التكنية بأبي بكر
التسميات
منذ 13 سنةالتسميات بين التسامح العلويّ والتوظيف الأمويّ ص 423 ـ 476 (لـ السيّد علي الشهرستاني)
الصفحة 423 ________________________________________
القسم الثاني
في التكنية بأبي بكر
________________________________________ الصفحة 424 ________________________________________
________________________________________ الصفحة 425 ________________________________________
كان يمكنني أن أبحث هذا الأمر ضمن القسم الأول من هذا الكتاب ; لأنّ كلمة (أبي بكر) عند العرب تقع تارة اسماً واُخرى كنية ، لكنّي آليت على نفسي أن أفرد لها قسماً خاصاً كي يمكنني توضيح بعض الأمور العالقة بها ; لاعتقادي بأ نّها تقع كنيةً أكثر من وقوعها اسماً ، وها أنا ذا أدخل في صلب الموضوع من خلال ثلاثة محاور .
المحور الأول : وفيه نبحث عن معنى (بكر) و (أبي بكر) عند العرب ، وهل أنّ هذه الكنية تأتي للمدح أم للذم ، أم لهما معاً ، أم لا هذا ولا ذاك ؟
المحور الثاني : وفيه نتكلم عن تاريخ إطلاق هذه الكلمة على (ابن أبي قحافة) ، وهل أنّها كانت له في الجاهلية أم اُطلقت عليه في الإسلام ؟ وهل أ نّها كنية خاصة به أم كُنِّي بها آخرون أيضاً ؟
________________________________________ الصفحة 426 ________________________________________
المحور الثالث : وفيه نشير إلى المسمَّين أو المكنَّين بأبي بكر من ولد أئمّة أهل البيت ، أو المكنين من الأئمّة ، وهل أنّ هذه الكنية هي من وضعهم (عليهم السلام) أم من وضع غيرهم ؟ وبيان دور المتأخرين في إبدال كنية بعض الطالبيين وجعلها اسماً لهم .
وأخيراً نتكلّم عن مدى صحّة الخبر المنسوب إلى الإمام الصادق(عليه السلام) : ما أرجو من شفاعة علي إلاّ وأنا أرجو من شفاعة أبي بكر مثله ، ولقد ولدني مرَّتين(1) .
____________
1- تهذيب الكمال 5 : 82 ، سير اعلام النبلاء 6 : 259 ، شرح اصول اعتقاد أهل السنة 7 : 1301 .
________________________________________ الصفحة 427 ________________________________________
المحور الأوّل
في معنى (بكر) و (أبي بكر)
ممّا لا شك فيه أنّ الحياة في الجزيرة العربية تختلف عن غيرها ; وذلك لطبيعتها الصحراوية ، ولكون الساكنين فيها بَدْواً رحّلاً يتنقّلون بين الصحارى والأودية والجبال بحثاً عن الكلأ والماء .
ونظراً لهذه الحالة الاجتماعية والطبيعية كانوا يهتمّون بالنبات والحيوان كثيراً .
فقد صنف النضر بن شميل (ت 204) مجموعته اللغوية المسماة بـ (الصفات) عن الزرع ، والكرم ، والبقول ، والاشجار ، والرياح ، والسحاب ، والأمطار ، وتبعه في ذلك أبو عمرو الشيباني (ت 206) بكتاب النخلة ، وأعقبهما الأصمعي (ت 213) بكتابه النخلة ، ثم ألف ابن الأعرابي (ت 231) كتاب صفة النخل وصفة الزرع والنبت والبقل .
وقد كتب أبو زيد الأنصاري (ت 215) كتاباً في التمر ، ومحمّد بن حبيب (ت 245) ، والحسين بن خالويه (ت 370) كتاباً في الشجر ، وقد ألّف أبو حاتم السجستاني (ت 255) في الكَرْم خاصة .
وقد كتب الجاحظ (ت 255) والدميري (ت 742) وغيرهما في الحيوان عموماً .
________________________________________ الصفحة 428 ________________________________________
وابن الكلبي (ت 204) في (نسب الخيل في الجاهلية والإسلام) ، وابن عبيدة (ت 210) والأصمعي (ت 216) في (الخيل) ، وابن الأعرابي (ت 231) والعيد جاني (ت 430) في (أسماء خيل العرب وأنسابها وفرسانها) ، والصاحبي التاجي (ت بعد 677) كتاب (الحلبة في أسماء الخيل المشهورة في الجاهلية والإسلام) ، إلى غيرها من عشرات الكتب المؤلفة في الخيل والبغال
والحمير .
كما ألّف النضر بن شميل (ت 204) والشيباني (ت 206) ، وسعيد بن اُوس الأنصاري (ت 215) ، والأصمعي (ت 216) ، وابن زياد الكلالي (ت 215) ، ونصر بن يوسف ـ تلميذ الكسائي ـ وأحمد بن حاتم (ت 231) ، وابن السكّيت (ت 246) ، والضبّي (ت 250) ، والجاحظ (ت 255) ، والسجستاني (ت 255) ، والرياشي (ت 257) ، وغيرهم كُتُباً في الإبل .
فالخيل والإبل رأس تلك الحيوانات ، وخصوصاً الإبل منها ، وذلك لمعرفتها بالطرق ، وصبرها على الأذى والبلاء ، وحملها للإنسان ومأكوله وملبوسه ومتاعه ، وقدرتها على تحمّل العطش لمدّة عشرة أيام ، وعيشها في الصحراء وعشقها للشمس ، وقدرتها في التعرف على النبات المسموم بالشم .
وقد جعل الله لها خصائص كثيرة اُخرى في وبرها وبولها ولبنها وشحمها وعظمها ، فقالوا عنها : إذا أحرق وبر الإبل ووضع على الدم سكن وقطع الدم ، و إذا شرب السكران من بول الإبل أفاق من حينه ، وإنّ بوله ينفع من ورم الكبد و يزيد في الباه ويكثر الشعر ، وان التمضمض بلبنه يحمي الأسنان من التسوّس وينفع الأسنان المأكولة ، وإنّ رائحة شحمه تخيف الحيتان فتولّي هاربة ، و إنّ عظمه يفيد الصرعى ، إلى غيرها من عشرات الخصائص والفوائد ، حتى قيل فيها : إن حملت أثقلت ، و إن سارت أبعدت ، و إن حُلِبت أروت ، و إن نُحِرت أشبعت .
________________________________________ الصفحة 429 ________________________________________
فالإبل عزٌّ لأهلها ، والغنم بركة كما جاء في الحديث النبوي الشريف(1) ، وقد حرم يعقوب على نفسه اكل الإبل ـ اجتهاداً من عند نفسه كما يقولون ـ ، وقد كانت لرسول الله ناقة سميت بالقصواء أو العصباء أو الجدعاء .
كل هذه الأمور جعلت العرب تعتزّ بالإبل وتهتمّ بها وتتفاخر بما لها منها ، وتؤلّف كتباً في صفاتها وخصائصها وأسمائها ، وتنظم الأشعار فيها ، وتسمّي لكل فترة من فترات عمرها أسماءً ، كالفصيل وابن مخاض وابن لبون و ...
ولو راجعت كتاب (الإفصاح في فقه اللغة) مثلاً لوقفت على أسماء كثيرة موضوعة لرأس البعير ، وعنقه ، وصدره ، وبطنه ، وكرشه ، وذنبه ، وضرعه ، وقوائمه ، وأنواع رضاعه .
كما أ نّهم ميّزوا بين الذكر والأنثى منها ، فوضعوا اسم الجمل على الذكر من الإبل ، والناقة للأنثى منها ، والبعير لهما معاً .
وقد أكّد سبحانه وتعالى على خصائص هذه الأنعام للناس في قوله (وَالاَْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَد لَّمْ تَكُونُواْ بَالغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)(2) .
وقوله تعالى (أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الاِْبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ)(3) .
وقوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعَامـاً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونِ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ
____________
1- مسند البزار 7 : 345 ، زوائد الهيثمي 1 : 487 عن ابن عمر ، والمعجم الكبير 24 : 426 ، ومسند أحمد 6 : 424 عن أم هانيء عن رسول الله .
2- النحل : 5 ـ 7 .
3- الغاشية : 17 .
________________________________________ الصفحة 430 ________________________________________
يَشْكُرُونَ)(1) .
ومن تلك الألفاظ الموضوعة (البكر) و (البكرة) وهي أسماء للفتيّ من الإبل ، ذلك الحيوان المحبوب والمهم في الجزيرة العربية .
وعليه فكنية (أبي بكر) لم تكن كنية بذيئة عند العرب ، وليس في اطلاقها على أحد عيبٌ ذاتي ، ولم تكن مختصه بأبن أبي قحافة فقد تكنى به اخرون من قبله ومن بعده .
أجل ، قد يؤتى بـ (أبي الفصيل) استنقاصاً للطرف ، وتصغيراً له ، وذلك حسب الاستعمال ، ومثلها في ذلك مثل الرّقاع قِبالَ الحذّاء والكنّاس
مقابل المنظِّف ، والنجار مقابل مهندس الديكور ، إلى غيرها من عشرات الكلمات .
والكنية قد يلحظ فيها نحوٌ من المعاني المُرادة ، وهي تشير إلى الحسن والقبح والخير والشر ، وقد تأتي تكريماً كما قد تأتي توهيناً أو إخباراً .
فالله سبحانه وتعالى لم يأت بذكر عمّ رسول الله أبي لهب في القرآن الكريم إكراماً له في قوله (تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَب وَتَبَّ) بل جاء بها ذماً
وتجريحاً(2) .
وكذا غيرها من الكنى التي توضع بعناية ما خيراً كانت أم شراً ، إخباراً كانت أم إعلاماً .
فالناس كانوا يكنون يزيد بن معاوية بأبي القردة لحبّه للقرود ، وأبا هريرة
____________
1- يس : 71 ـ 73 .
2- قال الزمخشري في سبب تكنية أبي لهب في القرآن ، بقوله : فإن قلت : لِمَ كنَّاهُ والكنيةُ مكرمة ؟ قلت : فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون مشتهراً بالكنية دون الاسم ، والثاني : أ نّه كان اسمه عبدالعزّى فعدل عنه إلى كنيته ، والثالث : أ نّه لمّا كان من أهل النار ومآله إلى النار ذات اللهب وافقت حال كنيته ، وكان جديراً بأن يذكر بها (انظر عمدة القارئ 8 : 232) .
________________________________________ الصفحة 431 ________________________________________
لاعتزاره بالهرة(1) ، والحجّاج أَبا وذحة(2) لجعلها في موضع من جسده كما يقال ، وسعيد بن حفص البخاري أَبا الفارة ، ومروان بن عبدالملك أبا الأكيس والمنصور العباسي أبا الدوانيق و ...
فاستعمال الكنى إذن مضافاً للعلمية يلحظ فيها شيئاً ما بعناية ما ، فلا توضع على الاخرين جزافاً واعتباطاً ، غالباً ، وإن كانت ربّما وضعت ارتجالاً
أيضاً .
والآن نسأل : ما وجه تكنية ابن أبي قحافة بأبي بكر ؟
ولماذا هذه الكنية بالخصوص لا غير ؟ وهل أ نّها كانت كنيته في الجاهلية أم أ نّها أُطلقت عليه في صدر الإسلام؟
بل ماذا يعني ما حكوه عن رسول الله من أ نّه غيّر اسم ابن أبي قحافة من عتيق أو عبد الكعبة إلى عبدالله ، وكنيته إلى أبي بكر ؟
فماذا كانت كنيته في الجاهلية حتّى يغيّرها رسول الله ؟ ولماذا لا يشيرون إلى هذه الكنية ؟
بل لماذا لا يكنّيه رسول الله بأبي عبدالرحمن وأبي محمّد وأمثال ذلك ؟ مع أ نّه(صلى الله عليه وآله) شخص رساليّ هادف في أعماله يدعو إلى توحيد الله والتسمية بما عُبِّد وحُمِّد وأفضل الأسماء والكنى والألقاب وخيرها .
هذه الأمور يجب توضيحها ، كي نعرف من خلالها دواعي وضع الآخرين هذه الكنية على المعصومين من أهل البيت (عليهم السلام) أو على بعض أولادهم .
____________
1- انظر عمدة القارئ 1 : 124 وفيه : وهو أول من كُنِّي بهذه الكنيته لهرة كان يلعب بها ; كناه النبي بذلك !!
2- شرح النهج 7 : 279 ، مجمع البحرين 4 : 485 .
________________________________________ الصفحة 432 ________________________________________
________________________________________ الصفحة 433 ________________________________________
المحور الثاني
متى كُنّي أبو بكر بأبي بكر ؟
ولِمَ ؟ وما هي كنيته السابقة ؟
من المعلوم أنّ الكنية تأتي غالباً لاشتهار خصلة أو انتساب إلى جهة أو صفة ، أو لتلازم وتقارب ، فبعضها تأتي صريحة وأخرى مضمرة .
قال الأهدل :
والمقتضي للتكنية اُمور :
الأوّل : الإخبار عن نفس ، كأبي طالب ، كُنِّي بابنه طالب ، وهذا هو الأغلب .
الثـاني : التفاؤل والرجاء ، كأبي الفَضْل ; لمن يرجو ولداً جامعاً للفضائل .
الثالث : الإيماء إلى الضدِّ ; كأبي يحيى لملك الموت .
الرابع : اشتهار الشخص بخصلة فيكنى بها ، إمّا بسبب اتّصافه بها في نفسه أو انتسابه إليها بوجه قريب أو بعيد ، كأبي الوفاء لمن اسمه إبراهيم ، وأبي الذبيح لمن اسمه إسماعيل أو إسحاق(1) .
____________
1- الكواكب الدرية ، للاهدل 1 : 52 .
________________________________________ الصفحة 434 ________________________________________
أمّا الاحتمال الاول فلا يمكن تصوّره في التكنية بأبي بكر لابن أبي قحافة ، لأ نّه ليس له ولد بهذا الاسم(1) .
أ مّا الاحتمال الثاني فقد يمكن تصوره إذا أُريد منه الدلالة على السخاء والكرم ، وهذا ما أراده الآخرون بأَخَرة ، ساعين للتدليل عليه من خلال أخبار موضوعة ; مثل أنّه اشترى بلال بن رباح وعامر بن فهيرة وخلّصهم من المشركين من أمواله الخاصة(2) ، أو أ نّه أنفق على النبي أربعين ألف درهم وفي لفظ دينار(3) ، أو أ نّه اشترى راحلتين بمبلغ 800 درهم وصرف عليها لأربعة أشهر أو ستّة وأعدّها كي يسافر عليهما النبي إلى المدينة(4) ، أو أ نّه بنى مسجد جميح ـ قبل مسجد قبا ـ في المدينة ... إلى غيرها من الأخبار الموضوعة .
غير أنّ هذه التكنية تصحّ على هذا الوجه الثاني إذا كانت من قِبَل الأب ـ قبل أو عند أو بعد ولادة أبنه ـ لا من قبل غيره ، والمعروف أنّ أباه لم يكنّه بهذه الكنية حتى يقال بوضعها له على التفاؤل ، خصوصاً وأن هذه الأخبار يكذّبها مال خديجة و إغناء الله لنبيّه ، فأبو بكر إن اشترى بلالاً ـ أو غيره من المسلمين ـ فقد اشتراهم من مال الرسول ، لكنه كان الواسطة في ذلك لصلته بالمشركين .
كما أنّ عدم قبول رسول الله الراحلتين من أبي بكر إلاّ بثمن ليؤكّد بأ نّه
كان لرسول الله مال يمكنه الإنفاق منه ، فلا داعي لمنّة أحد عليه وعلى
____________
1- انظر تحفة المولود 1 : 134 مثلاً .
2- تفسير ابن أبي حاتم 10 : 3441 ، وفيه : إنّ أبا بكر اعتق سبعة كلهم يُعَذَّب في الله : بلال ، وعامر بن فهيرة ، والنهدية ، وابنتها ، وزفيرة ، وأم عيسى ، وأمة بني المؤمل ، وانظر أيضاً زاد المعاد 3 : 23 ، والسيرة الحلبية 1 : 481 .
3- مناقب بن شهرآشوب 1 : 345 ، وعنه في بحار الأنوار 41 : 24 ، صحيح ابن حبان 15 : 274 ح 6859 ، موارد الظمآن 1 : 532 ح 2167 .
4- السيرة الحلبية 2 : 188 ، وانظر صحيح البخاري 2 : 804 ح 2175 و 3 : 1418 ح 3692 و 5 : 2187 ح 5470 ، مسند أحمد 6 : 198 ، صحيح ابن حبان 14 : 180و 15 : 286 .
________________________________________ الصفحة 435 ________________________________________
الرسالة(1) .
ويضاف إلى ذلك : أنّه لو كان لأبي بكر هذه الأموال فلماذا لا نعرفه تاجراً كتجار قريش مثل (أبي سفيان) و (أبي جهل) و (عبدالله بن جدعان) ، وكسعد بن عبادة من الأنصار ، وأمثالهم ممن عُرفوا واشتهروا بالغنى والوَفْر ؟ بل كلّ ما عرفناه أ نّه ابن أبي قحافة المنادي على مائدة عبدالله ابن جدعان التيمي(2) التاجر القرشي الفاسق وعبداً له ، وقد قال شاعر عائشة في حرب الجمل عمير بن الأهلب الضبيّ :
أطعنا بني تيم بن مرّة شِقوةً وهل تيم إلاّ أعبدٌ و إماءُ(3)
وفي رواية اخرى أ نّه قال :
كفينا بني تيم بن مرّة ما جنت وما تيم إلاّ أعبدٌ و إماء(4)
بل كيف يمكن تصحيح ما قيل عنه مع ما رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى عن عطاء بن سائب أ نّه قال : لما استُخلف أبو بكر أصبح غادياً إلى السوق وعلى رَقَبَتِهِ أثْوَابٌ يَتجِرُ بها فلَقِيَهُ عمرُ بن الخطّاب وأبو عُبيدة بن الجرّاح فقالا له : أين تريد يا خليفة رسول الله ؟ قال : السوق .
قالا : تَصْنَعُ ماذا وقَدْ وليتَ أمرَ المسلمينَ ؟
قال : فمِنْ أين أُطْعِمُ عِيالي ؟
قالا له : انْطَلِقْ حتى نَفْرِضَ لكَ شيْئاً ، فانطلق معهما ففرضوا له كلّ يوم شَطْرَ
____________
1- صحيح البخاري 3 : 1419 ح 3692 ، و 5 : 2187 ح 5470 ، مسند أحمد 6 : 198 ح 25667 . وفيه ان رسول الله(صلى الله عليه وآله) حينما أراد الخروج إلى المدينة ، قال له أبو بكر : فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين . قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالثمن .
2- انظر رجال الكشي : 277 الرقم 108 ، وعنه في الدرجات الرفيعة : 108 ، وبحار الأنوار 32 : 27 ، وفيه زيادة على نص الكشي هي : وهو ابن أبي قحافة حامل قصاع الودك لابن جدعان إلى اضيافه ؟!
3- تاريخ الطبري 3 : 50 ،الكامل في التاريخ 3 : 139 ، أنساب الأشراف 3 : 59 .
4- تاريخ دمشق 1 : 105 .
________________________________________ الصفحة 436 ________________________________________
شاة وما كسوه في الرأس والبَطْن .
فقال عمر : إليّ القضاء .
وقال أبو عُبيدة : و إليّ الفَيْءُ .
قال عمر : فلقد كان يأتي عَليّ الشَهْرُ ما يَخْتَصِمُ إليّ فيه اثْنَان(1) .
لا أدري كيف يعقل بناء أبي بكر مسجد جميح مع علمنا بأنّ مسجد قبا هو أوّل مسجد أُسّسس على التقوى لا مسجد جميح .
وكيف يسمح الجمحيّون بأن يبني أبو بكر مسجداً وهم الذين ضربوا عثمان بن مظعون وآذوه لإسلامه .
بل كيف تصح هذه الأقوال فيه وهو من أذّل بيت في قريش حسب قول أبي سفيان القرشي لعلي : غلبكم على هذا الأمر أذلّ بيت في قريش ، لأملأنها خيلاً ورجلاً(2) .
وكيف تتطابق تلك الادّعاءات مع ما روي عن أبي هريرة في مستدرك الحاكم إذ قال : لما قبض النبي(صلى الله عليه وآله) بلغ أهل مكة الخبر ، فسمع أبو قحافة الهائعة ، فقال : ما هذا ، قالوا : توفي النبي(صلى الله عليه وآله) .
قال : أمرٌ جليل ، فمن قام بالأمر من بعده ؟
قالوا : ابنك .
قال : ورضيت بنو مخزوم وبنو المغيرة ؟!
قالوا : نعم .
قال : اللّهم لا واضع لما رفعت ولا رافع لما وضعت(3) .
وفي نص الطبقات لابن سعد : لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع
____________
1- الطبقات الكبرى لابن سعد 3 : 184 .
2- سمط النجوم العوالي 2 : 402 ، زاد : يعني قبيلة أبي بكر وهي تيم فإنها أضعف قبيلة في قريش .
3- المستدرك على الصحيحين 3 : 274 قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
________________________________________ الصفحة 437 ________________________________________
الله(1) .
وفي المستدرك أيضاً عن مرة الطيب : جاء أبو سفيان بن حرب إلى علي بن أبي طالب(رضي الله عنه) فقال : ما بال هذا الأمر في أقلّ قريش قلةً وأذلّها ذلة ـ يعني أبا بكر ـ والله لئن شئت لأملأ نّها عليه خيلا ورجالا(2) .
وفي كنز العمال عن سويد بن غفلة ، قال : دخل أبو سفيان على علي والعباس فقال : يا علي وأنت يا عباس ، ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش وقُلِّها ـ وقلها القُلُّ ، بالضمَ القلة ، كالذل والذلة ، النهاية ـ والله لئن شئت لاملأنها عليه خيلا ورجالا(3) .
