هل التحسين والتقبيح العقليّان من المشهورات ؟
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 15 سنةهل التَّحسين والتَّقبيح العقليَّان من المشهورات ؟
ربّما يظهر من بعض الحكماء والمتكلّمين أَنَّ التحسين والتقبيح العقليين من المشهورات التي اتّفقت عليها آراء العقلاء وتسمّى بـ « الآراء المحمودة ».
وقال الشيخ الرئيس في « الإِشارات » : فأَمّا المشهورات ... ومنها الآراء المسماة بـ « المحمودة » ، وربّما خصّصناها باسم « المشهورة » ، إذْ لا عمدة لها إِلّا الشهرة. وهي آراء لو خُلّي الإِنسان وعقله المجرّد ، ووهمّه وحسّه ، ولم يؤدَّب بقبول قضاياها والإِعتراف بها ، و لم يَمِل الإِستقراء بظنّه القوي إلى حُكم ، لكثرة الجزئيّات ، و لم يستدَعِ إليها ما في طبيعة الإِنسان من الرحمة والخجل والأَنفَةَ والحَمِيّة وغير ذلك ، لم يقض بها الإِنسان طاعةً لعقله أو وهمه أو حسّه. مثل حكمنا إِنَّ سلب مال الإِنسان قبيح وإِنَّ الكذب قبيح لا ينبغي أنْ يقدم عليه. ومن هذا الجنس ما يسبق إلى وهم كثير من الناس ، وإنْ صَرَف كثيراً عنه الشرع من قبح ذبح الحيوان ، اتباعاً لما في الغريزة من الرقة لمن تكون غريزته كذلك ، وهم أَكثر الناس.
وليس شيء من هذا يوجبه العقل الساذج ، ولو توهّم نفسه وأَنَّه خُلق دفعة تامّ العقل ولم يسمع أَدبا ولم يطع انفعالاً نفسانيّاً أَو خلقيّاً ، لم يقض في أَمثال هذه القضايا بشيء ، بل أَمكنه أَنْ يجهله ويتوقّف فيه. وليس كذلك حال قَضائه بأَنَّ الكُلَّ أعظمُ من الجزء ـ إلى أَنْ قال ـ : فالمشهورات إمَّا من الواجبات وإمّا من التأديبات الصلاحيّة ، وما يتطابق عليه الشرائع الإلهيّة ، وإمَّا خُلُقِيّات وانفعاليّات ، وإمَّا استقرائيّات وإمّا اصطلاحيّات ، وهي إمَّا بحسب الإِطلاق ، و إِمّا بحسب أصحاب صناعة وملّة » (1).
فها إِنَّك ترى أَنَّ الشيخ الرئيس يَعُدَّ كون سلب مال الإِنسان قبيحاً ، من القضايا المشهورة وأنَّه ليس له مدرك سوى آراء العقلاء وأن الإِنسان لو خُلي وعقله ، و لم يؤدّب بقبول قضاياها ، لم يقض بقبحه.
وقد وافقه على ذلك المحقّق الطوسي في شرحه على الإِشارات.
يُلاحظ عليه : إنَّ القياس ينقسم إلى أقسام خمسة :
1 ـ برهاني ، 2 ـ جَدَلي ، 3 ـ خِطابي ، 4 ـ شِعري ، 5 ـ سَفْسَطي.
والأوّل منها يتركب من اليقينيّات وأصولها ستّة :
1 ـ الأوليّات ، 2 ـ المُشاهَدات ، 3 ـ التَجريبيّات ، 4 ـ الحَدْسِيّات ، 5 ـ المُتَواتِرات ، 6 ـ الفِطْريات.
وأَمّا الثاني ـ أعني القياس الجَدَلي - فيتألف من المشهورات والمُسَلَّمات ، سواء أكانت عند الكلّ أمْ عند طائفة خاصّة.
وعلى ذلك فالمشهورات من مبادئ الجَدَل ، وهو يقابل القياس البرهاني. فلو جعل التحسين والتقبيح العقليان من المشهورات وأدخل في القياس الجدلي وعرف بأنَّه لا مدرك له إلّا الشهرة التي لو خلي الإِنسان وعقله المجرّد ووهمه وحسّه ، ولم يؤدَّب بقبول قضاياها لم يقض بها ، يلزم إِنكار التحسين والتقبيح العقليين وإِثبات العقلائي منهما. وهو غير ما يتبنّاه القائلون بالعقلي.
أَضف إليه أنَّ جعلهما من المشهورات وإخراجهما من القياس البرهاني وإدخالهما تحت القياس الجدلي يُبطل جميع الأَحكام والآثار التي تترتّب على القول بالعقلي ، كما أَوضحناه. إِذْ على هذا ، لا يكون التحسين والتقبيح برهانيّاً ، فلا يكون ما يترتّب عليه مُبَرْهَناً به بل يُعَدّ من المشهورات التي تطابقت عليها آراء العقلاء. و من الممكن جدّاً اتّفاق العقلاء على ضدّها ، فعند ذلك يكون الحَسَن قبيحاً والقَبيح حسناً.
فإنْ قلت : إنَّ الشيخ الرئيس جعل المشهورات أعمّ ممّا هو من مبادئ الجَدَل ، فأدخل فيها الأوليّات حيث قال في صدر كلامه : « أمّا المشهورات من هذه الجملة فمنها أَيضاً هذه الأَوليّات ونحوها ممّا يجب قبوله ومنها الآراء المسمّاة بـ « المحمودة » وربّما خصّصناها باسم « المشهورة » إِذْ لا عمدة لها إلّا الشهرة ».
قلت : ما ذكرتم صحيح ، فإِنَّ المشهورات عنده أَعمّ من اليقينيّات وغيرها حتّى أَنَّ الأَوليّات لها اعتباران ، فمن حيث انّه يعترف بها عموم الناس تعدّ مشهورات ، ومن حيث إنّه يحكم بها محض العقل ويجب قبولها يقينيّات. وفي مقابل هذا القسم ، قسم آخر للمشهورات وهي غير يقينيّات ويتوقّف العقل الصِرْف في الحكم بها ، ولكن لعموم النَّاس بها اعتراف وتسمّى « آراء محمودة » ، وربّما يخصّص هذا القسم باسم المشهورات.
فالمشهورات تقال بالإِشتراك المعنوي على ما يعمّ اعتراف الناس بها ، ولها قسمان : يقينيّات ، وغير يقينيّات. ولكن الشيخ ومن تبعه عدُّوا التحسين والتقبيح من القسم الثاني ، وهو يستلزم إنكار التحسين والتقبيح العقليين وما بني عليه من الأحكام ، فلاحظ.
الهوامش
1. الإِشارات والتنبيهات ، ج 1 ، ص 219 ـ 220 ، قوله : « و إمَّا اصطلاحيّات » : يريد منه أن تكون مشهورة عند الكلّ كقولنا : « العلم بالمتقابلات واحد » ، فإِنَّ العلم بأبوة زيد لعمرو مساوق للعلم ببنوّة عمرو لزيد. أو عند أصحاب صناعة كقولنا : « التسلسل محال » ، و هو مشهور عند المناظرة. أو عند أصحاب ملّة كقولنا : « الإله واحد » و « الرِّبا حرام ».
مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 237 ـ 239
التعلیقات