتُ فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي يَعْلَمُ جَمِيعَ عِلْمِي وَ فَهْمِي وَ حِكْمَتِي غَيْرُهُ ، وَ إِنَّكِ يَا بُنَيَّةِ زَوْجَتُهُ وَ ابْنَاهُ سِبْطَايَ حَسَنٌ وَ حُسَيْنٌ وَ هُمَا سِبْطَا أُمَّتِي ، وَ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهْيُهُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَ عَزَّ آتَاهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطَابِ يَا بُنَيَّةِ إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ أَعْطَانَا اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ سِتَّ خِصَالٍ لَمْ يُعْطِهَا أَحَداً مِنَ الْأَوَّلِينَ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ لَمْ يُعْطِهَا أَحَداً مِنَ الْآخِرِينَ غَيْرَنَا : نَبِيُّنَا سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ وَ الْمُرْسَلِينَ وَ هُوَ أَبُوكِ ، وَ وَصِيُّنَا سَيِّدُ الْأَوْصِيَاءِ وَ هُوَ بَعْلُكِ ، وَ شَهِيدُنَا سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ وَ هُوَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّ أَبِيكِ ، قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا مَعَهُ. قَالَ لَا بَلْ سَيِّدُ شُهَدَاءِ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ مَا خَلَا الْأَنْبِيَاءَ وَ الْأَوْصِيَاءَ ، وَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ذُو الْجَنَاحَيْنِ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ ، وَ ابْنَاكِ حَسَنٌ وَ حُسَيْنٌ سِبْطَا أُمَّتِي وَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَ مِنَّا وَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَهْدِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَ ظُلْماً » (1).
شرح الفقرة المختصة بالإمام المهدي عليه السلام
يختم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله حديثه لبضعته الزهراء عليها السلام بالبشارة الكبرى، فيقول: « وَمِنَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَهْدِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً ».
وهذه الكلمات تحمل عدة دلالات عقائدية مهمة :
نسبة الإمام المهدي إلى النبي والأئمة : حيث يصرّح النبي صلى الله عليه وآله أن المهدي "مِنّا"، أي من أهل بيته الطاهرين، مما يقطع الطريق على كل الادعاءات الباطلة التي حاولت نسبته إلى غيرهم.
القسم العظيم: النبي صلى الله عليه وآله يؤكد الأمر بالقسم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ»، وهو قسم لا يصدر إلا في القضايا المصيرية، دلالة على أن ظهور الإمام المهدي أمرٌ محتوم لا شك فيه.
وظيفة الإمام المهدي: تحديد مهمته بملء الأرض قسطاً وعدلاً، وهو تعبير جامع يشمل رفع الظلم عن البشرية جمعاء، وإقامة العدل الإلهي الشامل في كل مجالات الحياة.
المقارنة مع الواقع البشري: قوله «كما مُلئت جوراً وظلماً» يوضح أن مهمة الإمام المهدي عليه السلام تأتي في سياق تاريخي يمتلئ بالظلم والطغيان، فيكون ظهوره خلاصاً للمستضعفين، وتجسيداً لوعد الله بنصرة الحق.
البشارة والرجاء: هذه الكلمات لم تكن مجرد خبر غيبي، بل كانت بشارة لابنته فاطمة الزهراء عليها السلام، وطمأنةً لها بأن رسالة النبي لن تنقطع بوفاته، بل سيمتد أثرها عبر أوصيائه حتى تُختتم بحكومة العدل الإلهي بقيادة المهدي الموعود.
الخاتمة
من خلال هذه الرواية المباركة، نلمس تلازم الحزن والرجاء في وصايا النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لبضعته الزهراء عليها السلام في ساعاته الأخيرة. فهو من جهة يهيّئها لفقده ويدلّها على مقام زوجها أمير المؤمنين وأبنائها الأئمة الطاهرين، ومن جهة أخرى يمنحها الأمل بأن خط الرسالة لن ينقطع، وأن المستقبل سيشهد تحقق وعد الله على يد خاتم أوصيائه الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
إنّ بشارة النبي الأكرم بالمهدي تمثل ذروة الامتداد الرسالي، إذ يتكامل الخط النبوي ـ العلوي ـ الحسني ـ الحسيني في الإمام الموعود الذي يملأ الأرض عدلاً، ليكون خاتمة المطاف في مسيرة الإصلاح الإلهي للبشرية. ومن هنا، تبقى هذه الكلمات النبوية تسليةً للمؤمنين وبشارةً لهم بالفرج ، إذ تذكّرهم بأن الظلم مهما اشتدّ فلا بد أن تنقشع ظلمته بنور الإمام المنتظر.
1. كمال الدين و تمام النعمة / الشيخ الصدوق / المجلّد : 1 / الصفحة : 262 ـ 263.
التعلیقات