وفي تاريخ مدينة دمشق بزيادة : والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجالا ولأثورنها عليه من أقطارها(4) .
وفي مصنف عبدالرزاق : عن بن أبجر : قال لما بويع لأبي بكر(رضي الله عنه) جاء أبو سفيان إلى علي فقال : غلبكم على هذا الأمر أذل أهل بيت في قريش أما والله لأملأنها خيلا ورجالا(5) .
والإمام قال بهذا القول كي لا يستغل أبو سفيان الخلاف بينه وبين ابن أبي قحافة ، لأ نّه(عليه السلام) كان يعلم بأنّ أبا سفيان لم يرد نُصرة الإسلام و إِنّما أراد تحكيم المفاهيم القبلية فلذلك لم يُعْطِ أميرُ المؤمنين(عليه السلام) لأبي سفيان الذريعة من خلال نزاعه مع أبي بكر .
ولا يخفى عليك أنّ العرب الأقحاح ربّما آمنوا بالرسول وانقادوا له لأ نّه
____________
1- الطبقات الكبرى لابن سعد 3 : 184 .
2- المستدرك على الصحيحين 3 : 83 ، تاريخ الخلفاء : 67 .
3- كنز العمال 5 : 262 و 260 عن زيد بن علي ، تاريخ دمشق 23 : 465 وفيه : وأقلها بدل : وقلها .
4- تاريخ مدينة دمشق 23 : 465 وانظر مرقاة المفاتيح 4 : 53 أيضاً .
5- مصنف عبدالرزاق 5 : 451 .
________________________________________ الصفحة 438 ________________________________________
رسول من الله يحمل جميع صفات الكمال ، ومنها بسطة النسب وعزّ العشيرة وكرم الحسب ورفعته ، فأ مّا من لم ينصّ عليه الرسول ، ولا كان ذا نسب وحسب ، فإنّ العرب تأبى الانقياد له ، خصوصاً وأ نّه كان يأخذ الأموال بالتسلّط
والقهر والجبروت ، وهذا ما يأنف منه العربي الأصيل ، وسيأتيك كلام
أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في الكيفية التي يجب اتباعها في أخذ الزكوات
والصدقات(1) .
وعلى كلّ حال فإنّ وضاعة نسب أبي بكر لا مجال للمنازعة فيها ولذلك قال حطية :
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا فيا لعباد الله ما لأَبي بكرِ
وفي اخر :
أطعنا رسول الله إذ كان وسطنا فياعجباً ممن يطيع أبا بكر
وإنّ أُناساً يأخذون زكاتكم أقّل وربّ البيت عندي من الذَّرِّ
أَنعطى قريشاً ما لَنا إنَّ هذه لتك التي يَخْزَى بها المرء في القبرِ
وما لبني تيم بن مرة إمرةٌ علينا ولا تلك القبائل من فِهْرِ
لأنّ رسولَ اللهِ أَوْجَبُ طاعةً وأَولى بما استولى عليهم من الأمر
وقال الحارث :
كان الرسول هو المطاع فقد مضى صلّى عليه الله لم يستخلفِ
هذا مقالك يا زياد فقد أرى أَنْ قد أَتيتَ بقولِ سُوء مُخْلفِ
ومقالُنا أَنَّ النبيَّ محمّداً صلى عليه الله غيرُ مكلِّفِ
تَرَكَ الخلافةَ بعده لولاته ودَعا زيادٌ لامرئٌ لم يُعْرَفِ
إِن كان لابنِ أبي قُحافة إمرةٌ فلقد أَتى في أَمرِهِ بتَعَسُّفِ
____________
1- في صفحة : 456 .
________________________________________ الصفحة 439 ________________________________________
أم كيفَ سَلَّمَتِ الخلافةَ هاشمٌ لعَتِيقِ تيم كيفَ ما لم تَأنَفِ(1)
وفي كتاب الردة للواقدي والفتوح لابن اعثم قال حارثة : نحن إنما أطعنا رسول الله إذ كان حيّاً ، ولو قام رجل من أهل بيته لأطعناه ، وأمّا ابن أبي قحافة فما له طاعة في رقابنا ولا بيعة(2) .
قال الأشعث إني أعلم أن العرب لا تقر بطاعة بني تيم بن مرة وتدع سادات البطحاء من بني هاشم إلى غيرها ...(3)
وقال الأشعث بن قيس : لا تعطوا الزكاة لأنّني أعلم بأنّ العرب لا تُعطي الزكاة لبني تيم ولا يتركون بني هاشم ، ثم أنشد أشعاراً ...(4) .
وأخرج الدارقطني : أنّ أبا سفيان بن حرب قال لعلي بأعلى صوته لما بايع الناس أبا بكر : غلبكم على هذا الأمر أذل بيت في قريش ـ يعني قبيلة أبي بكر ، وهي تيم ، فإنّها أضعف قبيلة في قريش ، وإنما عزّت بكون أبى بكر وطلحة منها ـ أما والله لأملأنها عليه خيلاً ورجلا إن شئت ، فقال له علي : لا يا عدو الإسلام وأهله ، فما ضر ذلك الإسلام وأهله ، إذا تقرر هذا فالواجب على كل مؤمن بالله ورسوله ...(5) .
ومن كتاب من علي لمعاوية : ... وقد كان أبوك أبو سفيان جاءني في
الوقت الذي بايعتُ فيه أبا بكر فقال : ( لأنت أحق الناس بهذا الأمر من
غيرك وأنا أؤيدك على من خالفك ، ولئن شـئت لأملأنَّ المدينة خيلا ورَجْلاً
على ابن أبي قحافة ) فلن أقبل ذلك ، والله يعلم أن أباك قد فعل ذلك حتى كنت
أنا الذي أبيت عليه مخافة الفرقة بين أهل الإسلام ، فإنّ تعرف من حقّي
____________
1- كتاب الردة للواقدي : 177 ، الفتوح لابن الأعثم 1 : 480 .
2- كتاب الردة للواقدي : 171 ، والفتوح لابن الأعثم 1 : 47 .
3- كتاب الردة : 175 .
4- كتاب الردة للواقدي : 175 .
5- سمط النجوم العوالي 2 : 402 .
________________________________________ الصفحة 440 ________________________________________
ما كان أبوك يعرفه فقد أصبت رشدك ، و إن أبيت فها أنا قاصد إليك
ـ والسلام(1) .
كل هذه النصوص تجعلنا نأبى كون وضع كنية أبي بكر على ابن أبي قحافة جاء من باب التفاؤل والرجاء ; لأ نّه هو الذي نزل فيه قوله تعالى : (أاَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَي نَجْوَاكُمْ صَدَقَة)(2) .
فقد كان مشفقاً شحيحاً في أن يقدم بين يدي نجواه للرسول صدقة بسيطة ، فكيف يهب هذه الأموال الكثيرة ؟
والتفصيل في هكذا اُمور من المواضيع التي يمكن أن تبحث في السيرة النبوية وكتب الكلام لا هنا .
أ مّا الاحتمال الثالث فيعني وضع هذه الكنية تعريضاً بأبي بكر ، كأن يقال للأسود : (أبو البيضاء) ، أو للاعمى : (أبو بصير) ، وللأقرع : (أبو الجعد) ، وللأعرج : (ابن ذي الرجل) ، وهذا بعيد لو قلنا بوضع هذه الكنية من قِبَلِ رسول الله عليه .
أ مّا الاحتمال الرابع فقد يكون وارداً ; لكن بعناية ما ، وهو الذي دعا رسول الله أنّ يبدل كنيته من أبي الفصيل إلى أبي بكر ، ولم يكنّه بأبي عبدالرحمن
أو أبي محمّد ، كلّ ذلك مجاراة لكنيته الأُولى في الجاهلية ، كما رأيناه(صلى الله عليه وآله) قد
بدل كلمة (حزن) بـ (سهل) ، و (عاصية) إلى (جميلة) ، لأنّ من المعروف بأن أبا قحافة ـ وقيل هو أيضاً ـ كانا يناديان على مائدة ابن جدعان ، فكأنّ التكنية
بذلك جائه لكونه يرعى إبل ابن جدعان أو غيره ، فصارت كنية (أبي الفصيل)
ملازمة له .
و إليك تفصيل رؤيتنا كي تقف على أنّ كنية ابن أبي قحافة في الجاهلية
____________
1- الفتوح 2 : 559 .
2- المجادلة : 12 .
________________________________________ الصفحة 441 ________________________________________
وصدر الإسلام لم تكن أبا بكر بل هي أبي الفصيل ، ومن خلاله تقف على الدواعي لتبديله إلى أبي بكر .
ما هي كنية ابن أبي قحافة في الجاهلية وصدر الإسلام ؟
هناك نصوص في كتب التاريخ تشير إلى أنّ المناوئين لابن أبي قحافة كانوا يسمّونه في الجاهلية وصدر الإسلام بـ (أبي الفصيل) و (ذي الخلال) تعريضاً به .
والفصيل : ولد الناقة إذا فصل عن اُمه(1) ، واصله من القطع(2) ، بخلاف البَكْر ـ بالفتح ـ وهو الفَتِيّ من الإبل(3) ، وقيل : البكر الناقة التي ولدت بطناً واحداً والجمع أبكار(4) ، وهو أكبر من الفصيل(5) .
فأعداء أبي بكر كانوا يريدون أن يقولوا له : مَن أنت حتّى تُكَنَّى بأبي بكر ؟! ، إذ كُلُّ ما عرفناه عنك أنك ووالدك كنتما من الذين تدعون على مائدة عبدالله بن جدعان(6) ، فإنَّكَ أبا الفصيل لا أبا بكر .
أجلّ إنّهم كانوا يدعونه أيضاً (بذي الخلال) تشبيهاً بالفصيل الذي يراد فطمه من الرضاع ، فيغرزون في أنفه خِلالة ، فإذا لهج الفصيل بالرضاع نخس الخلال ضرع الناقة فمنعته من الرضاع(7) .
____________
1- المحكم والمحيط الأعظم 8 : 329 .
2- كشف المشكل 3 : 406 ، تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي 1 : 314 وانظر ادب الكاتب للصولي 1 : 54 .
3- المغرب في ترتيب المعرب 1 : 84 ، المحكم والمحيط الأعظم 7 : 20 ، شرح النووي على صحيح مسلم 8 : 77 .
4- المحكم والمحيط الاعظم 7 : 19 ، تهذيب اللغة 10 : 127 .
5- البكر والبكرة بمنزلة الغلام والجارية اللذين لم يدركا ، تهذيب اللغة 1 : 34 ولسان العرب 3 : 360 .
6- اُنظر التفسير الكبير 3 : 206 ، وتاريخ دمشق 1 : 436 .
7- انظر خزانة الأدب 2 : 392 ، غريب الحديث للخطابي 1 : 388 .
________________________________________ الصفحة 442 ________________________________________
و إليك الآن بعض النصوص الدالّة على تكنيته بأبي فصيل قبل إطلاق كنية أبي بكر عليه :
منها : ما جاء في كتب التفسير والتاريخ أنّ المشركين في مكّة فرحوا وشمتوا بالمسلمين لمّا غلبت فارسُ الرومَ ، لأنّ أهل الروم كانوا نصارى ومن أهل الكتاب ، أما فارس فكانت مجوسيّة وليس لها كتاب ، فنزلت الآية : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الاَْرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينِ لِلَّهِ الاَْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(1) ، لتسكين قلوب المؤمنين .
وجاء عن أبي بكر أ نّه قال للمشركين : لا يقرَّنَّ الله أعينكم ، فوالله لتظهرنَّ الرومُ على فارسَ بعد بضع سنين .
فقال له أبي بن خلف [من المشركين] : كذبتَ يا أبا فصيل ، اجعل بيننا أجلاً أُناحِبُكَ عليه ، والمُناحَبَةُ المُراهنة(2) .
وهذا النص ليشير إلى أنّ ابن أبي قحافة كان يكنّى في الجاهلية بـ (أبي الفصيل) ، وقد يكون قالها له استنقاصاً وتحقيراً .
وقريب من الخبر الآنف ما جاء في المحرّر الوجيز : أنّ أبا بكر خرج إلى المسجد فقال لهم : أَسَرَّكُم أن غُلِبَتِ الروم ، فإنّ نبيّنا أخبرنا عن الله تعالى أ نّهم سَيَغْلِبُونَ في بعض سنين .
فقال له أبيُّ بن خلف ، وأمية أَخوه ، وقيل : أبو سفيان بن حرب : تعال يا أَبا فصيل ـ يعرِّضون بكنيته بالبكر ـ فلنتناحب ، أي نتراهن في ذلك ، فراهنهم أبو بكر ...(3)
ومن المعلوم أنّ الكنية لا تظهر فجأة بين عشيّة وضحاها للأشخاص ، بل هي
____________
1- سورة الروم 1 ـ 4 .
2- تفسير مقاتل 3 : 3 ، الكشاف 3 : 472 ، تاريخ الطبري 1 : 468 .
3- المحرر الوجيز 4 : 328 .
________________________________________ الصفحة 443 ________________________________________
ملازمة لصاحبها منذ نشوئه وبلوغه ، والمشركون كانوا يعرفونه بهذه الكنية ولأجله خاطبوه بها .
والنصُّ السابق يحدِّد لنا تاريخ إطلاق كنية أبي الفصيل على ابن أبي قحافة عند عرب الجزيرة ، وأ نّهم كانوا لا يقبلون بإطلاق كنية أبي بكر عليه ، لأ نّه أصغر من أن يحملها ، وصدور هذا النص كان في بداية الدعوة الإسلامية وحين نزول آية (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) .
ولا أستبعد أن يكون المشركون كنوه بهذه الكنية استنقاصاً منه ، وهو يؤكّد لنا أنّ كنية أبي الفصيل كانت للاستنقاص لا المدح .
وعلى كلا التقديرين ، فإنّ كنية أبي الفصيل هي إحدى كُنّى أبي بكر قبل الإسلام سواء وُضعت من قبل أصدقائه أو من قبل أعدائه .
أبو الفصيل كنية ابن أبي قحافة في الجاهلية
قال التبريزي في اللمعة البيضاء : و (أبو قحافة) كنية عثمان بن عامر كما في القاموس ، وعثمان أبو أبي بكر .
واسم أبي بكر هو عبدالله ، فأبو بكر هو عبدالله بن عثمان بن عامر ، وكانت كنية أبي بكر في الجاهلية أبا الفصيل ، فلمّا أسلم كنّاه رسول الله(صلى الله عليه وآله) بأبي بكر .
وتكنية أبيه بأبي قحافة ، لأن القحف ـ بالكسر ـ نصف القدح من الخشب على مثال قحف الرأس ، وهو العظم الذي فوق الدماغ ، ثم يقال : اقتحف الرجل إذا شرب ما في الإناء ، والقحافة ـ بالضم ـ ما يقتحف من الإناء ، سُمِّي عثمان المذكور بأبي قحافة ، إمّا لكونه مضيفاً للناس ، أو لكونه داعياً لضيافة الناس ، أو لكونه طبّاخاً ونحو ذلك . والمشهور المأثور أنّه كان داعياً لضيافة عبدالله بن جدعان في الجاهلية(1) .
____________
1- اللمعة البيضاء للتبريزي الأنصاري : 651 .
________________________________________ الصفحة 444 ________________________________________
وفي مرآة العقول في شرح أخبار الرسول : وقيل أنّه [أي التكنّي بأبي الفصيل ]كان كنيته قبل أظهار الإسلام ، وبعده كنّاه النبي بأبي بكر ، وروي أنّ أبا سفيان قال يوم غصب الخلافة : لأملأنها على أبي فصيل خيلاً ورجلاً .
وذكر السيّد الشريف في بعض حواشيه : وقد يعتبر في الكنى المعاني الأصلية ، كما روي أنّ في بعض المفردات نادى بعضُ المشركين أبا بكر : أبا الفصيل(1) .
قال الشيخ محمّد العربي التباني الجزائري : والناس كَنَّوا أبا بكر بأبي الفصيل احتقاراً له ، وقالت قبيلة أسد وفزارة : لا والله لا نبايع أبا الفصيل أبداً ، فتقول لهم خيل طيّ : أشهد ليقاتلنكم حتى تكنّوه أبا الفحل الأَكبر(2) .
أبو فصيل كنية ابن أبي قحافة بعد وفاة رسول الله أيضاً
روى المدائني عن مسلمة ، قال : قُبض رسول الله وأبو سفيان على صدقة نجران ، فقال : من قام بالأمر ؟ قالوا : أبو بكر ، قال : أبو الفصيل ؟! إنّي لأرى أمراً لا يُسكّنه إلاّ الدم(3) .
وفي نص الطبري وابن الأثير والنص عن الثاني : لمّا اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول : إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ دم ، يا آل عبدمناف ، فيمَ أبو بكر من أموركم ؟! أين المستضعفان ، أين الأذلان علي والعباس ؟! ما بال هذا الأمر في أقلّ حيّ من قريش ؟! ثم قال لعلي : ابسط يَدَك أبايعك ، فوالله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجلا ، فأبى علي(عليه السلام) ، فتمثل [أبو سفيان] بشعر المتلمس .
____________
1- مرآة العقول 26 : 118 . وانظر شرح اُصول الكافي للمازندراني 12 : 270 .
2- انظر تحذير العبقري 2 : 140 ، والنص موجود في تاريخ الطبري 2 : 261 ، البداية والنهاية 6 : 317 .
3- أنساب الأشراف 5 : 12 ، وفي طبعة زكار 5 : 18 .
________________________________________ الصفحة 445 ________________________________________
ولن يقيمَ على خسف يُرادُ به إلا الأذلان عَيْرُ الحيِّ والوَتِدُ
هذا على الخسفِ مربوطٌ برُمَّتِهِ وذا يُشَجُّ فلا يبكي له أحدُ
فزجره علي وقال : والله إنّك ما أردت بهذا إلاّ الفتنة ، و إنّك طالما بغيت للإسلام شرّاً ، لا حاجة لنا في نصيحتك(1) .
وعن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : إنّ أبا سفيان كان حين قبض النبي غائباً ; بَعَثَ به مُصَدِّقاً(2) .
فلمّا بلغته وفاة النبي قال : من قام بالأمر بعده ؟ قيل : أبو بكر ، قال : أبو الفصيل ؟! أني لأَرى فتقاً لا يرتقه إلاّ الدم(3) .
وروى أحمد بن عمر بن عبدالعزيز ، عن عمر بن شبّة ، عن محمّد بن منصور ، عن جعفر بن سليمان ، عن مالك بن دينار ، قال : كان النبيّ قد بعث أبا سفيان ساعياً فرجع من سعايته ، وقد مات رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فلقيه قوم فسألهم ، فقالوا : مات رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فقال : من ولي بعده ؟ قيل : أبو بكر ، قال : أبو فصيل ؟! قالوا : نعم ، قال : فما فعل المستضعفان علي والعباس ! أمّا والذي نفسي بيده لأرفعنّ لهما من أعضادهما(4) .
ومقولة أبي سفيان تشير إلى مرتكز فكريّ كان يحمله عن ابن أبي قحافة ، وأ نّه كان يعرفه في الجاهلية بأبي الفصيل لا بأبي بكر ، أي أ نّه أراد أن يقول : تعنون أبا فصيل ، أبا بكر ؟! ما كنّا نعرفه في الجاهلية إلاّ بأبي الفصيل .
فقد يكون كلامه هو إخبار عمّا عرفه في الجاهلية ، وقد يكون تعريضاً به ، وعلى كلا التقديرين نفهم من إطلاق كلمة أبي فصيل عليه أ نّها كانت كنية معروفة له عند غالب قريش ، وأ نّها لم تكن من وضع بني هاشم وأعدائه من أصحاب
____________
1- تاريخ الطبري 2 : 237 ، الكامل في التاريخ 2 : 189 والنص منه .
2- أي جامعاً آخِذاً للصدقات عاملاً عليها .
3- أنساب الأشراف 1 : 589 وفي طبعة زكار 2 : 271 .
4- شرح نهج البلاغة 2 : 44 ، مرآة العقول 26 : 346 .
________________________________________ الصفحة 446 ________________________________________
الردّة كما قد يُدِّعى .
وجاء عن أبي سفيان أيضاً أ نّه نادى الناس بقوله : يا بني هاشم ، يا بني عبدمناف ، أرضيتم أن يلي عليكم أبو فصيل ....(1)
وجاء في تاريخ الطبري بسنده عن حماد بن سلمة بن ثابت ، قال : لما استخلف أبو بكر ، قال أبو سفيان : ما لنا ولأبي فصيل ...(2)
أجل ، إنّ أئمّة أهل البيت ذكرو ابن أبي قحافة أيضاً بهذه الكنية .
فجاء في بصائر الدرجات مسنداً عن أبي جعفر الباقر أ نّه قال : لما كان رسول الله في الغار ومعه أبو الفصيل ، قال رسول الله : إنّي لأنظر الآن إلى جعفر وأصحابه الساعة تعوم بهم سفينتهم في البحر ، فقال أبو الفصيل : أتراهم يا رسول الله ! الساعة ؟! ... وأسرَّ في نفسه أ نّه ساحر(3) .
وفي الكافي أنّ الإمام الصادق سُئل عن قوله تعالى (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً) ، قال : نزلت في أبي الفصيل(4) .
وفي تفسير العياشي أيضاً أنه(عليه السلام) سُئل عن أعداء الله ؟ فقال : الأوثان
الأربعة .
فقيل : من هم ؟
فقال : أبو الفصيل ، ورمع ، ونعثل ، ومعاوية ، ومن دان بدينهم ، فمن عادى هؤلاء فقد عادى أعداء الله(5) .
____________
1- الارشاد 1 : 190 ، اعلام الورى 1 : 271 .
2- تاريخ الطبري 2 : 237 حوادث سنة احدى عشر .
3- بصائر الدرجات : 125 الجزء التاسع : 442 باب 1 ح 13 وعلق المجلسي في الفتن من بحاره 30 : 193 عليه بالقول : ويكنّى عن أبي بكر بأبي الفصيل لقرب معنى البكر وهو الفتي من الابل ، وذكره في خاتمة المطاعن مستدركاً 31 : 607 ح 62 .
4- الكافي 8 : 204 ح 246 وانظر شرح الكافي للمازندراني 1 : 140 و 12 : 270 وبحار الأنوار 24 : 121 ، 30 : 268 ، 35 : 375 عن الكافي .
5- تفسير العياشي 2 : 116 ح 155 وعنه في بحار الأنوار 27 : 58 ، 31 : 607 .
________________________________________ الصفحة 447 ________________________________________
كلّ هذه النصوص تشير إلى أنّ كنية ابن أبي قحافة الأصلية هي (أبو فصيل) عند أهل البيت ومناوئي ابن أبي قحافة ، وتتأكد صحّة دعوانا حينما نرى
الآخرين لا يذكرون كنيته السابقة مع تأكيدهم على تغيير رسول الله لاسمه من عبدالكعبة أو عتيق إلى عبدالله ، فما هي الكنية السابقة له إذن إن كانت غير
ما قلناه ؟!
ذو الخلال مدح لأبي بكر أم ذمّ ؟
ذكرت كتب السيرة والتاريخ وجود لقب (ذي الخلال) لأبي بكر ، فقد جاء في (موضح أوهام الجمع والتفريق) عن رافع بن عمرو ـ رجل من طي ـ : أنّ رسول الله بعث عمرو بن العاص على جيش في ذات السلاسل ، وبعث في ذلك الجيش أبا بكر وعمر وسراة أصحابه رضي الله عنهم ، فانطلقوا حتى انتهوا إلى جبل طي ، فقالوا : انظروا لنا رجلاً يدلّنا على الطريق يأخذ بنا المفاوز ، فقالوا : لا نعلمه إلاّ رافع بن عمرو ، فإنّه كان رجلاً ربيلاً في الجاهلية ، قال ، فقلنا : ما الربيل ؟ قال : اللص الذي يأخذ القوم وحده ثم يأخذ في المفاوز .
قال : فانطلقت معهم حتى إذا رجعوا من المكان الذي حاجتهم فيه ، قال : أتيتُ أبا بكر فقلت : ياذا الخلال توسَّمتك من بين أصحابك ، قال : ولِمَ ؟ قال : لتعلمني ، قال : قد اجتهدت ، قال ، فقلت : أردتُ أن تخبرَني بشيء يسير إذا فعلتُهُ كنت معكم ومنكم ، قال : تحفظ أصابعك الخمس ، قال : قلت : نعم ، قال : فذكر شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله(1) .
وقد اعتبره بعض مدحاً له واعتبره بعض آخر ذماً له ، ولكلِّ من الطرفين نصوص في ذلك تؤيدهم ، وبما أن الأمر مختَلَف فيه ، فعلينا نقل تلك النصوص لنتعرف هل أ نّه مكرمة له أو منقصة ؟ فقبيلة هوازن كانت تعيّره بهذا اللقب وتعتبره
____________
1- موضح اوهام الجمع والتفريق 2 : 86 ، وانظر تاريخ دمشق 18 : 10 .
________________________________________ الصفحة 448 ________________________________________
منقصة لمن اشتهر بأبي بكر(1) ، لكن هناك من يقول أ نّها دالة على زهده وتقشّفه ، لأ نّه تصدّق بجميع ماله قبل الفتح وبعده .
ففي القاموس وتاج العروس والنص للاول ـ قال : وذو الخلال أبو بكر الصديق(رضي الله عنه) ، لأ نّه تصدَّق بجميع ماله وخَلَّ كساءَهُ بخِلال ، انتهى(2) .
وروى البغوي ، في هذا الأطار : أن جبرئيل(عليه السلام) نزل على النبي(صلى الله عليه وآله) فقال : مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خَلَّها في صدره بخلال .
فقال : أنفق ماله عليَّ قبل الفتح .
قال : فإن الله تعالى يقول : اقرا عليه السلام وقل له : أراض أنت عنّي في فقرك هذا أم ساخط . فقال : رسول الله(صلى الله عليه وآله) يا أبا بكر إن الله عزّوجلّ يقرأ عليك السلام ويقول لك أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط ؟
فقال أبو بكر : أأسخط على ربي ، إنّي عن ربي راض ، إنّي عن ربي راض ، ولهذا قدّمه الصحابة على أنفسهم وأقرُّوا له بالتقدّم والسبق(3) .
وفي الوشاح لابن دريد : كان [أبو بكر] يلقّب (ذو الخلال) لعباءة كان يخلّها على صدره(4) .
وفي مصنف ابن أبي شيبة ، عن رافع بن أبي رافع ، قال : رأيت أبا بكر كان له كساء فدكي يخلّه عليه إذا ركب ، ونلبسه أنا وهو إذا نزلنا ، وهو الكساء الذي عيّرته به هوازن(5) .
كل هذه النصوص تؤكد بأنّ لقب (ذو الخلال) جاء مدحاً لأبي بكر لا ذماً له ،
____________
1- مصنف بن أبي شيبة 7 : 92 ح 34434 ، تاريخ دمشق 30 : 300 .
2- القاموس المحيط 1 : 1285 ، وانظر تاج العروس 28 : 426 .
3- تفسير البغوي 4 : 295 وعنه ابن كثير في تفسيره 4 : 295 .
4- عمدة القارى 16 : 172 وانظر الإكمال 3 : 184 .
5- مصنف بن أبي شيبة 5 : 173 و 7 : 92 ، المطالب العالية 9 : 580 ، وانظر تاريخ دمشق 30 : 332 ، 333 .
________________________________________ الصفحة 449 ________________________________________
فلو كان كذلك فكيف تجرؤ هوازن على تعييره به ؟ وأي عيب أو منقصة في العباءة حتى تعيّره بها هوازن ؟!!
ألم يكن التعيير عند العرب هو إظهار عيب الطرف أو ما فيه مسبة له ؟
فما هو العيب الكامن في هذا اللقب إذن ؟ فكل ما قرأناه كان مدحاً لابن أبي قحافة لا ذماً ، فهل أن النهج الحاكم حرَّفوا هذا اللقب من الذّم إلى المدح ، أم حقاً أنّ هذا اللقب وضع للمدح ؟ فقد افتخر النبي بالفقر ، ونزلت آيات تمدح الفقراء والمستضعفين ، مؤكّدة بأنّ غالب أتباع الأنبياء هم من المستضعفين ، وبتعبير القرآن الكريم ـ حكاية لقول الكافرين ـ الأرذلون بقوله تعالى (وَاتَّبَعَكَ الاَْرْذَلُونَ) .
وكذا كنية أبي تراب كانت مدحاً لعلي لكنّهم جعلوها ذماً له ، وكما أنّ زمزم وطيبةـ المدينة ـ هما من الأسماء الحسنة والممدوحة ، لكنّهم أبدلوها بأمّ جعلان والخبيثة(1) .
والآن نسأل : هل أنّ هوازن عيّرت ابن أبي قحافة قبل إسلامه ظاهراً أم بعده ؟ فلو تأملت النصوص لرأيتها تؤكّد الثاني ، لأ نّهم قالوا : أ ذا الخلال نبايع بعد رسول الله(2) .
ونحن لا يمكننا أن نفهم مقصود هوازن وسبب تعييرها لابن أبي قحافة إلاّ بعد أن نتعرَّف على معنى كلمة الخلال في لغة العرب ، وكيفية ربطها بنزاعات الردّة ، وهل أنّ هذا يرتبط بنحو وآخر بكلام أبي بكر لمخالفيه في أ نّه لا يتركهم حتّى و إن منعوه عقال بعير ؟!
____________
1- مر عليك في صفحات : 193 إلى 212 .
2- مصنف بن أبي شيبة 7 : 92 ، لسان العرب 11 : 214 .
________________________________________ الصفحة 450 ________________________________________
معنى الخلال في لغة العرب
الخلال : العود الذي يتخلل به ، وما خُلَّ به الثوب أيضاً ... والخشبات الصغار اللواتي يخلّ بها ما بين شقاق البيت .
والخلال : عود يجعل في لسان الفصيل لئلاّ يرضع ولا يقدر على المص ، قال امرؤ القيس :
فكَرَّ إليه بمِبْراتِهِ كما خَلَّ ظَهْرَ اللسان الُمجِرّ
وقيل : خَلَّهُ شَقَّ لسانه ثم جعل فيه ذلك العود .
وفصيل مخلول : إذا غرز خلال على أنفه لئلاّ يرضع أُمه ، وذلك أ نّها تزجيه إذا أوجع ضرعَها الخلالُ ...(1)
وفي غريب القرآن للأصفهاني :
والخلال لما تخلّل به الأسنان وغيرها ، يقال : خَلَّ سِنَّهُ ، وخلَّ ثوبه بالخلال يخلها ، ولسانَ الفصيل بالخلال ليمنعه من الرضاع(2) .
وعن الأصمعي قال : إذا ارادوا أن يمنعوا الفصيل من الرضاع خلّوه : أدخلوا في أنفه من داخل خلالاً محدَّد الرأس بأسفله حجنة(3) .
وفي خزانة الأدب للبغدادي : إنّ الفصيل إذا لهج بالرضاع جعلوا في أنفه خلالة محددة ، فإذا جاء يرضع أ مّه نخستها تلك الخلالة فمنعته من الرضاع(4) .
والآن بعد كلّ هذا التفصيل هل يمكننا ربط مقولتي (أبي الفصيل) و (ذي الخلال) من قبل مناوئيه أثناءَ الأحداث التي تلت وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) بقول ابن أبي قحافة (لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه)(5)، والقول بأنّ هناك ارتباطاً بين الفصيل
____________
1- لسان العرب 11 : 214 .
2- المفردات في غريب القرآن للاصفهاني 1 : 153 .
3- غريب الحديث للحربي 1 : 263 .
4- خزانة الأدب 2 : 392 .
5- موطأ مالك 1 : 269ح 605 ، مصنف بن أبي شيبة 6 : 438 ح 32735 ، تاريخ الطبري 2 : 255 ، البداية والنهاية 6 : 312 ، شرح النهج 17 : 209 . والعقال : الحبل الذي يعقل به البعير الذي كان يؤخذ في الصدقة .
________________________________________ الصفحة 451 ________________________________________
والخلال والعقال ، وأنّ لابن أبي قحافة ارتباطاً نفسياً مريباً بالناقة ، أم أنّ ذلك يشير إلى اهتمامه باُمور الصدقات ؟
وإذا كان يشير إلى اهتمامه بالصدقات فلماذا لا يشير إلى الغلاّت الأربع أو النقدين ، أو البقر والغنم ؟!
ألم يكن قوله : لو منعوني حبّة حنطة ، أو تمرة واحدة ؟ أبلغ وأوفى لإيصال المطلوب ، وهو مما يبين اهتمامه وحرصه على الزكوات أكثر ؟
وأ يّهما هو الأبلغ للدلالة على حرص الخليفة على حقوق المسلمين ، أهي مقولته تلك ، أو ما قاله الإمام علي ممتنعاً من قبول ملفوفة الأشعث بن
قيس ، والتي اعتبرها كأ نّها عجنت بريق الحية ، قائلاً : وأعجبُ من ذلك
طارقٌ طرقـنا بملفوفة في وعائها ، ومعجونة شـنئتها كانّها عجنت بريق حية
أو قيئها .
فقلت : أصلة ، أم زكاة ، أم صدقة ؟ فذلك محرَّم علينا أهل البيت .
فقال : لاذا ولا ذاك ولكنها هدية .
فقلت : هبلتك الهبول ! أعن دين الله أتيتني لتخدعني ؟ أمختبط أنت أم ذو جنة ، أم تهجر ، والله لو أُعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته ، وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ...(1)
وعليه فالقبائل العربية مثل هوازن وقريش وغيرها كانت تعيّر ابن أبي قحافة بأبي الفصيل وذي الخلال ، و إنّ تأكيدهم على هاتين الكلمتين تحمل معاني كثيرة واضحة للبصير العالم .
____________
1- نهج البلاغة 346 الخطبة 224 ، شرح النهج 11 : 245 ، خلاصة الأثر 1 : 206 .
________________________________________ الصفحة 452 ________________________________________
وهي تؤكّد أيضاً بأنّ كنية (أبي بكر) لم تكن لابن أبي قحافة في الجاهلية ، بل وضعت له لاحقاً .
وخلاصة الكلام وفصيل الخصام : هو أنّ عتيقاً أو عبد الكعبة كان وضيع النسب والحسب حسبما ذكرته كتب التاريخ ، فكان فقيراً محتاجاً كأبيه ، يشتغل بوضيع الأعمال ، وكان يُكنّى بـ (أبي الفصيل) ويلقّب بـ (ذي الخلال) ، لاشتغاله عند ابن جدعان أو غيره برعاية الانعام ، والاهتمام بصغارها إيلاداً ورضاعاً ، فلذلك أطلق عليه في الجاهلية كنية (أبي الفصيل) ولُقب بـ (ذي الخلال) ، وكان لا يُعرف إلاّ بذلك .
ويظهر أ نّه كان يتنفّر من هذه الكنية وهذا اللقب أشدّ التنفّر لحرمانه من نعمة البعران التي يرعاها .
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمولُ
فلما تولّى أزمّة الأمور أراد مَحْوَ ما كان يعرف بها ، فبدأ بذلك هو وأعوانه وأهل ودّه ، فادّعى أو ادُّعي له بأنّ اسمه في الجاهلية كان عبدالله ، مع أ نّه كان يسمى : عبدالكعبة .
وادُّعي أنّ الله أغنى النبيّ بماله ، مع أ نّه كان لا يملك شبع بطنه(1) .
وادّعي له بأ نّه أوّل من أسلم ، مع أ نّه سابع أو ثامن من اسلم .
وادّعي له لقب الصديق مع أ نّها لقب للإمام علي حسبما قال(عليه السلام) .
وادُّعي له بأنّ كنيته أبو بكر ، مع أنّ كنيته أبو الفصيل .
وفيما كان يُدعى ويلقب بـ (ذي الخِلال) عيباً له بُدِّل ذلك وجعل مدحاً له .
وهكذا تمتد قائمة التغييرات والتبديلات ، غير أنّ المهم هنا هو الكنية ، إذ قد عرفنا أ نّه كان يكنّى في الجاهلية بـ (أبي الفصيل) ويلقب بـ (ذي الخلال) وحين
____________
1- مر عليك في صفحة 442 كلام عمر له : (تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين ؟ قال : فمن اين اطعم عيالي ؟) .
________________________________________ الصفحة 453 ________________________________________
صار (خليفة) أراد أن يشبع نهمه من الإبل ، فراح يجرّد خصومه من الإبل ، وكانت الحروب المسمّاة بـ (حروب الردة) حرب أموال مدارها الإبل ، إذ لم نعهد ولم نقرأ ولم نَرَ أبا بكر يحارب أحداً على منعه زكاة النقدين ، أو الغلات الأربع ، أو حتى البقر والأغنام ، بل انحصرت حروبه بـ (دعاوي إبليّة) أو قل (فصيلية) أو (خلالية) ، ولذلك راح مناوؤه يشيرون إلى ذلك ويصرّحون بكل وضوح بأنّ الحرب معهم ليست دينية زكويّة ، و إنما هي من أجل الإبل ، تجريداً لهم عن مصادر القوّة آنذاك ، و إشباعاً لنهمه .
و إذا أردت التأكّد من ذلك فانظر إلى تأكيد أبي بكر على (عقال بعير) دون البواقي ، واقرأ معي ما فعله زياد بن لبيد عامل أبي بكر على صدقات حضرموت :
فقد أخذ يوماً من الأيام ناقة من إبل الصدقة فوسمها وسرّحها مع الإبل التي يريد أن يوجّه بها إلى أبي بكر ، وكانت هذه الناقة لفتىً من كندة يقال له زيد بن معاوية القشيري ، فأقبل إلى رجل من سادات كندة يقال له حارثة بن سراقة ، فقال له : يابن عم ، إنّ زياد بن لبيد قد أخذ ناقة لي فوسمها وجعلها في إبل الصدقة ، وأنا مشغوف بها ، فإن رايت أن تكلمه فيها فلعله أن يطلقها ويأخذ غيرها من إبلي ، فإني لست أمنع عليه .
فأقبل حارثة بن سراقة إلى زياد بن لبيد ... فكلمه وأبى زياد وشبّت الحرب واستعرت ، وكان فيما قاله حارثة بن سراقة : نحن إنّما اطعنا رسول الله إذ كان حياً ، ولو قام رجل من أهل بيته لأطعناه ، وأ مّا ابن أبي قحافة فماله طاعة في رقابنا ولا بيعة(1) .
فهؤلاء لم يكونوا مانعين للزكاة ، بل استاءُوا من جَشَعَ أبي بكر وعماله ، وطمعه في إبلِهم ، خصوصاً وأ نّهم كانوا قد رأوا كيف كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يأخذ منهم الصدقات والزكوات بكلّ رقة ولطف ، بحيث كان المسلمون يعطون ذلك
____________
1- انظر تفصيل القضية في كتاب الردة للواقدي : 169 ـ 171 .
________________________________________ الصفحة 454 ________________________________________
عن طيب خاطر .
و إذا أردت المزيد فقارن ما فعله أبو بكر وعمّاله في كيفية أخذ الزكوات بما كتبه أمير المؤمنين(عليه السلام) لعماله على الصدقات حيث كتب لهم :
انْطلِقْ عَلَى تَقْوَى اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَلاَ تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً وَلاَ تَجْتَازَنَّ عَلَيْهِ كَارِهاً ، ولاَ تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ حَقٍّ أَبْيَاتَهُمْ ، مَالِهِ .
فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى الْحَيِّ فَآنْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ ، ثُمَّ آمْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَآلْوَقَارِ ; حَتَّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ ، وَلاَ تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ ، ثُمَّ تَقُولَ : عِبَادَ اللهِ ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِي اللهِ وَخَلِيفَتُهُ ، لآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللهِ فِي أَمْوَلِكُمْ ، فَهَلْ للهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَى وَلِيِّهِ ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لاَ فَلاَ تُرَاجِعْهُ .
وَإِنْ أَنْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ ، فَآنْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ أَوْ تَعْسِفَهُ أَوْ تُرْهِقَهُ فَخُذْ مَا أَعْطَاكَ مِنْ ذَهَب أَوْ فِضَّة .
فَإِنْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلاَ نَدْخُلْهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ ، فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَهُ ، فَإِذَا أَتَيْتَهَا فَلاَ تَدْخُلْ عَلَيْهَا دُخُولَ مُتَسَلَّط عَلَيْهِ وَلاَ عَنِيف بِهِ . وَلاَ تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً وَلاَ تُفْزِعَنَّهَا ، وَلاَ تَسُوءَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا .
وَاصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ ، فَإِذَا اخْتَارَ فَلاَ تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ . فَلاَ تَزَالُ كَذلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللهِ فِي مَالِهِ ; فَآقْبِضْ حَقَّ اللهِ مِنْهُ فَإِن اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ ، ثُمَّ اخْلِطْهُمَا ثُمَّ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلاً حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ اللهِ فِي مَالِهِ .
وَلاَ تَأْخُذَنَّ عَوْداً وَلاَ هَرِمَةً وَلاَ مَكْسُورَةٌ وَلاَ مَهْلُوسَةً ، وَلاَ ذَاتَ عَوَار ، وَلاَ تَأْمَنَنَّ عَلَيْهَا إِلاَّ مَنْ تَثِقُ بِدِينِهِ ، رَافِقاً بِمَالِ آلْمُسْلِمينَ حَتَّى يُوَصِّلَهُ إِلَى وَلِيِّهِمْ فَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ .
وَلاَ تُوَكِّلْ بِهَا إِلاَّ نَاصِحاً شَفِيقاً وَأَمِيناً حَفِيظاً ، غَيْرَ مُعْنِف وَلاَ مُجْحِف ، وَلاَ مُلْغِب وَلاَ مُتْعِب .
________________________________________ الصفحة 455 ________________________________________
ثُمَّ آحْدُرْ إِلَيْنَا مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ نُصَيِّرْهُ حَيْثُ أَمَرَ اللهُ بِهِ ، فَإِذَا أَخَذَهَا أَمِينُكَ فَأَوْعِزْ إِلَيْهِ أَلاَّ يَحُولَ بَيْنَ نَاقَة وَبَيْنَ فَصِيلِهَا ، وَلاَ يَمْصُرَ لَبَنَهَا فَيَضُرَّ ذلِكَ بِوَلَدِهَا ; وَلاَ يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً ، وَلْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذلِكَ وَبَيْنَهَا ، وَلْيُرَفِّهْ عَلَى اللاَّغِبِ ، وَلْيَسْتَأْنِ بِالنِّقِبِ وَالظَّالِعِ ، وَلْيُورِدْهَا مَا تَمُرُّ بِهِ مِنَ الْغُدُرِ .
وَلاَ يَعْدِلْ بِهَا عَنْ نَبْتِ الاَْرْضِ إِلَى جَوَادِّ الطُّرُقِ ، وَلْيُرَوِّحْهَا فِي السَّاعَاتِ ، وَلْيُمْهِلْهَا عِنْدَ النِّطَافِ وَالاَْعْشَابِ ، حَتَّى تَأْتِيَنَا بِإِذْنِ اللهِ بُدْناً مُنْقِيَات ، غَيْرَ مُتْعَبَات وَلاَ مَجْهُودَات ، لِنَقْسِمَهَا عَلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ـ فَإِنَّ ذلِكَ أَعْظَمُ لأَِجْرِكَ ، وَأَقْرَبُ لِرُشْدِكَ ، إِنْ شَاءَ اللهُ .
فالفرق إذن بعيد بعد الأرض عن السماء بين كيفية أخذ الزكاة عند النبي والوصي ، وكيفيتها عند أبي بكر وعمّاله .
وهذا بنظرنا هو السبب الواقعي الذي جعل مناوئي أبي بكر يذكّرونه بكنيته القديمة ولقبه القديم (أبو الفصيل) (أبو الخلال) ، وذلك أ نّه لَهج ولَجّ بأخذ الإبل ، بل أخذ خصوص الإبل الجيّدة منها بالقَسْر ، فامتنع عليه بعض من امتنع لسيرته وسيرة عمّاله التعسفية وراحوا يذكّرونه بماضيه القديم دون الكنى والألقاب والمدائح المتأخرة التي كالها عليه أصحابه وأتباعه كيلاً جزافاً .
والذي يعزز ما قلناه أ نّهم لم ينعتوه بـ (أبي الدوانيق) لأن النزاع لم يكن حول النقدين ـ و إن كانت هي أعظم واشرف عند الناس من الإبل ـ ولا وصفوه بـ (أبي حبة) أو (أبي شعيرة) أو (أبي حنطة) أو أو ، بل وصفوه بما كان عليه في الجاهلية .
والنبي ـ كما حكي عنه ـ جاراه بكنية توافق كنيته السابقة ، لكنّها أشرف وأحسن من تلك ، ولم يكنه بأبي عبدالرحمن وأبي محمّد وأمثال ذلك ، وفي هذه التفاتة يجب الوقوف عنها .
________________________________________ الصفحة 456 ________________________________________
________________________________________ الصفحة 457 ________________________________________
المحور الثالث
هل الأئمّة(عليهم السلام) كنوا انفسهم أو أولادهم بأبي بكر ؟
بعد أن انتهينا من بيان عدم دلالة التسميات على المحبة ، أشرنا إلى اختلاف النصوص في وجود ابن للإمام علي(عليه السلام) باسم أبي بكر ، فذهب البعض إلى وجوده ، والآخر إلى انكاره معتقداً بأنّ المولود من ليلى النهشلية ـ زوجة الإمام علي ـ يكنّى بأبي بكر ، في حين أن اسمه هو عبدالله أو محمّد .
وهذا ما قالوه أيضاً في ولد الإمام الحسن المجتبي السبط ، إذ صرح الموضح النسابة بأنّ أبا بكر بن الحسن اسمه عبدالله(1) و إن كان هناك من بتّ بأنّ اسمه أبو بكر .
أما الإمام الحسين فلم يثبت أن يكون له ولد قد سمى أو كنّي بأبي بكر ، وكل ما في الأمر هو تصحيفهم كلمة (الحسن) إلى (الحسين) ، لأنّ ما قالوه في ابن الحسين هو موجود لابن الحسن(عليه السلام) بحذافيره ، ولا أنكر إمكان التعدد ، لكنه بعيدٌ بنظرنا ، ولنا شواهدنا .
وكذا الحال بالنسبة إلى الأئمّة من ولد الحسين(عليه السلام) بدءاً من الإمام علي بن
____________
1- المجدي : 201 .
________________________________________ الصفحة 458 ________________________________________
الحسين السجاد إلى الإمام الحجة ، فلم نجد فيهم أو في أولادهم من سمي بأبي بكر .
ونحوه القول بالنسبة إلى ما قيل من وجود ولد لعبدالله بن جعفر باسم أبي بكر ، فبتصوّري أ نّه كنية لابنه محمّد الأصغر وليس باسم له .
ولا يخفى عليك أنّ الأمر يعود لتعدّد الأسماء للشخص الواحد ، فقد يضع الأب لولده اسماً والأمّ اسما آخر . وقد يكنّى ذلك المسمى بكنية واحدة أو كنيتين .
والإمام علي سمى ابنه من ليلى النهشلية بمحمد عملاً بالسنة النبوية القاضية برجحان تسمية الطفل بمحمد لسبعة أيام ، أ مّا الأم أو الجد لأمه من بني دارم فقد سمّاه بعبد الله .
فكأنّ القومَ سعوا إلى تكنية المسمى بعبدالله بأبي بكر ، تجانساً بين اسم ابن أبي قحافة وكنيته ، ثم أطلقوا هذه الكنية أيضاً على المسمّى من قبل أبيه بـ (محمّد) ، فقالوا : محمّد الأصغر بن علي بن أبي طالب من ليلى النهشلية ، المكنّى بأبي
بكر .
ثمّ تطوّر الأمر فكنّوا الابن الآخر للإمام ـ من أمّ ولد ـ المسمى بمحمد الأصغر بأبي بكر أيضاً .
وهناك قول شاذّ انفرد به المزّي ـ وتبعه على ذلك الصفدي ـ بأنّ اسم المكنّى بأبي بكر بن علي هو عتيق ، فقالوا بأن عتيقاً استشهد في كربلاء(1)، وهذا يؤكّد محاولات التبديل في الأسماء والكنى .
قالوا بكل ذلك كي يدلّلوا على وجود المحبة بين علي وابي بكر ، وذلك لتقارب الاسم والكنية بين ولد علي وأبي بكر .
____________
1- سير أعلام النبلاء 3 : 216 ، مرآة الجنان 1 : 131 ـ 132 وعنه الدياربكري في تاريخ الخميس 2 : 333 .
________________________________________ الصفحة 459 ________________________________________
حيث أن المشهور عندهم أنّ كنية أبي بكر هو لمن شغل منصب الخلافة بعد رسول الله ، فارادوا أن يقولوا بأنّ من يسمى بعبدالله ويكنّى بأبي بكر هو ممن يحب الخليفة و يتولاه !!
في حين أنك عرفت أن المسمى من قبل الإمام هو محمّد وليس بعبدالله ، وقد يكون عبدالله اطلق عليه من قبل اُمه ، لكن هذا لا يسمح باطلاق كنية أبي بكر أيضاً عليه ، ولم تكن هناك نصوص ظاهرة واضحة تدل على أن الإمام كناه بتلك الكنية .
و إذا كانت تلك الكنية ثابته له ، لما اختلفوا في اطلاقها على ابن ليلى النهشلية وابن اُم ولد معاً ، كما أ نّهم لم يختلفوا في أ نّها اسم له أم كنية .
وهذا ما أجروه على عمر الأطرف أيضاً ، فقالوا بأنّ كنيته أبو حفص ، في حين أطبق النسّابة على أنّ كنيته أبو القاسم ، وهناك قول على سبيل التمريض : أبو حفص لا يؤخذ به .
ولا يخفى عليك بأن ما يتصدر بأبي وابن واُم وأخت فهو في سياقه الطبيعي موضوع للكنية لا للاسم ، فلا نرى بين أولاد الأئمّة من سُمّي بأبي عبدالله ، أو أبي محمّد ، أو أبي القاسم ، أو أبي الحسين ، فلو جاءت هذه الكلمات فهي كنية للشخص لا اسماً له ، وهو يخطّئ ما قالوه بأنّ أبا بكر هو اسم لابن النهشلية أو لغيره .
والآن لنناقش النصوص المتمسّك بها للدلالة على أن (أبا بكر) هي كنية موضوعة للأئمّة المعصومين من أهل البيت كالسجاد والرضا والهادي(عليهم السلام) ، وقيل للإمام الحجة(عليه السلام) .
قال الحسين بن حمدان الخصيبي (ت 334 هـ) في الهداية الكبرى :
(وكنيته أبو الحسن ، والخاص أبو محمّد ، وروي أ نّه كُنّي بأبي بكر ولم تصحّ
________________________________________ الصفحة 460 ________________________________________
هذه الكنية)(1) .
وقال محمّد بن جرير الطبري الشيعي المتوفّى في أوائل القرن الرابع الهجري في دلائل الإمامة : (علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم ... يكنّى : أبا محمّد وأبا الحسن وأبا بكر ، والأول أشهر وأثبت)(2) .
وقال العلوي (من اعلام القرن الخامس) في المَجْدي : (وجدت بخطّ شيخنا أبي الحسين أنَّ زين العابدين كان يكنّى أبا محمّد ، وكان يكنّى أبا بكر ، والأوّل الصحيح)(3) .
وقال منتجب الدين الرازي من أعلام القرن الخامس الهجري في (فهرست أسماء علماء الشيعة ومصنفاتهم) ضمن خطبة الكتاب وذكره نسب أبي القاسم يحيى قال :
(... بن عبدالله الباهر بن الإمام زين العابدين ، أبي محمّد ، ويقال : أبي القاسم ، ويقال أبي الحسن ، ويقال : أبي بكر بن الحسين بن علي ...)(4)
وقال ابن شهرآشوب (ت 588 هـ) في مناقب آل أبي طالب :
(وكنيته : أبو الحسن ، والخاص أبو محمّد ، ويقال أبو القاسم ، وروى أ نّه كنّي بأبي بكر)(5) .
وقال الأربلي (ت 693) في كشف الغمة (فأ مّا كنيته ، فالمشهور أبو الحسن ، ويقال : أبو محمّد ، وقيل : أبو بكر)(6) .
وقال ابن الصباغ المالكي (ت 855 هـ) في الفصول المهمة :
____________
1- الهداية الكبرى : 213 .
2- دلائل الإمامة : 192 .
3- المجدي : 283 .
4- فهرست أسماء علماء الشيعة ومصنفاتهم : 4 ، طـ المكتبة الرضوية ـ طهران ، وفي صفحة : 372 من المترجم إلى الفارسية .
5- مناقب آل أبي طالب 3 : 310 ، وانظر تاريخ الأئمّة للكاتب البغدادي : 29 أيضاً .
6- كشف الغمة 2 : 285 .
________________________________________ الصفحة 461 ________________________________________
نسبه : هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وقد تقدم بسط ذلك . كنيته المشهورة أبو الحسن ، وقيل : أبو محمّد ، وقيل : أبو بكر(1) .
هذه هي الأقوال التي قيلت في هذا الباب ، وهي تؤكّد بوضوح على أنّ كنية (أبي بكر) لم تكن ثابتة للإمام السجاد ; لإطباقهم على ذكرها على سبيل التمريض ـ بل آخِرَ الكنّى المُمَرَّضة ـ مثل : و (روي) و (قيل) و (يقال) مع تصريح الخصيبي بقوله : (ولم تصح هذه الكنية) أو قول ابن جرير الطبري الشيعي (والأوّل أشهر وأثبت) ، أو قول ابن شهرآشوب (والخاص أبو محمّد) أو قول صاحب المجدي (الأوّل الصحيح) وغيرهم ، هذا اولاً .
وثانياً : لم يعرف أنَّ للإمام ولداً باسم (بكر) حتى يكنّى به ، وكلامنا هذا لا يعني لزوم التكنية باسم الولد في جميع الحالات ، لأنّ الكنى توضع على الاشخاص من الصغر وهو أمر مستحب ، لكن بما أنّ التسمية بمحمد مستحبة ، فالتكنّي بأبي محمّد تكون أقرب إلى الإمام واقعاً ، والأئمّة سمّوا أولادهم بمحمد وتكنّوا به ، والإمام السجّاد كُنِّي بأبي محمّد ـ وهو المشهور عنه ـ لولده الأكبر المسمّى بمحمد الباقر .
أ مّا كنية (أبي الحسن) فهي الأُخرى أقرب إلى الإمام من كنية أبي بكر ، لأ نّها موضوعة لكل من سُمِّي بعليِّ على مر التاريخ ولحدِّ هذا اليوم ، ولذلك عدّها الخصيبي وابن شهرآشوب الكنية العامّة ـ أي التي يكنّى بها كل من اسمه علي ـ مقابل الكنية الخاصة به وهي (أبو محمد) ، وأ مّا كنية (أبي بكر) فليست خاصة ولا عامّة ، فيبقى أ نّها كنية مُلصقَة ألصقها به أبناء العامّة .
وعليه فمن غير البعيد أن يكنّى الإمام السجاد بأبي الحسن ، لأ نّها كنية جده الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وهو المشتهر عنه في كتب الحديث
____________
1- الفصول المهمة لابن الصباغ 2 : 855 .
________________________________________ الصفحة 462 ________________________________________
والتراجم والرجال الشيعيّة .
أ مّا كنية أبي بكر فهي أجنبية عنه ، ولا يمكن لحاظها إلاّ من خلال إحدى الاحتمالات المطروحة لاحقاً .
وثالثاً : من المعلوم أن كنية الإمام لا تنحصر بأبي بكر ، فقد كُنّى(عليه السلام) بأبي الحسن(1) ، وأبي الحسين(2) ، وأبي القاسم(3) ، وأبي محمّد(4) ، وأبي عبدالله(5) ، وأبي عبدالله المدني(6) ، وأبي الحسين المدني(7) ، وأبي الأئمة(8) ، وابن
____________
1- المناقب 3 : 310 ، إعلام الورى 1 : 480 ، كشف الغمة 2 : 286 ، المجدي : 282 ، ألقاب الرسول وعترته (المجموعة) : 50 ، العدد القوية : 58 ، دلائل الإمامة : 192 ، جامع المقال : 184 ، طبقات الحفّاظ للسيوطي : 37 برقم 69 ، منتهى المقال 1 : 25 ، (الطبعة المحققه) ، تاريخ الأئمّة للبغدادي : 29 ، شرح الأخبار 3 : 275 ، (في نسخة بدل) ، تاج المواليد للطبرسي : 35 ، فهرست منتجب الدين : 30 ، المقتنى في سرد الكنى 1 : 186 برقم 1584 ، تهذيب التهذيب 7 : 268 ت 521 ، تاريخ دمشق 41 : 360 ت 4875 .
2- تاريخ أهل البيت : 78 ، شرح الأخبار 3 : 275 ، أعيان الشيعة 1 : 629 ، عن طبقات ابن سعد 5 : 211 ، تاريخ الأئمّة للبغدادي : 29 ، المقتنى في سرد الكنى 1 : 186 برقم 1584 ، رجال صحيح البخاري 2 : 527 ت 817 ، تاريخ دمشق 41 : 630 ت 4875 .
3- المناقب 3 : 310 ، إعلام الورى 1 : 480 ، فهرست منتجب الدين : 30 ، جامع المقال : 184 .
4- دلائل الإمامة : 192 ، تاريخ الأئمة للبغدادي : 29 ، ألقاب الرسول وعترته : 50 ، المقنعة للمفيد : 472 ، تاج المواليد : 35 ، فهرست منتجب الدين : 30 ، جامع المقال : 184 ، المناقب لابن شهرآشوب 3 : 310 ، إعلام الورى 1 : 480 ، العدد القوية : 58 ، كشف الغمة 2 : 286 ، أعيان الشيعة 1 : 629 ، التعديل والتجريح 3 : 956 ، تهذيب التهذيب 7 : 268 ت 521 ، رجال صحيح البخاري 2 : 527 ت 817 ، تاريخ دمشق 41 : 360 ت 8475 ، الطبقات الكبرى 5 : 213 .
5- تاريخ دمشق 41 : 360 ت 8475 ، سير أعلام النبلاء 4 : 386 ، تاريخ الإسلام 6 : 436 .
6- السيوطي في طبقات الحفاظ : 37 برقم 69 ، تهذيب التهذيب 7 : 268 ت 521 ، تهذيب الكمال 6 : 395 ت 1323 .
7- إسعاف المبطّا : 21 .
8- المناقب 3 : 310 ، شرح الأخبار 3 : 253 .
________________________________________ الصفحة 463 ________________________________________
الخيرتين(1) ، ووجود هذه الكنى الكثيرة له ، واشتهاره ببعضها في كتب الحديث والأنساب مع نَفْي الناقل الأوّل لخبر الكنية وهو الخصيبي (ت 334) بقوله : (ولم تصح هذه الكنية) وتأكيد ابن جرير الطبري الشيعي ، وصاحب المجدي بأن الأول هو الصحيح والأثبت والأشهر .
كل هذه الاُمور تشكّكنا في قبول كون هذه الكنية موضوعة عليه من قبل أهل البيت أو الطالبيين ، لأ نّا لا نرى تكنية الإمام السجاد بهذه الكنية في كتب الحديث والأنساب ، وبذلك فالقول بأ نّها من وضع الآخرين هو الأقرب .
ورابعاً : إنّ التكنّي عند العرب تارة تكون من قبل الأب ، وأخرى من قبل الأم أو الجد ، وقد تكون من قبل أهل البلد ، أو السلطان أيضاً ، فقد يكون أتباع النهج الحاكم أطلقوا على الإمام كنية مَن يحبّونه ، بزعم تشابههما في بعض الصفات والسمات !!
وقد رأينا كثيراً من الناس يطلقون اسم عمر على بعض الأشخاص لتشبيههم سلوكه بسلوك عمر .
فكأنَّ أهل الشام أو بعض أهل المدينة ـ من أتباع أبي بكر ـ أطلقوا هذه الكنية على الإمام حبّاً به ، ولتقارب سماته مع سمات من يحبونه ـ بالطبع حسب زعمهم ـ وهذا ليس بعزيز في كتب التاريخ والرجال .
فأهل العراق كنّوا عثمان بن عفان بأبي عمرو القرشي ، في حين أنّ كنيته كانت عند أهل المدينة (أبو عبدالله) ; كُنّي باسم ابنه من رقية ربيبة رسول الله(2) .
وجاء في كتاب (الثقات) بأنّ عطاء بن يسار قدم الشام وكان أهلها يكنّونه
____________
1- المناقب لابن شهرآشوب 3 : 304 ، الوافي بالوفيات 20 : 231 ت 321 ، وفيات الأعيان 3 : 267 ت 422 ، نثر الدر 1 : 232 ، كشف الغمة 2 : 318 ، الكامل للمبرد 2 : 91 ، الكافي 1 : 467 ، تاريخ الأئمّة للبغداديّ : 24 ، الهداية الكبرى : 214 .
2- تاريخ دمشق 39 : 12 .
________________________________________ الصفحة 464 ________________________________________
بأبي عبدالله ، وقدم مصر وكان أهلها يكنّونه بأبي يسار(1) .
وفي العلل للدارقطني وتهذيب الكمال أن أبا محمّد الهذلي الكوفي كان يكنّى من قبل أهل البصرة بأبي المورع(2) .
وفي تاريخ بغداد أنّ أحمد بن الحسين بن عيسى كان يكنّى بأبي بكر ، ثمّ كناه الناس بأبي الحسن وغلبت عليه(3) .
وفي تاريخ الإسلام : أنّ نصر بن الحسين بن القاسم كان يكنّى بأبي ليث ، فلمّا قدم مصر كنّي بأبي الفتح(4) . فلا يستبعد أن يكون بعض أهل المدينة أو أهل الكوفة أو أهل الشام كنوه بهذه الكنيه .
وخامساً : أنّ إطلاق كنية (أبي بكر) على الإمام السجاد لا تّتفق مع ما قدّمناه من كون أسمائهم(عليهم السلام) وكناهم إلهيّة ، فإنّك لو ألقيت نظرةً فاحصةً على أسماء المصطفين من الأنبياء والأوصياء لَما رأيت بين أسمائهم وكناهم من كُني أو سمى باسم أحد الحيوانات و إن كانت من خيار الحيوان ; لأنّ ذلك لا يتطابق مع اشتقاقها من المفاهيم الربانية الإلهية .
وسادساً : إنّ التكنية بأبي بكر هي أَولى بالإمامين الباقر والصادق لا الإمام السـجاد ، لأنّ كتب التراجم ذكـرت بأنّ الإمام الباقر قد تـزوّج اُم فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر ، واُمها أسماء بنت عبدالرحمن بن أبي بكر .
فأبو بكر هو جدّ الإمام الصادق وجدّ زوجة الإمام الباقر (اُم فروة) .
وبذلك تكون هذه الكنية أقرب إلى الصادِقَيْن من غيرهما ، لكنّ القوم لم يقولوا بذلك بل حصروا الأمر بكلّ من اسمه علي من المعصومين ، وفي هذه
____________
1- الثقات 5 : 199 .
2- علل الدارقطني 4 : 197 ، تهذيب الكمال 34 : 263 .
3- تاريخ بغداد 4 : 93 .
4- تاريخ الإسلام 33 : 192 ـ 193 .
________________________________________ الصفحة 465 ________________________________________
الملازمة التفاتة يجب الوقوف عندها والتأمل في معانيها(1) .
وسابعاً : لماذا وضعت كنية (أبي بكر) لمن اسمه (علي) بين ولد الإمام علي بن أبي طالب المعصومين فقط ؟!
فلماذا لا يكنّى الحسن أو الحسين أو الباقر أو الصادق أو الكاظم أو الجواد أو العسكري(عليهم السلام) بهذه الكنية ؟
فهل جاءت هذه الكنية عفويّة أُم هي كُنى مزوّرة مقصودة؟ كل ذلك مع
الأخذ بنظر الاعتبار التشكيك بوجود هذه الكنية لهم(عليهم السلام) في كتب الحديث الشيعية ؟
ألا يؤكّد ذلك أ نّهم أرادوا بهذا العمل أن يقاربوا بين أبي بكر وعلي ؟! وهذا تساؤل ندعو القارئ للإجابة عليه !!
إنّ مستند هذه التكنية نص واحد ذكره أبو الفرج الاصفهاني (ت 356 هـ) حسبما وقفت عليه ; إذ قال في ترجمة الإمام علي بن موسى الرضا : (ويكنّى أبا الحسن وقيل : يكنّى أبا بكر .
قال أبو الفرج : حدثني الحسن بن علي الخفّاف ، قال : حدثنا عيسى بن
____________
1- وبهذا فلا يستهجن ما جاء عن جابر الجعفي عن أبي جعفر الباقر في تأويل قوله تعالى (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا) قال(عليه السلام) : يا جابر أما السنة فهي جدي رسول الله ، وشهورها اثنا عشر شهراً ... اثنا عشر إماماً حجج الله في خلقه وأمناؤه على وحيه وعلمه ، والأربعة الحرم الذين هم الدين القيم ، أربعة يخرجون باسم واحد : علي أمير المؤمنين ، وأبي عليُّ بن الحسين ، وعليُّ بن موسى ، وعليُّ بن محمّد ...) الغيبة للطوسي : 149 / ح 110 ، والهداية الكبرى : 377 ، وروى مثله النعماني في كتاب الغيبة : 90 ، والجوهري في مقتضب الأثر : 30 بسندهما عن داود بن كثير الرقي قال : دخلت على جعفر بن محمّد ... عن صحيفة ورثها عن آبائه(عليهم السلام) .
________________________________________ الصفحة 466 ________________________________________
مهران ، قال ، حدّثنا أبو الصلت الهروي ، قال : سألني المأمون يوماً عن مسألة ، فقلت : قال فيها أبو بكر كذا وكذا .
قال [المأمون] : من [هو] أبو بكر ! أبو بكرنا أو أبو بكر العامّة ؟
قلت : أبو بكرنا .
قال عيسى : قلت لأبي الصلت : من أَبُو بكركم ؟ فقال: علي بن موسى الرضا(1)) .
وهذا النص يؤكد مدّعانا بأنّ إطلاق كنية (أبي بكر) على الأئمّة كانت من قبل المتسبصرين أو من لَهُ اختلاط معهم لا من قبل الطالبيين .
فقد قال الشيخ في رجاله عن أبي الصلت : أ نّه عامّي(2) ، وتبعه على ذلك العلاّمة في الخلاصة(3) ، ويستفاد من أحد خَبَرَي الكشي أ نّه كان مخالطاً للعامة وراوياً لأخبارهم(4) .
وقال التفرشي في نقد الرجال : ... ثقة إلاّ أ نّه مختلط بالعامة وراو
لأخبارهم كما يظهر من كلام الكشي ، وكلام الشهيد الثاني في حاشيته على
الخلاصة ...(5)
إذن هذه الكنية هي من إطلاق الآخرين عليه ولا تصـحّ بنظـرنا لعدة
اُمور :
الأول : إنّ المشهور في كتب الحديث وتراجم الرجال الشيعية هو تكنيته بأبي
____________
1- مقاتل الطالبيين : 374 .
2- رجال الطوسي : 360 / ت 14 في أصحاب أبي الحسن الثاني(عليه السلام) .
3- خلاصة الأقوال : 420/ ت 6 .
4- رجال الكشي 2 : 872 ، ح 1148 ، 1149 .
5- نقد الرجال 3 : 60/ ت 2912 .
________________________________________ الصفحة 467 ________________________________________
الحسن الثاني(1) ، أو أبي الحسن(2) ، أو أبي الحسن الخراساني(3) ، أو أبي علي(4) ، أو أبي القاسم(5) ، أو أبي محمّد(6) ، وأبي إسماعيل(7) وليس فيها أ نّه كُنِّي بهذه الكنية ولو لمرّة واحدة .
الثاني : إنّ كنية (أبي بكر) لا تتفق مع ما جاء في الكافي(8) وعيون أخبار الرضا(9) ، عن الإمام الكاظم أ نّه قال : إنّي قد نحلته كنيتي ، ولا يخفى عليك بأنّ كنية الإمام الكاظم هي (أبو الحسن) .
وثالثاً : إنّ كنية (أبي بكر) لا تتجانس مع كُنى المعصومين الإلهيّة حسبما قلناه قبل قليل .
ورابعاً : إنّ قول أبي فرج الاصفهاني ومن أخذ عنه جاءت على سبيل التمريض لقوله (و يُكنَّى أبا الحسن ، وقيل : يكنّى أبا بكر) ، ثم ذكر مستند كلامه .
____________
1- جامع المقال : 184 ـ 185 ، مجمع الرجال 7 : 193 ، منتهى المقال : 6 حجرية ، و 1 : 25 المحققه ، تاج المواليد : 48 ، رجال الطوسي : 339 ت 5040 ، الرسائل الرجالية للكلباسي 2 : 15 ، 177 ، معجم رجال الحديث 13 : 204 ت 8547 ، ألقاب الرسول وعترته : 63 .
2- الهداية الكبرى : 277 ، ألقاب الرسول وعترته : 66 ، تاج المواليد : 48 ، عمدة الطالب : 198 ، سر السلسلة العلوية : 38 ، المجدي : 322 ، الإمامة والتبصرة : 114 ، تهذيب الأحكام 6 : 83 ، تاريخ الأئمّة : 12 ، الفصول المهمة 2 : 969 ـ 970 ، المناقب 3 : 475 ، دلائل الإمامة 359 ، كشف الغمة 3 : 53 ، المقنعة للمفيد : 476 ، جامع المقال : 184 ، مجمع الرجال 7 : 193 ، منتهى المطلب 2 : 894 ، معجم رجال الحديث 13 : 204 ت 8547 ، الوافي بالوفيات 22 : 154 ت 4 ، اللباب في تهذيب الأنساب 2 : 30 .
3- رجال الكشي 1 : 357 برقم 229 ، 2 : 730 برقم 809 ، الرسائل الرجالية للكلباسي 2 : 187 ، تفسير العياشي 1 : 330 ، 356 .
4- المناقب 3 : 475 .
5- منتهى المطلب 2 : 894 ، تحرير الأحكام 2 : 124 .
6- دلائل الإمامة : 359 ، الهداية الكبرى : 279 .
7- تاريخ مواليد الأئمّة لابن الخشاب البغدادي : 36 .
8- الكافي 1 : 311 و 313 / ح 1 و 10 .
9- عيون أخبار الرضا 2 : 31/ ح 2 .
________________________________________ الصفحة 468 ________________________________________
وخامساً : قد يكون أبا الصلت كّناه بذلك تقية ، أو استمالة لقلوب الآخرين .
سادساً : قد يكون المأمون العباسي ـ وهو المعروف بالدهاء ـ كنّاه بذلك ليجمع بين الشيعة والعامّة بعد البيعة بولاية العهد للرضا(عليه السلام) وسخط كثير من العباسيين على تلك البيعة فكأنّ المأمون أراد تقريب وجهات النظر بين الطرفين ، فكنّى المكنّى بـ ( أبي الحسن ) بـ ( أبي بكر ) جمعاً بين رمزَي الخلافة الظالمة والإمامة المظلومة ، وتقريباً لأطراف النزاع، وحفاظاً على ملكه ، وتنفيذاً لخطـطه ومآربه .
لم أقف في كتب الرجال والتراجم على وجود هذه الكنية له(عليه السلام) ، بل هي معلومة خاطئة ادّعاها بعض الجاهلين أو المغرضين من أعداء الشيعة ، محيلاً إلى بعض المصادر التاريخية والحديثية ، لكنّي بمراجعة تلك الكتب وقفت على سقم كلامه ، وأنّ ليس هناك من ادّعى هذا القول قبله ، فقد يكون الأمر اختلط عليه فنسب ما هو محكي عن الإمام السجاد إلى الإمام الهادي ، وقد يكون مغرضاً في احالاته للمصادر ، والثاني هو الأقرب إلى نفسيّة أمثال هؤلاء .
ولو كان حقاً فهو يخالف المتواتر عند فقهاء ومحدّثي أهل البيت بأنّ كنيته(عليه السلام) هي أبو الحسن(1) ، وأبو الحسن الأخير(2) ، وأبو الحسن الثالث(3) ،
____________
1- المناقب 3 : 505 ، دلائل الإمامة : 411 ، جامع المقال : 184 ، منتهى المقال 1 : 25 (المحققه) ، ملخّص المقال : 5 ، مجمع الرجال 7 : 193 ، الهداية الكبرى للخصيبي : 313 ، المقنعة للمفيد : 485 ، منتهى المطلب 2 : 895 ، تاج المواليد : 54 ، الوافي بالوفيات 22 : 48 ت 3 ، اللباب في تهذيب الأنساب 2 : 340 ، التدوين في أخبار قزوين 3 : 425 ، المنتظم 12 : 74 ت 1562 ، تاريخ الإسلام 18 : 199 ، 19 : 218 ، أنساب السمعاني 1 : 85 .
2- نوادر المعجزات : 57 ، الرسائل الرجالية 2 : 190 ، مجمع النورين : 181 .
3- المناقب 3 : 505 ، إعلام الورى : 109 ، كشف الغمة 3 : 190 ، جامع المقال : 185 ، تاج المواليد : 54 ، مجمع الرجال 7 : 193 ، منتهى المقال 1 : 25 (المحققة) ، الرسائل الرجالية للكلباسي 2 : 177 ، مصباح المتهجد : 367 ، ألقاب الرسول وعترته : 63 ، 73 ، رجال الطوسي : 381 ، خلاصة الأقوال : 62 ، 100 ، 142 ، 241 .
________________________________________ الصفحة 469 ________________________________________
وأبو الحسن صاحب العسكر(1) ، وأبو الحسن العسكري(2) ، وابن الرضا(3) ، في حين أكّد الخصيبي في الهداية الكبرى(4) ، وابن شهرآشوب في المناقب(5) ،
وابن الصبّاغ في الفصول المهمة(6) ، وغيرهم بأنّ كنية الإمام الهادي أبو الحسن
لا غير .
ونحن لو أضفنا إلى هذا ما قلناه سابقاً من استبعاد وجود هذه الكنية للإمامين السجاد والرضا لثبت كذب مدعيات القائل ، وأنّها لا تتطابق مع نظرية الاصطفاء الإلهي للأئمّة ، بل لزوم السمّو بهم عن وضع أسماء الحيوانات عليهم .
وهناك قول يتيم واستنتاج غير صحيح للمحدّث النوري أراد أن ينتزعه من كلام وقف عليه في كتاب قديم اصطلح عليه بـ (المناقب القديمة) ; حيث قال عن ذلك الكتاب : (يشتمل على مجمل أحوال الأئمّة ، ولم يعلم لحد الآن مؤلفه ، وقد نقل هذه الرواية أيضاً(7) ، وذكر ألقاباً كثيرة له ، ونحن نعبّر عنه (بالمناقب
____________
1- مصباح المتهجد : 805 ، كفاية الأثر : 289 ، رجال الكشي : 290 ، رجال النجاشي : 44 ، 161 ، نقد الرجال 2 : 221 ، اعلام الورى 2 : 247 ، عوالي اللئالي 3 : 285 ، خاتمة المستدرك 4 : 404 .
2- الإمامة والتبصرة : 118 ، فقه الرضا لابن بابويه : 29 ، الكافي 1 : 326 ، 332 ، علل الشرايع 1 : 245 ، عيون أخبار الرضا 2 : 282 ، الغيبة للطوسي : 82 ، وغيرها .
3- إعلام الورى : 121 ، دلائل الإمامة : 419 ، الكافي 1 : 502 ح 8 .
4- الهداية الكبرى : 313 .
5- مناقب بن شهرآشوب 3 : 505 .
6- الفصول المهمة ، لابن الصباغ 2 : 1064 .
7- قد يعني المحدث النوري بكلامه ما ذكره الخصيبي وغيره بأنّ للإمام الحجة كنية أحد عشر إماماً من آبائه ومن عمه الحسن بن علي السبط أيضاً . ومن خلال نقله لهذه الرواية أراد أن يثبت ما قيل في كنية الإمامين السجاد والرضا وتطبيق ذلك على الإمام الحجة ، وهذا استنتاج باطل ; إذ لم تثبت هذه الكنية للإمام السجّاد أو الرضا حتى يجعلها للإمام الحجة .
________________________________________ الصفحة 470 ________________________________________
القديمة) ، وطبق هذا الخبر سوف تكون من ألقابه : الثاني عشر : أبو الحسن ، الثالث عشر : أبو تراب ، والكنيتان لأمير المؤمنين ... ، الرابع عشر : أبو بكر ، وهي إحدى كُنّى الإمام الرضا كما ذكرها أبو الفرج في مقاتل الطالبيين ، الخامس عشر : أبو صالح ...)(1)
وهذا الكلام غير صحيح أيضاً ، لأنّ مسألة التسميات أَخذت طابعها الخاص من بعد شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) ، ثمّ نضجت في عهد الإمام الحجة ، لكن بالكناية والتاويل ، لا بالتصريح ; لأن الخلفاء الأمويين ومن بعدهم العباسيين كانوا لا يرتضون الجمع بين الاسم والكنية معاً ، فلا يجيزون لمسلم أن يُسَمَّى بعلي و يكنّى بأبي الحسن ، لاعتقادهم بأ نّه دالٌّ على المحبة ، وقد مر عليك نهي عبدالملك بن مروان علي بن عبدالله بن عباس عن ذلك ، وألزمه أن يغيّر أحدهما ، فغيَّر الكنية دون الاسم ، وقد غير البحتري كنيته من أبي الحسن إلى أبي عبادة ارضاءً للمتؤكل العباسي .
وعلى ضوء هذه المجريات والأحداث ، ووقوفنا على تجريح الأئمّة للخلفاء الثلاثة كنائياً ، فلا نقبل تكنية الهاشميين للأئمة بهذه الكنية ، وخصوصاً حينما نقف على المحكيّ عن أبي محمّد العسكري أ نّه قال لعثمان بن سعيد العَمْري ـ بفتح العين ـ : لا يجتمع على أمرئ بين عثمان وأبي عمرو ، وأمر بكسر كنيته فقيل العمري(2) ، ويضاف إلى هذا أنّ الثابت عند الجميع أنّ رسول الله قال عن الإمام
____________
1- النجم الثاقب : 172 ، أعيان الشيعة 2 : 13 .
2- الغيبة للشيخ الطوسي : 354 ، خلاصة الأقوال : 220 ـ 221 .
________________________________________ الصفحة 471 ________________________________________
الحجة بأنّ اسمه اسم رسول الله وكنيته كنية رسول الله(1) .
فلو كانت كنيته هي كنية رسول الله وكنية عمه الحسن السبط والأحد عشر
من آبائه بَدْءاً من رسول الله إلى الإمام العسكري ، فهل هو بحاجة إلى
كنية أخرى ؟ إلاّ أنّ يكون الأخرون قد أحتاجوا إليها فوضعوها عليه طبقاً
لاهوائهم .
أجل ، نحن أكّدنا أكثر من مرة على أنّ القوم كانوا يسعون لتحريف الأمور وسرقة الألقاب، فقد منحوا ابن أبي قحافة لقبَ الصدّيق جزافاً(2) ، كما أ نّهم رووا حديثاً عن مشاهدات النبي في المعراج وأ نّه رأى على العرش مكتوباً (لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول الله ، أبو بكر الصديق) ، وحين سمع الإمام الصادق هذا الخبر استاء وقال : سبحان الله غيَّروا كل شيء حتى هذا(3) !!
ومن هذا الباب جاء تغيير الأسماء و إطلاق الكنى على أهل البيت وأولادهم ، فقد غيروا اسم عمرو بن الحسن إلى عمر بن الحسن ، ثم قالوا بوجود عمر بن الحسين ، وكنّوا عمر الأطرف ـ خلافاً للمشهور في كنيته (أبو القاسم) ـ بأبي حفص ، وجعلو المكنّى بأبي بكر من ولد الإمام علي اسمه عتيقاً مقارنةً بين
الاسم والكنية ، وادعوا أيضاً بأن أبا بكر هو اسم لولد علي والحسن والحسين
فقالوا :
____________
1- دعائم الإسلام 2 : 188 ، كمال الدين : 286 ، كفاية الأثر : 67 ، 83 ، مستدرك الوسائل 15 : 133 .
2- هذا ما وضحناه في رسالتنا (من هو الصديق ومن هي الصديقة) .
3- الاحتجاج 1 : 230 ، وعنه في مدينة المعاجز 2 : 376 .
________________________________________ الصفحة 472 ________________________________________
كل ذلك لتوثيق الصلة بين الآل والخلفاء ، في حين ليس بأيدينا نصٌّ واحد ولو كان من ضعاف الأخبار يشير إلى أنّ الأئمّة أطلقوا هذه الكنية على أنفسهم أو على أولادهم .
والآن لندرس ما حكوه عن الإمام الصادق ـ ترسيخاً لما ادّعوه في تكنية ابن أبي قحافة بأبي بكر ـ من أنّ الإمام قَبِلَ هذه الكنية له ، لأ نّه قال : ما أرجو
من شفاعة علي شيئاً إلاّ وأنا أرجو من شفاعة أبي بكر مثله ، ولقد وَلَدَني
مرّتين(1) .
الإمام الصادق وانتسابه إلى ابن أبي قحافة
نحن لا ننكر اتّصال الإمام الصادق بابن أبي قحافة من جهة الأم(2) ، لكنّا في الوقت نفسه نشكّ في صدور هذا الخبر وأمثاله عنه ، لأنّ شرف الانتساب إلى النبيّ هو الشرف الذي ما فوقه من شرف ، فلو كان الإمام ذكر ذلك لكان دفعاً
للشرّ أو تأليفاً للقلوب ، لأ نّه ليس من المعقول أن يقرن الإمام الصادق بين
الإمام علي(عليه السلام) ـ الذي لم يسجد لصنم قط وهو من المطهّرين بنص الآية ـ مع
مَن عبد الأصنام لفترة والمسمّى بعبد الكعبة أو عتيقاً في الجاهلية ، ويرجو
شفاعته ؟
وهل منزلة الذي ولد في الكعبة وقُتل في المحراب تقاس بالذي لا يعرف عنه أ نّه قتل رجلاً من المشركين .
وهل يمكن مقايسة قوم لم يشتهروا بالفضيلة ، مع قوم أذهب الله عنهم الرجس ؟
____________
1- تهذيب الكمال 5 : 82 ، تذكرة الحفاظ 1 : 167 ، سير أعلام النبلاء 6 : 259 .
2- و إن كان هناك من ينكر صحة ذلك ، كصاحب كتاب (ذخر العالمين في شرح دعاء الصنمين) .
________________________________________ الصفحة 473 ________________________________________
وكيف يتطابق هذا مع ما جاء عن الصادق(عليه السلام) توريةً حينما سئل عن أبي بكر وعمر فقال : كانا امامين قاسطين عادلين ، كانا على الحق وماتا عليه ، فرحمة الله عليهما يوم القيامة .
فلمّا خلا المجلس قال له بعض أصحابه : كيف قلت يابن رسول الله ؟
فقال : نعم ، أما قولي : كانا إمامين ، فهو مأخوذ من قوله تعالى (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) .
وأ مّا قولي : قاسِطَيْن ، فهو من قوله تعالى (وَأَ مَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً) .
وأ مّا قولي : عادلين ، فهو مأخوذ من قوله تعالى (الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) .
وأ مّا قولي : كانا على الحقُّ ; فالحق علي ، فهما قد تظاهرا عليه .
وقولي : ماتا عليه ، المراد أ نّها لم يتوبا عن تظاهرهما عليه ، بل ماتا على ظلمهما إيّاه .
وأ مّا قولي : فرحمة الله عليهما يوم القيامة ، فالمراد أنّ رسول الله ينتصف له منهما ، أَخْذاً من قوله تعالى (وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)(1) .
بل إنّ هذا القول المدَّعى صدوره عن الإمام الصادق يخالِف صريحاً ما ثبت عن أمير المؤمنين(عليه السلام) من قوله في الخطبة الشقشقية : (متى اعترضَ الريبُ فِيَّ مع الأوّل منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر)(2) ؟! إذ لم يعترض الريب في أمير المؤمنين بأنّ أبا بكر ليس كفواً له ولا نظيراً له ، فكيف يساوي ويقارن بينهما الإمام الصادق(عليه السلام) ؟!
____________
1- بحار الأنوار 30 : 286 ح 150 .
2- نهج البلاغة :
________________________________________ الصفحة 474 ________________________________________
وهو الأخر يخالف ما جاء عن جده الإمام علي في أبي بكر وعمر وأ نّهما كانا كاذبان آثمان غادران ـ كما جاء ذلك صريحاً في صحيح مسلم ـ(1) .
ولو راجعت أحاديث أهل البيت وكتب الآخرين لرأيت التضادَّ بين النهجين مشهوداً ، ولا يمكن محوه ورأبَ صدعه بمثل هذه الدعاوي العارية عن
الدليل .
ولا يخفى عليك أنّ الخبر الآنف ينتهي سنده إلى مُسْنِد الكوفة محمّد بن الحسين بن أبي الحُنَين الحُنينيّ ، وهذا رواه عن شيخه عبدالعزيز بن عبدالله الأصّم الذي قال عنه الذهبي وابن حجر : فيه جهالة(2) .
وعبدالعزيز رواه عن حفص بن غياث ، وكلّهم من رجال العامة ، وبذلك يكون الخبر عامّيّاً وفيه ما تعتقد به العامة جملة وتفصيلاً ، ومن المعلوم أنّ الراوي لا يؤخذ بكلامه إذا كان داعيةً إلى مذهبه ، وهذا النقل عن الصادق(عليه السلام) عند القوم جاء دعماً لنهج الشيخين ، وهو يختلف عما هو موجود في كتب الإمامية ، وأنّ هناك تضادّاً بين النهجين يعرفه العالم البصير .
وأوّل من روى هذا الخبر عند الشيعة هو الإربلّي في (كشف الغمة) وعنه
أخذ الاخرون ، والإربلّي كان قد صرح في خطبة كتابه بأنّ غالب ما ينقله
هو من كتب الجمهور ; إذ قال : (واعتمدت ـ في الغالب ـ النقل من كتب
الجمهور ليكون أَدْعى إلى تلقيّه بالقبول ، ووفق رأي الجميع متى وجهوا إلى
الأصول)(3) .
وحتى في النصوص المنقولة عندنا عن كتب العامّة ليس فيها أنّ الإمام يرجو شفاعة أبي بكر مثلما يرجو شفاعة الإمام علي ; لأنّ هذا القول يخالف الأصول
____________
1- مر تخريجه في أول الكتاب صفحه 13 .
2- ميزان الاعتدال 4 : 366 ، لسان الميزان 4 : 32 ت 86 .
3- كشف الغمة 1 : 4 .
________________________________________ الصفحة 475 ________________________________________
الثابتة عندنا ومعتقدنا في الإمام المعصوم ، وهو بعيد صدوره عن الإمام الصادق بعد الأرض عن السماء .
فتحصَّل : أنَّ الخبر المحكيَّ عن لسان الإمام الصادق(عليه السلام) ليس له أصل عندنا ، بل هو خبر عامي ، وهو ليس بحجة علينا ، كلُّ ما في الأمر نقله الاربلّي ليكون أدعى لقبول الآخرين .
وبهذا فقد عرفت أنّ القوم سعوا لاستغلال أسماء الأئمّة وأسماء أبنائهم للتدليل على وجود المحبّة بين أبي بكر وعمر من جهة وبين علي بن أبي طالب وأهل البيت(عليهم السلام) من جهة أخرى ، في حين يرى المتصفّح لأسمائهم وكناهم أنّ كُنّى المسمَّين بعلي من ولد الإمام علي هي إمّا أبو الحسن أو أبو الحسين أو أبا محمّد وأمثالها ، وأن كنية أبي بكر هي بعيدة عن كناهم ، ولا تتّفق مع ما قلناه
في أسمائهم وكناهم الإلهية ، واستبعاد أن تكون مأخوذة من أسماء وكُنّى
الحيوانات .
على أنّ ما قلناه ليس حساسية مّنا تجاه اسم أبي بكر وعمر وكناهما ، لأ نّا لا ننكر إمكان وجودهما بين الطالبيين ولا نهاب من التسمية بهذه الأسماء وهي لا تضرنا ولا تثبت عدالة الآخرين ، بل إنّ بحثنا هذا جاء لبيان الحقيقة العلمية والتاريخية لهذه المسألة ، ولإيقاف الباحثين على اُمور قد تكون خافية عليهم ، وخلاصة القول : أنّ أتباع نهج الخلفاء ادّعوا هذه الكنية لابن أبي قحافة مضاهاة لمال خديجة وما قدّمته من خدمات للإسلام ، لأ نّهم لا يقدرون على مضاهاة الإمام علي في حروبه وشجاعته ، فمالوا إلى انتازع مكارم السيدة خديجة وادّعاء وضع رسول الله كنية أبي بكر عليه مجاراة لكنيته السابقة له .
إن مناوئي ابن أبي قحافة من كبار رجالات قريش وبني هاشم لم يرتضوا بهذه المدّعيات وشكّكوا فيها ، لكنّ أبناءهم ـ مثل معاوية ويزيد ولأجل خلافهم
________________________________________ الصفحة 476 ________________________________________
مع بني هاشم ولزوم الاحتماء بالآخرين في هذا الصراع ـ استخدموا الشيخين كورقة رابحة، لكنّ الإمام عليّاً والأئمة من ولده وقفوا أمام مخطّطاتهم الدنيئة بتسامحهم المعهود ورقيّهم وسمّوهم طبق المعاني والمفاهيم الإلهية المتمثلّة بهم .1 ـ الإمام علي بن الحسين السجاد وتكنيهم إيّاه بأبي بكر !!2 ـ الإمام علي بن موسى الرضا وتكنيتهم إيّاه بأبي بكر ؟3 ـ الإمام علي بن محمّد الهادي وتكنيتهم إيّاه بأبي بكر ؟1 ـ أبو بكر بن علي بن أبي طالب .2 ـ أبو بكر بن الحسن السبط .3 ـ أبو بكر بن الحسين الشهيد .
الصفحة 423 ________________________________________
القسم الثاني
في التكنية بأبي بكر
________________________________________ الصفحة 424 ________________________________________
________________________________________ الصفحة 425 ________________________________________
كان يمكنني أن أبحث هذا الأمر ضمن القسم الأول من هذا الكتاب ; لأنّ كلمة (أبي بكر) عند العرب تقع تارة اسماً واُخرى كنية ، لكنّي آليت على نفسي أن أفرد لها قسماً خاصاً كي يمكنني توضيح بعض الأمور العالقة بها ; لاعتقادي بأ نّها تقع كنيةً أكثر من وقوعها اسماً ، وها أنا ذا أدخل في صلب الموضوع من خلال ثلاثة محاور .
المحور الأول : وفيه نبحث عن معنى (بكر) و (أبي بكر) عند العرب ، وهل أنّ هذه الكنية تأتي للمدح أم للذم ، أم لهما معاً ، أم لا هذا ولا ذاك ؟
المحور الثاني : وفيه نتكلم عن تاريخ إطلاق هذه الكلمة على (ابن أبي قحافة) ، وهل أنّها كانت له في الجاهلية أم اُطلقت عليه في الإسلام ؟ وهل أ نّها كنية خاصة به أم كُنِّي بها آخرون أيضاً ؟
________________________________________ الصفحة 426 ________________________________________
المحور الثالث : وفيه نشير إلى المسمَّين أو المكنَّين بأبي بكر من ولد أئمّة أهل البيت ، أو المكنين من الأئمّة ، وهل أنّ هذه الكنية هي من وضعهم (عليهم السلام) أم من وضع غيرهم ؟ وبيان دور المتأخرين في إبدال كنية بعض الطالبيين وجعلها اسماً لهم .
وأخيراً نتكلّم عن مدى صحّة الخبر المنسوب إلى الإمام الصادق(عليه السلام) : ما أرجو من شفاعة علي إلاّ وأنا أرجو من شفاعة أبي بكر مثله ، ولقد ولدني مرَّتين(1) .
____________
1- تهذيب الكمال 5 : 82 ، سير اعلام النبلاء 6 : 259 ، شرح اصول اعتقاد أهل السنة 7 : 1301 .
________________________________________ الصفحة 427 ________________________________________
المحور الأوّل
في معنى (بكر) و (أبي بكر)
ممّا لا شك فيه أنّ الحياة في الجزيرة العربية تختلف عن غيرها ; وذلك لطبيعتها الصحراوية ، ولكون الساكنين فيها بَدْواً رحّلاً يتنقّلون بين الصحارى والأودية والجبال بحثاً عن الكلأ والماء .
ونظراً لهذه الحالة الاجتماعية والطبيعية كانوا يهتمّون بالنبات والحيوان كثيراً .
فقد صنف النضر بن شميل (ت 204) مجموعته اللغوية المسماة بـ (الصفات) عن الزرع ، والكرم ، والبقول ، والاشجار ، والرياح ، والسحاب ، والأمطار ، وتبعه في ذلك أبو عمرو الشيباني (ت 206) بكتاب النخلة ، وأعقبهما الأصمعي (ت 213) بكتابه النخلة ، ثم ألف ابن الأعرابي (ت 231) كتاب صفة النخل وصفة الزرع والنبت والبقل .
وقد كتب أبو زيد الأنصاري (ت 215) كتاباً في التمر ، ومحمّد بن حبيب (ت 245) ، والحسين بن خالويه (ت 370) كتاباً في الشجر ، وقد ألّف أبو حاتم السجستاني (ت 255) في الكَرْم خاصة .
وقد كتب الجاحظ (ت 255) والدميري (ت 742) وغيرهما في الحيوان عموماً .
________________________________________ الصفحة 428 ________________________________________
وابن الكلبي (ت 204) في (نسب الخيل في الجاهلية والإسلام) ، وابن عبيدة (ت 210) والأصمعي (ت 216) في (الخيل) ، وابن الأعرابي (ت 231) والعيد جاني (ت 430) في (أسماء خيل العرب وأنسابها وفرسانها) ، والصاحبي التاجي (ت بعد 677) كتاب (الحلبة في أسماء الخيل المشهورة في الجاهلية والإسلام) ، إلى غيرها من عشرات الكتب المؤلفة في الخيل والبغال
والحمير .
كما ألّف النضر بن شميل (ت 204) والشيباني (ت 206) ، وسعيد بن اُوس الأنصاري (ت 215) ، والأصمعي (ت 216) ، وابن زياد الكلالي (ت 215) ، ونصر بن يوسف ـ تلميذ الكسائي ـ وأحمد بن حاتم (ت 231) ، وابن السكّيت (ت 246) ، والضبّي (ت 250) ، والجاحظ (ت 255) ، والسجستاني (ت 255) ، والرياشي (ت 257) ، وغيرهم كُتُباً في الإبل .
فالخيل والإبل رأس تلك الحيوانات ، وخصوصاً الإبل منها ، وذلك لمعرفتها بالطرق ، وصبرها على الأذى والبلاء ، وحملها للإنسان ومأكوله وملبوسه ومتاعه ، وقدرتها على تحمّل العطش لمدّة عشرة أيام ، وعيشها في الصحراء وعشقها للشمس ، وقدرتها في التعرف على النبات المسموم بالشم .
وقد جعل الله لها خصائص كثيرة اُخرى في وبرها وبولها ولبنها وشحمها وعظمها ، فقالوا عنها : إذا أحرق وبر الإبل ووضع على الدم سكن وقطع الدم ، و إذا شرب السكران من بول الإبل أفاق من حينه ، وإنّ بوله ينفع من ورم الكبد و يزيد في الباه ويكثر الشعر ، وان التمضمض بلبنه يحمي الأسنان من التسوّس وينفع الأسنان المأكولة ، وإنّ رائحة شحمه تخيف الحيتان فتولّي هاربة ، و إنّ عظمه يفيد الصرعى ، إلى غيرها من عشرات الخصائص والفوائد ، حتى قيل فيها : إن حملت أثقلت ، و إن سارت أبعدت ، و إن حُلِبت أروت ، و إن نُحِرت أشبعت .
________________________________________ الصفحة 429 ________________________________________
فالإبل عزٌّ لأهلها ، والغنم بركة كما جاء في الحديث النبوي الشريف(1) ، وقد حرم يعقوب على نفسه اكل الإبل ـ اجتهاداً من عند نفسه كما يقولون ـ ، وقد كانت لرسول الله ناقة سميت بالقصواء أو العصباء أو الجدعاء .
كل هذه الأمور جعلت العرب تعتزّ بالإبل وتهتمّ بها وتتفاخر بما لها منها ، وتؤلّف كتباً في صفاتها وخصائصها وأسمائها ، وتنظم الأشعار فيها ، وتسمّي لكل فترة من فترات عمرها أسماءً ، كالفصيل وابن مخاض وابن لبون و ...
ولو راجعت كتاب (الإفصاح في فقه اللغة) مثلاً لوقفت على أسماء كثيرة موضوعة لرأس البعير ، وعنقه ، وصدره ، وبطنه ، وكرشه ، وذنبه ، وضرعه ، وقوائمه ، وأنواع رضاعه .
كما أ نّهم ميّزوا بين الذكر والأنثى منها ، فوضعوا اسم الجمل على الذكر من الإبل ، والناقة للأنثى منها ، والبعير لهما معاً .
وقد أكّد سبحانه وتعالى على خصائص هذه الأنعام للناس في قوله (وَالاَْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَد لَّمْ تَكُونُواْ بَالغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)(2) .
وقوله تعالى (أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الاِْبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ)(3) .
وقوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعَامـاً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونِ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ
____________
1- مسند البزار 7 : 345 ، زوائد الهيثمي 1 : 487 عن ابن عمر ، والمعجم الكبير 24 : 426 ، ومسند أحمد 6 : 424 عن أم هانيء عن رسول الله .
2- النحل : 5 ـ 7 .
3- الغاشية : 17 .
________________________________________ الصفحة 430 ________________________________________
يَشْكُرُونَ)(1) .
ومن تلك الألفاظ الموضوعة (البكر) و (البكرة) وهي أسماء للفتيّ من الإبل ، ذلك الحيوان المحبوب والمهم في الجزيرة العربية .
وعليه فكنية (أبي بكر) لم تكن كنية بذيئة عند العرب ، وليس في اطلاقها على أحد عيبٌ ذاتي ، ولم تكن مختصه بأبن أبي قحافة فقد تكنى به اخرون من قبله ومن بعده .
أجل ، قد يؤتى بـ (أبي الفصيل) استنقاصاً للطرف ، وتصغيراً له ، وذلك حسب الاستعمال ، ومثلها في ذلك مثل الرّقاع قِبالَ الحذّاء والكنّاس
مقابل المنظِّف ، والنجار مقابل مهندس الديكور ، إلى غيرها من عشرات الكلمات .
والكنية قد يلحظ فيها نحوٌ من المعاني المُرادة ، وهي تشير إلى الحسن والقبح والخير والشر ، وقد تأتي تكريماً كما قد تأتي توهيناً أو إخباراً .
فالله سبحانه وتعالى لم يأت بذكر عمّ رسول الله أبي لهب في القرآن الكريم إكراماً له في قوله (تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَب وَتَبَّ) بل جاء بها ذماً
وتجريحاً(2) .
وكذا غيرها من الكنى التي توضع بعناية ما خيراً كانت أم شراً ، إخباراً كانت أم إعلاماً .
فالناس كانوا يكنون يزيد بن معاوية بأبي القردة لحبّه للقرود ، وأبا هريرة
____________
1- يس : 71 ـ 73 .
2- قال الزمخشري في سبب تكنية أبي لهب في القرآن ، بقوله : فإن قلت : لِمَ كنَّاهُ والكنيةُ مكرمة ؟ قلت : فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون مشتهراً بالكنية دون الاسم ، والثاني : أ نّه كان اسمه عبدالعزّى فعدل عنه إلى كنيته ، والثالث : أ نّه لمّا كان من أهل النار ومآله إلى النار ذات اللهب وافقت حال كنيته ، وكان جديراً بأن يذكر بها (انظر عمدة القارئ 8 : 232) .
________________________________________ الصفحة 431 ________________________________________
لاعتزاره بالهرة(1) ، والحجّاج أَبا وذحة(2) لجعلها في موضع من جسده كما يقال ، وسعيد بن حفص البخاري أَبا الفارة ، ومروان بن عبدالملك أبا الأكيس والمنصور العباسي أبا الدوانيق و ...
فاستعمال الكنى إذن مضافاً للعلمية يلحظ فيها شيئاً ما بعناية ما ، فلا توضع على الاخرين جزافاً واعتباطاً ، غالباً ، وإن كانت ربّما وضعت ارتجالاً
أيضاً .
والآن نسأل : ما وجه تكنية ابن أبي قحافة بأبي بكر ؟
ولماذا هذه الكنية بالخصوص لا غير ؟ وهل أ نّها كانت كنيته في الجاهلية أم أ نّها أُطلقت عليه في صدر الإسلام؟
بل ماذا يعني ما حكوه عن رسول الله من أ نّه غيّر اسم ابن أبي قحافة من عتيق أو عبد الكعبة إلى عبدالله ، وكنيته إلى أبي بكر ؟
فماذا كانت كنيته في الجاهلية حتّى يغيّرها رسول الله ؟ ولماذا لا يشيرون إلى هذه الكنية ؟
بل لماذا لا يكنّيه رسول الله بأبي عبدالرحمن وأبي محمّد وأمثال ذلك ؟ مع أ نّه(صلى الله عليه وآله) شخص رساليّ هادف في أعماله يدعو إلى توحيد الله والتسمية بما عُبِّد وحُمِّد وأفضل الأسماء والكنى والألقاب وخيرها .
هذه الأمور يجب توضيحها ، كي نعرف من خلالها دواعي وضع الآخرين هذه الكنية على المعصومين من أهل البيت (عليهم السلام) أو على بعض أولادهم .
____________
1- انظر عمدة القارئ 1 : 124 وفيه : وهو أول من كُنِّي بهذه الكنيته لهرة كان يلعب بها ; كناه النبي بذلك !!
2- شرح النهج 7 : 279 ، مجمع البحرين 4 : 485 .
________________________________________ الصفحة 432 ________________________________________
________________________________________ الصفحة 433 ________________________________________
المحور الثاني
متى كُنّي أبو بكر بأبي بكر ؟
ولِمَ ؟ وما هي كنيته السابقة ؟
من المعلوم أنّ الكنية تأتي غالباً لاشتهار خصلة أو انتساب إلى جهة أو صفة ، أو لتلازم وتقارب ، فبعضها تأتي صريحة وأخرى مضمرة .
قال الأهدل :
والمقتضي للتكنية اُمور :
الأوّل : الإخبار عن نفس ، كأبي طالب ، كُنِّي بابنه طالب ، وهذا هو الأغلب .
الثـاني : التفاؤل والرجاء ، كأبي الفَضْل ; لمن يرجو ولداً جامعاً للفضائل .
الثالث : الإيماء إلى الضدِّ ; كأبي يحيى لملك الموت .
الرابع : اشتهار الشخص بخصلة فيكنى بها ، إمّا بسبب اتّصافه بها في نفسه أو انتسابه إليها بوجه قريب أو بعيد ، كأبي الوفاء لمن اسمه إبراهيم ، وأبي الذبيح لمن اسمه إسماعيل أو إسحاق(1) .
____________
1- الكواكب الدرية ، للاهدل 1 : 52 .
________________________________________ الصفحة 434 ________________________________________
أمّا الاحتمال الاول فلا يمكن تصوّره في التكنية بأبي بكر لابن أبي قحافة ، لأ نّه ليس له ولد بهذا الاسم(1) .
أ مّا الاحتمال الثاني فقد يمكن تصوره إذا أُريد منه الدلالة على السخاء والكرم ، وهذا ما أراده الآخرون بأَخَرة ، ساعين للتدليل عليه من خلال أخبار موضوعة ; مثل أنّه اشترى بلال بن رباح وعامر بن فهيرة وخلّصهم من المشركين من أمواله الخاصة(2) ، أو أ نّه أنفق على النبي أربعين ألف درهم وفي لفظ دينار(3) ، أو أ نّه اشترى راحلتين بمبلغ 800 درهم وصرف عليها لأربعة أشهر أو ستّة وأعدّها كي يسافر عليهما النبي إلى المدينة(4) ، أو أ نّه بنى مسجد جميح ـ قبل مسجد قبا ـ في المدينة ... إلى غيرها من الأخبار الموضوعة .
غير أنّ هذه التكنية تصحّ على هذا الوجه الثاني إذا كانت من قِبَل الأب ـ قبل أو عند أو بعد ولادة أبنه ـ لا من قبل غيره ، والمعروف أنّ أباه لم يكنّه بهذه الكنية حتى يقال بوضعها له على التفاؤل ، خصوصاً وأن هذه الأخبار يكذّبها مال خديجة و إغناء الله لنبيّه ، فأبو بكر إن اشترى بلالاً ـ أو غيره من المسلمين ـ فقد اشتراهم من مال الرسول ، لكنه كان الواسطة في ذلك لصلته بالمشركين .
كما أنّ عدم قبول رسول الله الراحلتين من أبي بكر إلاّ بثمن ليؤكّد بأ نّه
كان لرسول الله مال يمكنه الإنفاق منه ، فلا داعي لمنّة أحد عليه وعلى
____________
1- انظر تحفة المولود 1 : 134 مثلاً .
2- تفسير ابن أبي حاتم 10 : 3441 ، وفيه : إنّ أبا بكر اعتق سبعة كلهم يُعَذَّب في الله : بلال ، وعامر بن فهيرة ، والنهدية ، وابنتها ، وزفيرة ، وأم عيسى ، وأمة بني المؤمل ، وانظر أيضاً زاد المعاد 3 : 23 ، والسيرة الحلبية 1 : 481 .
3- مناقب بن شهرآشوب 1 : 345 ، وعنه في بحار الأنوار 41 : 24 ، صحيح ابن حبان 15 : 274 ح 6859 ، موارد الظمآن 1 : 532 ح 2167 .
4- السيرة الحلبية 2 : 188 ، وانظر صحيح البخاري 2 : 804 ح 2175 و 3 : 1418 ح 3692 و 5 : 2187 ح 5470 ، مسند أحمد 6 : 198 ، صحيح ابن حبان 14 : 180و 15 : 286 .
________________________________________ الصفحة 435 ________________________________________
الرسالة(1) .
ويضاف إلى ذلك : أنّه لو كان لأبي بكر هذه الأموال فلماذا لا نعرفه تاجراً كتجار قريش مثل (أبي سفيان) و (أبي جهل) و (عبدالله بن جدعان) ، وكسعد بن عبادة من الأنصار ، وأمثالهم ممن عُرفوا واشتهروا بالغنى والوَفْر ؟ بل كلّ ما عرفناه أ نّه ابن أبي قحافة المنادي على مائدة عبدالله ابن جدعان التيمي(2) التاجر القرشي الفاسق وعبداً له ، وقد قال شاعر عائشة في حرب الجمل عمير بن الأهلب الضبيّ :
أطعنا بني تيم بن مرّة شِقوةً وهل تيم إلاّ أعبدٌ و إماءُ(3)
وفي رواية اخرى أ نّه قال :
كفينا بني تيم بن مرّة ما جنت وما تيم إلاّ أعبدٌ و إماء(4)
بل كيف يمكن تصحيح ما قيل عنه مع ما رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى عن عطاء بن سائب أ نّه قال : لما استُخلف أبو بكر أصبح غادياً إلى السوق وعلى رَقَبَتِهِ أثْوَابٌ يَتجِرُ بها فلَقِيَهُ عمرُ بن الخطّاب وأبو عُبيدة بن الجرّاح فقالا له : أين تريد يا خليفة رسول الله ؟ قال : السوق .
قالا : تَصْنَعُ ماذا وقَدْ وليتَ أمرَ المسلمينَ ؟
قال : فمِنْ أين أُطْعِمُ عِيالي ؟
قالا له : انْطَلِقْ حتى نَفْرِضَ لكَ شيْئاً ، فانطلق معهما ففرضوا له كلّ يوم شَطْرَ
____________
1- صحيح البخاري 3 : 1419 ح 3692 ، و 5 : 2187 ح 5470 ، مسند أحمد 6 : 198 ح 25667 . وفيه ان رسول الله(صلى الله عليه وآله) حينما أراد الخروج إلى المدينة ، قال له أبو بكر : فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين . قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالثمن .
2- انظر رجال الكشي : 277 الرقم 108 ، وعنه في الدرجات الرفيعة : 108 ، وبحار الأنوار 32 : 27 ، وفيه زيادة على نص الكشي هي : وهو ابن أبي قحافة حامل قصاع الودك لابن جدعان إلى اضيافه ؟!
3- تاريخ الطبري 3 : 50 ،الكامل في التاريخ 3 : 139 ، أنساب الأشراف 3 : 59 .
4- تاريخ دمشق 1 : 105 .
________________________________________ الصفحة 436 ________________________________________
شاة وما كسوه في الرأس والبَطْن .
فقال عمر : إليّ القضاء .
وقال أبو عُبيدة : و إليّ الفَيْءُ .
قال عمر : فلقد كان يأتي عَليّ الشَهْرُ ما يَخْتَصِمُ إليّ فيه اثْنَان(1) .
لا أدري كيف يعقل بناء أبي بكر مسجد جميح مع علمنا بأنّ مسجد قبا هو أوّل مسجد أُسّسس على التقوى لا مسجد جميح .
وكيف يسمح الجمحيّون بأن يبني أبو بكر مسجداً وهم الذين ضربوا عثمان بن مظعون وآذوه لإسلامه .
بل كيف تصح هذه الأقوال فيه وهو من أذّل بيت في قريش حسب قول أبي سفيان القرشي لعلي : غلبكم على هذا الأمر أذلّ بيت في قريش ، لأملأنها خيلاً ورجلاً(2) .
وكيف تتطابق تلك الادّعاءات مع ما روي عن أبي هريرة في مستدرك الحاكم إذ قال : لما قبض النبي(صلى الله عليه وآله) بلغ أهل مكة الخبر ، فسمع أبو قحافة الهائعة ، فقال : ما هذا ، قالوا : توفي النبي(صلى الله عليه وآله) .
قال : أمرٌ جليل ، فمن قام بالأمر من بعده ؟
قالوا : ابنك .
قال : ورضيت بنو مخزوم وبنو المغيرة ؟!
قالوا : نعم .
قال : اللّهم لا واضع لما رفعت ولا رافع لما وضعت(3) .
وفي نص الطبقات لابن سعد : لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع
____________
1- الطبقات الكبرى لابن سعد 3 : 184 .
2- سمط النجوم العوالي 2 : 402 ، زاد : يعني قبيلة أبي بكر وهي تيم فإنها أضعف قبيلة في قريش .
3- المستدرك على الصحيحين 3 : 274 قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
________________________________________ الصفحة 437 ________________________________________
الله(1) .
وفي المستدرك أيضاً عن مرة الطيب : جاء أبو سفيان بن حرب إلى علي بن أبي طالب(رضي الله عنه) فقال : ما بال هذا الأمر في أقلّ قريش قلةً وأذلّها ذلة ـ يعني أبا بكر ـ والله لئن شئت لأملأ نّها عليه خيلا ورجالا(2) .
وفي كنز العمال عن سويد بن غفلة ، قال : دخل أبو سفيان على علي والعباس فقال : يا علي وأنت يا عباس ، ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش وقُلِّها ـ وقلها القُلُّ ، بالضمَ القلة ، كالذل والذلة ، النهاية ـ والله لئن شئت لاملأنها عليه خيلا ورجالا(3) .
وفي تاريخ مدينة دمشق بزيادة : والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجالا ولأثورنها عليه من أقطارها(4) .
وفي مصنف عبدالرزاق : عن بن أبجر : قال لما بويع لأبي بكر(رضي الله عنه) جاء أبو سفيان إلى علي فقال : غلبكم على هذا الأمر أذل أهل بيت في قريش أما والله لأملأنها خيلا ورجالا(5) .
والإمام قال بهذا القول كي لا يستغل أبو سفيان الخلاف بينه وبين ابن أبي قحافة ، لأ نّه(عليه السلام) كان يعلم بأنّ أبا سفيان لم يرد نُصرة الإسلام و إِنّما أراد تحكيم المفاهيم القبلية فلذلك لم يُعْطِ أميرُ المؤمنين(عليه السلام) لأبي سفيان الذريعة من خلال نزاعه مع أبي بكر .
ولا يخفى عليك أنّ العرب الأقحاح ربّما آمنوا بالرسول وانقادوا له لأ نّه
____________
1- الطبقات الكبرى لابن سعد 3 : 184 .
2- المستدرك على الصحيحين 3 : 83 ، تاريخ الخلفاء : 67 .
3- كنز العمال 5 : 262 و 260 عن زيد بن علي ، تاريخ دمشق 23 : 465 وفيه : وأقلها بدل : وقلها .
4- تاريخ مدينة دمشق 23 : 465 وانظر مرقاة المفاتيح 4 : 53 أيضاً .
5- مصنف عبدالرزاق 5 : 451 .
________________________________________ الصفحة 438 ________________________________________
رسول من الله يحمل جميع صفات الكمال ، ومنها بسطة النسب وعزّ العشيرة وكرم الحسب ورفعته ، فأ مّا من لم ينصّ عليه الرسول ، ولا كان ذا نسب وحسب ، فإنّ العرب تأبى الانقياد له ، خصوصاً وأ نّه كان يأخذ الأموال بالتسلّط
والقهر والجبروت ، وهذا ما يأنف منه العربي الأصيل ، وسيأتيك كلام
أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في الكيفية التي يجب اتباعها في أخذ الزكوات
والصدقات(1) .
وعلى كلّ حال فإنّ وضاعة نسب أبي بكر لا مجال للمنازعة فيها ولذلك قال حطية :
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا فيا لعباد الله ما لأَبي بكرِ
وفي اخر :
أطعنا رسول الله إذ كان وسطنا فياعجباً ممن يطيع أبا بكر
وإنّ أُناساً يأخذون زكاتكم أقّل وربّ البيت عندي من الذَّرِّ
أَنعطى قريشاً ما لَنا إنَّ هذه لتك التي يَخْزَى بها المرء في القبرِ
وما لبني تيم بن مرة إمرةٌ علينا ولا تلك القبائل من فِهْرِ
لأنّ رسولَ اللهِ أَوْجَبُ طاعةً وأَولى بما استولى عليهم من الأمر
وقال الحارث :
كان الرسول هو المطاع فقد مضى صلّى عليه الله لم يستخلفِ
هذا مقالك يا زياد فقد أرى أَنْ قد أَتيتَ بقولِ سُوء مُخْلفِ
ومقالُنا أَنَّ النبيَّ محمّداً صلى عليه الله غيرُ مكلِّفِ
تَرَكَ الخلافةَ بعده لولاته ودَعا زيادٌ لامرئٌ لم يُعْرَفِ
إِن كان لابنِ أبي قُحافة إمرةٌ فلقد أَتى في أَمرِهِ بتَعَسُّفِ
____________
1- في صفحة : 456 .
________________________________________ الصفحة 439 ________________________________________
أم كيفَ سَلَّمَتِ الخلافةَ هاشمٌ لعَتِيقِ تيم كيفَ ما لم تَأنَفِ(1)
وفي كتاب الردة للواقدي والفتوح لابن اعثم قال حارثة : نحن إنما أطعنا رسول الله إذ كان حيّاً ، ولو قام رجل من أهل بيته لأطعناه ، وأمّا ابن أبي قحافة فما له طاعة في رقابنا ولا بيعة(2) .
قال الأشعث إني أعلم أن العرب لا تقر بطاعة بني تيم بن مرة وتدع سادات البطحاء من بني هاشم إلى غيرها ...(3)
وقال الأشعث بن قيس : لا تعطوا الزكاة لأنّني أعلم بأنّ العرب لا تُعطي الزكاة لبني تيم ولا يتركون بني هاشم ، ثم أنشد أشعاراً ...(4) .
وأخرج الدارقطني : أنّ أبا سفيان بن حرب قال لعلي بأعلى صوته لما بايع الناس أبا بكر : غلبكم على هذا الأمر أذل بيت في قريش ـ يعني قبيلة أبي بكر ، وهي تيم ، فإنّها أضعف قبيلة في قريش ، وإنما عزّت بكون أبى بكر وطلحة منها ـ أما والله لأملأنها عليه خيلاً ورجلا إن شئت ، فقال له علي : لا يا عدو الإسلام وأهله ، فما ضر ذلك الإسلام وأهله ، إذا تقرر هذا فالواجب على كل مؤمن بالله ورسوله ...(5) .
ومن كتاب من علي لمعاوية : ... وقد كان أبوك أبو سفيان جاءني في
الوقت الذي بايعتُ فيه أبا بكر فقال : ( لأنت أحق الناس بهذا الأمر من
غيرك وأنا أؤيدك على من خالفك ، ولئن شـئت لأملأنَّ المدينة خيلا ورَجْلاً
على ابن أبي قحافة ) فلن أقبل ذلك ، والله يعلم أن أباك قد فعل ذلك حتى كنت
أنا الذي أبيت عليه مخافة الفرقة بين أهل الإسلام ، فإنّ تعرف من حقّي
____________
1- كتاب الردة للواقدي : 177 ، الفتوح لابن الأعثم 1 : 480 .
2- كتاب الردة للواقدي : 171 ، والفتوح لابن الأعثم 1 : 47 .
3- كتاب الردة : 175 .
4- كتاب الردة للواقدي : 175 .
5- سمط النجوم العوالي 2 : 402 .
________________________________________ الصفحة 440 ________________________________________
ما كان أبوك يعرفه فقد أصبت رشدك ، و إن أبيت فها أنا قاصد إليك
ـ والسلام(1) .
كل هذه النصوص تجعلنا نأبى كون وضع كنية أبي بكر على ابن أبي قحافة جاء من باب التفاؤل والرجاء ; لأ نّه هو الذي نزل فيه قوله تعالى : (أاَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَي نَجْوَاكُمْ صَدَقَة)(2) .
فقد كان مشفقاً شحيحاً في أن يقدم بين يدي نجواه للرسول صدقة بسيطة ، فكيف يهب هذه الأموال الكثيرة ؟
والتفصيل في هكذا اُمور من المواضيع التي يمكن أن تبحث في السيرة النبوية وكتب الكلام لا هنا .
أ مّا الاحتمال الثالث فيعني وضع هذه الكنية تعريضاً بأبي بكر ، كأن يقال للأسود : (أبو البيضاء) ، أو للاعمى : (أبو بصير) ، وللأقرع : (أبو الجعد) ، وللأعرج : (ابن ذي الرجل) ، وهذا بعيد لو قلنا بوضع هذه الكنية من قِبَلِ رسول الله عليه .
أ مّا الاحتمال الرابع فقد يكون وارداً ; لكن بعناية ما ، وهو الذي دعا رسول الله أنّ يبدل كنيته من أبي الفصيل إلى أبي بكر ، ولم يكنّه بأبي عبدالرحمن
أو أبي محمّد ، كلّ ذلك مجاراة لكنيته الأُولى في الجاهلية ، كما رأيناه(صلى الله عليه وآله) قد
بدل كلمة (حزن) بـ (سهل) ، و (عاصية) إلى (جميلة) ، لأنّ من المعروف بأن أبا قحافة ـ وقيل هو أيضاً ـ كانا يناديان على مائدة ابن جدعان ، فكأنّ التكنية
بذلك جائه لكونه يرعى إبل ابن جدعان أو غيره ، فصارت كنية (أبي الفصيل)
ملازمة له .
و إليك تفصيل رؤيتنا كي تقف على أنّ كنية ابن أبي قحافة في الجاهلية
____________
1- الفتوح 2 : 559 .
2- المجادلة : 12 .
________________________________________ الصفحة 441 ________________________________________
وصدر الإسلام لم تكن أبا بكر بل هي أبي الفصيل ، ومن خلاله تقف على الدواعي لتبديله إلى أبي بكر .
ما هي كنية ابن أبي قحافة في الجاهلية وصدر الإسلام ؟
هناك نصوص في كتب التاريخ تشير إلى أنّ المناوئين لابن أبي قحافة كانوا يسمّونه في الجاهلية وصدر الإسلام بـ (أبي الفصيل) و (ذي الخلال) تعريضاً به .
والفصيل : ولد الناقة إذا فصل عن اُمه(1) ، واصله من القطع(2) ، بخلاف البَكْر ـ بالفتح ـ وهو الفَتِيّ من الإبل(3) ، وقيل : البكر الناقة التي ولدت بطناً واحداً والجمع أبكار(4) ، وهو أكبر من الفصيل(5) .
فأعداء أبي بكر كانوا يريدون أن يقولوا له : مَن أنت حتّى تُكَنَّى بأبي بكر ؟! ، إذ كُلُّ ما عرفناه عنك أنك ووالدك كنتما من الذين تدعون على مائدة عبدالله بن جدعان(6) ، فإنَّكَ أبا الفصيل لا أبا بكر .
أجلّ إنّهم كانوا يدعونه أيضاً (بذي الخلال) تشبيهاً بالفصيل الذي يراد فطمه من الرضاع ، فيغرزون في أنفه خِلالة ، فإذا لهج الفصيل بالرضاع نخس الخلال ضرع الناقة فمنعته من الرضاع(7) .
____________
1- المحكم والمحيط الأعظم 8 : 329 .
2- كشف المشكل 3 : 406 ، تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي 1 : 314 وانظر ادب الكاتب للصولي 1 : 54 .
3- المغرب في ترتيب المعرب 1 : 84 ، المحكم والمحيط الأعظم 7 : 20 ، شرح النووي على صحيح مسلم 8 : 77 .
4- المحكم والمحيط الاعظم 7 : 19 ، تهذيب اللغة 10 : 127 .
5- البكر والبكرة بمنزلة الغلام والجارية اللذين لم يدركا ، تهذيب اللغة 1 : 34 ولسان العرب 3 : 360 .
6- اُنظر التفسير الكبير 3 : 206 ، وتاريخ دمشق 1 : 436 .
7- انظر خزانة الأدب 2 : 392 ، غريب الحديث للخطابي 1 : 388 .
________________________________________ الصفحة 442 ________________________________________
و إليك الآن بعض النصوص الدالّة على تكنيته بأبي فصيل قبل إطلاق كنية أبي بكر عليه :
منها : ما جاء في كتب التفسير والتاريخ أنّ المشركين في مكّة فرحوا وشمتوا بالمسلمين لمّا غلبت فارسُ الرومَ ، لأنّ أهل الروم كانوا نصارى ومن أهل الكتاب ، أما فارس فكانت مجوسيّة وليس لها كتاب ، فنزلت الآية : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الاَْرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينِ لِلَّهِ الاَْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(1) ، لتسكين قلوب المؤمنين .
وجاء عن أبي بكر أ نّه قال للمشركين : لا يقرَّنَّ الله أعينكم ، فوالله لتظهرنَّ الرومُ على فارسَ بعد بضع سنين .
فقال له أبي بن خلف [من المشركين] : كذبتَ يا أبا فصيل ، اجعل بيننا أجلاً أُناحِبُكَ عليه ، والمُناحَبَةُ المُراهنة(2) .
وهذا النص ليشير إلى أنّ ابن أبي قحافة كان يكنّى في الجاهلية بـ (أبي الفصيل) ، وقد يكون قالها له استنقاصاً وتحقيراً .
وقريب من الخبر الآنف ما جاء في المحرّر الوجيز : أنّ أبا بكر خرج إلى المسجد فقال لهم : أَسَرَّكُم أن غُلِبَتِ الروم ، فإنّ نبيّنا أخبرنا عن الله تعالى أ نّهم سَيَغْلِبُونَ في بعض سنين .
فقال له أبيُّ بن خلف ، وأمية أَخوه ، وقيل : أبو سفيان بن حرب : تعال يا أَبا فصيل ـ يعرِّضون بكنيته بالبكر ـ فلنتناحب ، أي نتراهن في ذلك ، فراهنهم أبو بكر ...(3)
ومن المعلوم أنّ الكنية لا تظهر فجأة بين عشيّة وضحاها للأشخاص ، بل هي
____________
1- سورة الروم 1 ـ 4 .
2- تفسير مقاتل 3 : 3 ، الكشاف 3 : 472 ، تاريخ الطبري 1 : 468 .
3- المحرر الوجيز 4 : 328 .
________________________________________ الصفحة 443 ________________________________________
ملازمة لصاحبها منذ نشوئه وبلوغه ، والمشركون كانوا يعرفونه بهذه الكنية ولأجله خاطبوه بها .
والنصُّ السابق يحدِّد لنا تاريخ إطلاق كنية أبي الفصيل على ابن أبي قحافة عند عرب الجزيرة ، وأ نّهم كانوا لا يقبلون بإطلاق كنية أبي بكر عليه ، لأ نّه أصغر من أن يحملها ، وصدور هذا النص كان في بداية الدعوة الإسلامية وحين نزول آية (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) .
ولا أستبعد أن يكون المشركون كنوه بهذه الكنية استنقاصاً منه ، وهو يؤكّد لنا أنّ كنية أبي الفصيل كانت للاستنقاص لا المدح .
وعلى كلا التقديرين ، فإنّ كنية أبي الفصيل هي إحدى كُنّى أبي بكر قبل الإسلام سواء وُضعت من قبل أصدقائه أو من قبل أعدائه .
أبو الفصيل كنية ابن أبي قحافة في الجاهلية
قال التبريزي في اللمعة البيضاء : و (أبو قحافة) كنية عثمان بن عامر كما في القاموس ، وعثمان أبو أبي بكر .
واسم أبي بكر هو عبدالله ، فأبو بكر هو عبدالله بن عثمان بن عامر ، وكانت كنية أبي بكر في الجاهلية أبا الفصيل ، فلمّا أسلم كنّاه رسول الله(صلى الله عليه وآله) بأبي بكر .
وتكنية أبيه بأبي قحافة ، لأن القحف ـ بالكسر ـ نصف القدح من الخشب على مثال قحف الرأس ، وهو العظم الذي فوق الدماغ ، ثم يقال : اقتحف الرجل إذا شرب ما في الإناء ، والقحافة ـ بالضم ـ ما يقتحف من الإناء ، سُمِّي عثمان المذكور بأبي قحافة ، إمّا لكونه مضيفاً للناس ، أو لكونه داعياً لضيافة الناس ، أو لكونه طبّاخاً ونحو ذلك . والمشهور المأثور أنّه كان داعياً لضيافة عبدالله بن جدعان في الجاهلية(1) .
____________
1- اللمعة البيضاء للتبريزي الأنصاري : 651 .
________________________________________ الصفحة 444 ________________________________________
وفي مرآة العقول في شرح أخبار الرسول : وقيل أنّه [أي التكنّي بأبي الفصيل ]كان كنيته قبل أظهار الإسلام ، وبعده كنّاه النبي بأبي بكر ، وروي أنّ أبا سفيان قال يوم غصب الخلافة : لأملأنها على أبي فصيل خيلاً ورجلاً .
وذكر السيّد الشريف في بعض حواشيه : وقد يعتبر في الكنى المعاني الأصلية ، كما روي أنّ في بعض المفردات نادى بعضُ المشركين أبا بكر : أبا الفصيل(1) .
قال الشيخ محمّد العربي التباني الجزائري : والناس كَنَّوا أبا بكر بأبي الفصيل احتقاراً له ، وقالت قبيلة أسد وفزارة : لا والله لا نبايع أبا الفصيل أبداً ، فتقول لهم خيل طيّ : أشهد ليقاتلنكم حتى تكنّوه أبا الفحل الأَكبر(2) .
أبو فصيل كنية ابن أبي قحافة بعد وفاة رسول الله أيضاً
روى المدائني عن مسلمة ، قال : قُبض رسول الله وأبو سفيان على صدقة نجران ، فقال : من قام بالأمر ؟ قالوا : أبو بكر ، قال : أبو الفصيل ؟! إنّي لأرى أمراً لا يُسكّنه إلاّ الدم(3) .
وفي نص الطبري وابن الأثير والنص عن الثاني : لمّا اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول : إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ دم ، يا آل عبدمناف ، فيمَ أبو بكر من أموركم ؟! أين المستضعفان ، أين الأذلان علي والعباس ؟! ما بال هذا الأمر في أقلّ حيّ من قريش ؟! ثم قال لعلي : ابسط يَدَك أبايعك ، فوالله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجلا ، فأبى علي(عليه السلام) ، فتمثل [أبو سفيان] بشعر المتلمس .
____________
1- مرآة العقول 26 : 118 . وانظر شرح اُصول الكافي للمازندراني 12 : 270 .
2- انظر تحذير العبقري 2 : 140 ، والنص موجود في تاريخ الطبري 2 : 261 ، البداية والنهاية 6 : 317 .
3- أنساب الأشراف 5 : 12 ، وفي طبعة زكار 5 : 18 .
________________________________________ الصفحة 445 ________________________________________
ولن يقيمَ على خسف يُرادُ به إلا الأذلان عَيْرُ الحيِّ والوَتِدُ
هذا على الخسفِ مربوطٌ برُمَّتِهِ وذا يُشَجُّ فلا يبكي له أحدُ
فزجره علي وقال : والله إنّك ما أردت بهذا إلاّ الفتنة ، و إنّك طالما بغيت للإسلام شرّاً ، لا حاجة لنا في نصيحتك(1) .
وعن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : إنّ أبا سفيان كان حين قبض النبي غائباً ; بَعَثَ به مُصَدِّقاً(2) .
فلمّا بلغته وفاة النبي قال : من قام بالأمر بعده ؟ قيل : أبو بكر ، قال : أبو الفصيل ؟! أني لأَرى فتقاً لا يرتقه إلاّ الدم(3) .
وروى أحمد بن عمر بن عبدالعزيز ، عن عمر بن شبّة ، عن محمّد بن منصور ، عن جعفر بن سليمان ، عن مالك بن دينار ، قال : كان النبيّ قد بعث أبا سفيان ساعياً فرجع من سعايته ، وقد مات رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فلقيه قوم فسألهم ، فقالوا : مات رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فقال : من ولي بعده ؟ قيل : أبو بكر ، قال : أبو فصيل ؟! قالوا : نعم ، قال : فما فعل المستضعفان علي والعباس ! أمّا والذي نفسي بيده لأرفعنّ لهما من أعضادهما(4) .
ومقولة أبي سفيان تشير إلى مرتكز فكريّ كان يحمله عن ابن أبي قحافة ، وأ نّه كان يعرفه في الجاهلية بأبي الفصيل لا بأبي بكر ، أي أ نّه أراد أن يقول : تعنون أبا فصيل ، أبا بكر ؟! ما كنّا نعرفه في الجاهلية إلاّ بأبي الفصيل .
فقد يكون كلامه هو إخبار عمّا عرفه في الجاهلية ، وقد يكون تعريضاً به ، وعلى كلا التقديرين نفهم من إطلاق كلمة أبي فصيل عليه أ نّها كانت كنية معروفة له عند غالب قريش ، وأ نّها لم تكن من وضع بني هاشم وأعدائه من أصحاب
____________
1- تاريخ الطبري 2 : 237 ، الكامل في التاريخ 2 : 189 والنص منه .
2- أي جامعاً آخِذاً للصدقات عاملاً عليها .
3- أنساب الأشراف 1 : 589 وفي طبعة زكار 2 : 271 .
4- شرح نهج البلاغة 2 : 44 ، مرآة العقول 26 : 346 .
________________________________________ الصفحة 446 ________________________________________
الردّة كما قد يُدِّعى .
وجاء عن أبي سفيان أيضاً أ نّه نادى الناس بقوله : يا بني هاشم ، يا بني عبدمناف ، أرضيتم أن يلي عليكم أبو فصيل ....(1)
وجاء في تاريخ الطبري بسنده عن حماد بن سلمة بن ثابت ، قال : لما استخلف أبو بكر ، قال أبو سفيان : ما لنا ولأبي فصيل ...(2)
أجل ، إنّ أئمّة أهل البيت ذكرو ابن أبي قحافة أيضاً بهذه الكنية .
فجاء في بصائر الدرجات مسنداً عن أبي جعفر الباقر أ نّه قال : لما كان رسول الله في الغار ومعه أبو الفصيل ، قال رسول الله : إنّي لأنظر الآن إلى جعفر وأصحابه الساعة تعوم بهم سفينتهم في البحر ، فقال أبو الفصيل : أتراهم يا رسول الله ! الساعة ؟! ... وأسرَّ في نفسه أ نّه ساحر(3) .
وفي الكافي أنّ الإمام الصادق سُئل عن قوله تعالى (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً) ، قال : نزلت في أبي الفصيل(4) .
وفي تفسير العياشي أيضاً أنه(عليه السلام) سُئل عن أعداء الله ؟ فقال : الأوثان
الأربعة .
فقيل : من هم ؟
فقال : أبو الفصيل ، ورمع ، ونعثل ، ومعاوية ، ومن دان بدينهم ، فمن عادى هؤلاء فقد عادى أعداء الله(5) .
____________
1- الارشاد 1 : 190 ، اعلام الورى 1 : 271 .
2- تاريخ الطبري 2 : 237 حوادث سنة احدى عشر .
3- بصائر الدرجات : 125 الجزء التاسع : 442 باب 1 ح 13 وعلق المجلسي في الفتن من بحاره 30 : 193 عليه بالقول : ويكنّى عن أبي بكر بأبي الفصيل لقرب معنى البكر وهو الفتي من الابل ، وذكره في خاتمة المطاعن مستدركاً 31 : 607 ح 62 .
4- الكافي 8 : 204 ح 246 وانظر شرح الكافي للمازندراني 1 : 140 و 12 : 270 وبحار الأنوار 24 : 121 ، 30 : 268 ، 35 : 375 عن الكافي .
5- تفسير العياشي 2 : 116 ح 155 وعنه في بحار الأنوار 27 : 58 ، 31 : 607 .
________________________________________ الصفحة 447 ________________________________________
كلّ هذه النصوص تشير إلى أنّ كنية ابن أبي قحافة الأصلية هي (أبو فصيل) عند أهل البيت ومناوئي ابن أبي قحافة ، وتتأكد صحّة دعوانا حينما نرى
الآخرين لا يذكرون كنيته السابقة مع تأكيدهم على تغيير رسول الله لاسمه من عبدالكعبة أو عتيق إلى عبدالله ، فما هي الكنية السابقة له إذن إن كانت غير
ما قلناه ؟!
ذو الخلال مدح لأبي بكر أم ذمّ ؟
ذكرت كتب السيرة والتاريخ وجود لقب (ذي الخلال) لأبي بكر ، فقد جاء في (موضح أوهام الجمع والتفريق) عن رافع بن عمرو ـ رجل من طي ـ : أنّ رسول الله بعث عمرو بن العاص على جيش في ذات السلاسل ، وبعث في ذلك الجيش أبا بكر وعمر وسراة أصحابه رضي الله عنهم ، فانطلقوا حتى انتهوا إلى جبل طي ، فقالوا : انظروا لنا رجلاً يدلّنا على الطريق يأخذ بنا المفاوز ، فقالوا : لا نعلمه إلاّ رافع بن عمرو ، فإنّه كان رجلاً ربيلاً في الجاهلية ، قال ، فقلنا : ما الربيل ؟ قال : اللص الذي يأخذ القوم وحده ثم يأخذ في المفاوز .
قال : فانطلقت معهم حتى إذا رجعوا من المكان الذي حاجتهم فيه ، قال : أتيتُ أبا بكر فقلت : ياذا الخلال توسَّمتك من بين أصحابك ، قال : ولِمَ ؟ قال : لتعلمني ، قال : قد اجتهدت ، قال ، فقلت : أردتُ أن تخبرَني بشيء يسير إذا فعلتُهُ كنت معكم ومنكم ، قال : تحفظ أصابعك الخمس ، قال : قلت : نعم ، قال : فذكر شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله(1) .
وقد اعتبره بعض مدحاً له واعتبره بعض آخر ذماً له ، ولكلِّ من الطرفين نصوص في ذلك تؤيدهم ، وبما أن الأمر مختَلَف فيه ، فعلينا نقل تلك النصوص لنتعرف هل أ نّه مكرمة له أو منقصة ؟ فقبيلة هوازن كانت تعيّره بهذا اللقب وتعتبره
____________
1- موضح اوهام الجمع والتفريق 2 : 86 ، وانظر تاريخ دمشق 18 : 10 .
________________________________________ الصفحة 448 ________________________________________
منقصة لمن اشتهر بأبي بكر(1) ، لكن هناك من يقول أ نّها دالة على زهده وتقشّفه ، لأ نّه تصدّق بجميع ماله قبل الفتح وبعده .
ففي القاموس وتاج العروس والنص للاول ـ قال : وذو الخلال أبو بكر الصديق(رضي الله عنه) ، لأ نّه تصدَّق بجميع ماله وخَلَّ كساءَهُ بخِلال ، انتهى(2) .
وروى البغوي ، في هذا الأطار : أن جبرئيل(عليه السلام) نزل على النبي(صلى الله عليه وآله) فقال : مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خَلَّها في صدره بخلال .
فقال : أنفق ماله عليَّ قبل الفتح .
قال : فإن الله تعالى يقول : اقرا عليه السلام وقل له : أراض أنت عنّي في فقرك هذا أم ساخط . فقال : رسول الله(صلى الله عليه وآله) يا أبا بكر إن الله عزّوجلّ يقرأ عليك السلام ويقول لك أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط ؟
فقال أبو بكر : أأسخط على ربي ، إنّي عن ربي راض ، إنّي عن ربي راض ، ولهذا قدّمه الصحابة على أنفسهم وأقرُّوا له بالتقدّم والسبق(3) .
وفي الوشاح لابن دريد : كان [أبو بكر] يلقّب (ذو الخلال) لعباءة كان يخلّها على صدره(4) .
وفي مصنف ابن أبي شيبة ، عن رافع بن أبي رافع ، قال : رأيت أبا بكر كان له كساء فدكي يخلّه عليه إذا ركب ، ونلبسه أنا وهو إذا نزلنا ، وهو الكساء الذي عيّرته به هوازن(5) .
كل هذه النصوص تؤكد بأنّ لقب (ذو الخلال) جاء مدحاً لأبي بكر لا ذماً له ،
____________
1- مصنف بن أبي شيبة 7 : 92 ح 34434 ، تاريخ دمشق 30 : 300 .
2- القاموس المحيط 1 : 1285 ، وانظر تاج العروس 28 : 426 .
3- تفسير البغوي 4 : 295 وعنه ابن كثير في تفسيره 4 : 295 .
4- عمدة القارى 16 : 172 وانظر الإكمال 3 : 184 .
5- مصنف بن أبي شيبة 5 : 173 و 7 : 92 ، المطالب العالية 9 : 580 ، وانظر تاريخ دمشق 30 : 332 ، 333 .
________________________________________ الصفحة 449 ________________________________________
فلو كان كذلك فكيف تجرؤ هوازن على تعييره به ؟ وأي عيب أو منقصة في العباءة حتى تعيّره بها هوازن ؟!!
ألم يكن التعيير عند العرب هو إظهار عيب الطرف أو ما فيه مسبة له ؟
فما هو العيب الكامن في هذا اللقب إذن ؟ فكل ما قرأناه كان مدحاً لابن أبي قحافة لا ذماً ، فهل أن النهج الحاكم حرَّفوا هذا اللقب من الذّم إلى المدح ، أم حقاً أنّ هذا اللقب وضع للمدح ؟ فقد افتخر النبي بالفقر ، ونزلت آيات تمدح الفقراء والمستضعفين ، مؤكّدة بأنّ غالب أتباع الأنبياء هم من المستضعفين ، وبتعبير القرآن الكريم ـ حكاية لقول الكافرين ـ الأرذلون بقوله تعالى (وَاتَّبَعَكَ الاَْرْذَلُونَ) .
وكذا كنية أبي تراب كانت مدحاً لعلي لكنّهم جعلوها ذماً له ، وكما أنّ زمزم وطيبةـ المدينة ـ هما من الأسماء الحسنة والممدوحة ، لكنّهم أبدلوها بأمّ جعلان والخبيثة(1) .
والآن نسأل : هل أنّ هوازن عيّرت ابن أبي قحافة قبل إسلامه ظاهراً أم بعده ؟ فلو تأملت النصوص لرأيتها تؤكّد الثاني ، لأ نّهم قالوا : أ ذا الخلال نبايع بعد رسول الله(2) .
ونحن لا يمكننا أن نفهم مقصود هوازن وسبب تعييرها لابن أبي قحافة إلاّ بعد أن نتعرَّف على معنى كلمة الخلال في لغة العرب ، وكيفية ربطها بنزاعات الردّة ، وهل أنّ هذا يرتبط بنحو وآخر بكلام أبي بكر لمخالفيه في أ نّه لا يتركهم حتّى و إن منعوه عقال بعير ؟!
____________
1- مر عليك في صفحات : 193 إلى 212 .
2- مصنف بن أبي شيبة 7 : 92 ، لسان العرب 11 : 214 .
________________________________________ الصفحة 450 ________________________________________
معنى الخلال في لغة العرب
الخلال : العود الذي يتخلل به ، وما خُلَّ به الثوب أيضاً ... والخشبات الصغار اللواتي يخلّ بها ما بين شقاق البيت .
والخلال : عود يجعل في لسان الفصيل لئلاّ يرضع ولا يقدر على المص ، قال امرؤ القيس :
فكَرَّ إليه بمِبْراتِهِ كما خَلَّ ظَهْرَ اللسان الُمجِرّ
وقيل : خَلَّهُ شَقَّ لسانه ثم جعل فيه ذلك العود .
وفصيل مخلول : إذا غرز خلال على أنفه لئلاّ يرضع أُمه ، وذلك أ نّها تزجيه إذا أوجع ضرعَها الخلالُ ...(1)
وفي غريب القرآن للأصفهاني :
والخلال لما تخلّل به الأسنان وغيرها ، يقال : خَلَّ سِنَّهُ ، وخلَّ ثوبه بالخلال يخلها ، ولسانَ الفصيل بالخلال ليمنعه من الرضاع(2) .
وعن الأصمعي قال : إذا ارادوا أن يمنعوا الفصيل من الرضاع خلّوه : أدخلوا في أنفه من داخل خلالاً محدَّد الرأس بأسفله حجنة(3) .
وفي خزانة الأدب للبغدادي : إنّ الفصيل إذا لهج بالرضاع جعلوا في أنفه خلالة محددة ، فإذا جاء يرضع أ مّه نخستها تلك الخلالة فمنعته من الرضاع(4) .
والآن بعد كلّ هذا التفصيل هل يمكننا ربط مقولتي (أبي الفصيل) و (ذي الخلال) من قبل مناوئيه أثناءَ الأحداث التي تلت وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) بقول ابن أبي قحافة (لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه)(5)، والقول بأنّ هناك ارتباطاً بين الفصيل
____________
1- لسان العرب 11 : 214 .
2- المفردات في غريب القرآن للاصفهاني 1 : 153 .
3- غريب الحديث للحربي 1 : 263 .
4- خزانة الأدب 2 : 392 .
5- موطأ مالك 1 : 269ح 605 ، مصنف بن أبي شيبة 6 : 438 ح 32735 ، تاريخ الطبري 2 : 255 ، البداية والنهاية 6 : 312 ، شرح النهج 17 : 209 . والعقال : الحبل الذي يعقل به البعير الذي كان يؤخذ في الصدقة .
________________________________________ الصفحة 451 ________________________________________
والخلال والعقال ، وأنّ لابن أبي قحافة ارتباطاً نفسياً مريباً بالناقة ، أم أنّ ذلك يشير إلى اهتمامه باُمور الصدقات ؟
وإذا كان يشير إلى اهتمامه بالصدقات فلماذا لا يشير إلى الغلاّت الأربع أو النقدين ، أو البقر والغنم ؟!
ألم يكن قوله : لو منعوني حبّة حنطة ، أو تمرة واحدة ؟ أبلغ وأوفى لإيصال المطلوب ، وهو مما يبين اهتمامه وحرصه على الزكوات أكثر ؟
وأ يّهما هو الأبلغ للدلالة على حرص الخليفة على حقوق المسلمين ، أهي مقولته تلك ، أو ما قاله الإمام علي ممتنعاً من قبول ملفوفة الأشعث بن
قيس ، والتي اعتبرها كأ نّها عجنت بريق الحية ، قائلاً : وأعجبُ من ذلك
طارقٌ طرقـنا بملفوفة في وعائها ، ومعجونة شـنئتها كانّها عجنت بريق حية
أو قيئها .
فقلت : أصلة ، أم زكاة ، أم صدقة ؟ فذلك محرَّم علينا أهل البيت .
فقال : لاذا ولا ذاك ولكنها هدية .
فقلت : هبلتك الهبول ! أعن دين الله أتيتني لتخدعني ؟ أمختبط أنت أم ذو جنة ، أم تهجر ، والله لو أُعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته ، وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ...(1)
وعليه فالقبائل العربية مثل هوازن وقريش وغيرها كانت تعيّر ابن أبي قحافة بأبي الفصيل وذي الخلال ، و إنّ تأكيدهم على هاتين الكلمتين تحمل معاني كثيرة واضحة للبصير العالم .
____________
1- نهج البلاغة 346 الخطبة 224 ، شرح النهج 11 : 245 ، خلاصة الأثر 1 : 206 .
________________________________________ الصفحة 452 ________________________________________
وهي تؤكّد أيضاً بأنّ كنية (أبي بكر) لم تكن لابن أبي قحافة في الجاهلية ، بل وضعت له لاحقاً .
وخلاصة الكلام وفصيل الخصام : هو أنّ عتيقاً أو عبد الكعبة كان وضيع النسب والحسب حسبما ذكرته كتب التاريخ ، فكان فقيراً محتاجاً كأبيه ، يشتغل بوضيع الأعمال ، وكان يُكنّى بـ (أبي الفصيل) ويلقّب بـ (ذي الخلال) ، لاشتغاله عند ابن جدعان أو غيره برعاية الانعام ، والاهتمام بصغارها إيلاداً ورضاعاً ، فلذلك أطلق عليه في الجاهلية كنية (أبي الفصيل) ولُقب بـ (ذي الخلال) ، وكان لا يُعرف إلاّ بذلك .
ويظهر أ نّه كان يتنفّر من هذه الكنية وهذا اللقب أشدّ التنفّر لحرمانه من نعمة البعران التي يرعاها .
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمولُ
فلما تولّى أزمّة الأمور أراد مَحْوَ ما كان يعرف بها ، فبدأ بذلك هو وأعوانه وأهل ودّه ، فادّعى أو ادُّعي له بأنّ اسمه في الجاهلية كان عبدالله ، مع أ نّه كان يسمى : عبدالكعبة .
وادُّعي أنّ الله أغنى النبيّ بماله ، مع أ نّه كان لا يملك شبع بطنه(1) .
وادّعي له بأ نّه أوّل من أسلم ، مع أ نّه سابع أو ثامن من اسلم .
وادّعي له لقب الصديق مع أ نّها لقب للإمام علي حسبما قال(عليه السلام) .
وادُّعي له بأنّ كنيته أبو بكر ، مع أنّ كنيته أبو الفصيل .
وفيما كان يُدعى ويلقب بـ (ذي الخِلال) عيباً له بُدِّل ذلك وجعل مدحاً له .
وهكذا تمتد قائمة التغييرات والتبديلات ، غير أنّ المهم هنا هو الكنية ، إذ قد عرفنا أ نّه كان يكنّى في الجاهلية بـ (أبي الفصيل) ويلقب بـ (ذي الخلال) وحين
____________
1- مر عليك في صفحة 442 كلام عمر له : (تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين ؟ قال : فمن اين اطعم عيالي ؟) .
________________________________________ الصفحة 453 ________________________________________
صار (خليفة) أراد أن يشبع نهمه من الإبل ، فراح يجرّد خصومه من الإبل ، وكانت الحروب المسمّاة بـ (حروب الردة) حرب أموال مدارها الإبل ، إذ لم نعهد ولم نقرأ ولم نَرَ أبا بكر يحارب أحداً على منعه زكاة النقدين ، أو الغلات الأربع ، أو حتى البقر والأغنام ، بل انحصرت حروبه بـ (دعاوي إبليّة) أو قل (فصيلية) أو (خلالية) ، ولذلك راح مناوؤه يشيرون إلى ذلك ويصرّحون بكل وضوح بأنّ الحرب معهم ليست دينية زكويّة ، و إنما هي من أجل الإبل ، تجريداً لهم عن مصادر القوّة آنذاك ، و إشباعاً لنهمه .
و إذا أردت التأكّد من ذلك فانظر إلى تأكيد أبي بكر على (عقال بعير) دون البواقي ، واقرأ معي ما فعله زياد بن لبيد عامل أبي بكر على صدقات حضرموت :
فقد أخذ يوماً من الأيام ناقة من إبل الصدقة فوسمها وسرّحها مع الإبل التي يريد أن يوجّه بها إلى أبي بكر ، وكانت هذه الناقة لفتىً من كندة يقال له زيد بن معاوية القشيري ، فأقبل إلى رجل من سادات كندة يقال له حارثة بن سراقة ، فقال له : يابن عم ، إنّ زياد بن لبيد قد أخذ ناقة لي فوسمها وجعلها في إبل الصدقة ، وأنا مشغوف بها ، فإن رايت أن تكلمه فيها فلعله أن يطلقها ويأخذ غيرها من إبلي ، فإني لست أمنع عليه .
فأقبل حارثة بن سراقة إلى زياد بن لبيد ... فكلمه وأبى زياد وشبّت الحرب واستعرت ، وكان فيما قاله حارثة بن سراقة : نحن إنّما اطعنا رسول الله إذ كان حياً ، ولو قام رجل من أهل بيته لأطعناه ، وأ مّا ابن أبي قحافة فماله طاعة في رقابنا ولا بيعة(1) .
فهؤلاء لم يكونوا مانعين للزكاة ، بل استاءُوا من جَشَعَ أبي بكر وعماله ، وطمعه في إبلِهم ، خصوصاً وأ نّهم كانوا قد رأوا كيف كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يأخذ منهم الصدقات والزكوات بكلّ رقة ولطف ، بحيث كان المسلمون يعطون ذلك
____________
1- انظر تفصيل القضية في كتاب الردة للواقدي : 169 ـ 171 .
________________________________________ الصفحة 454 ________________________________________
عن طيب خاطر .
و إذا أردت المزيد فقارن ما فعله أبو بكر وعمّاله في كيفية أخذ الزكوات بما كتبه أمير المؤمنين(عليه السلام) لعماله على الصدقات حيث كتب لهم :
انْطلِقْ عَلَى تَقْوَى اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَلاَ تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً وَلاَ تَجْتَازَنَّ عَلَيْهِ كَارِهاً ، ولاَ تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ حَقٍّ أَبْيَاتَهُمْ ، مَالِهِ .
فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى الْحَيِّ فَآنْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ ، ثُمَّ آمْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَآلْوَقَارِ ; حَتَّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ ، وَلاَ تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ ، ثُمَّ تَقُولَ : عِبَادَ اللهِ ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِي اللهِ وَخَلِيفَتُهُ ، لآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللهِ فِي أَمْوَلِكُمْ ، فَهَلْ للهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَى وَلِيِّهِ ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لاَ فَلاَ تُرَاجِعْهُ .
وَإِنْ أَنْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ ، فَآنْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ أَوْ تَعْسِفَهُ أَوْ تُرْهِقَهُ فَخُذْ مَا أَعْطَاكَ مِنْ ذَهَب أَوْ فِضَّة .
فَإِنْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلاَ نَدْخُلْهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ ، فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَهُ ، فَإِذَا أَتَيْتَهَا فَلاَ تَدْخُلْ عَلَيْهَا دُخُولَ مُتَسَلَّط عَلَيْهِ وَلاَ عَنِيف بِهِ . وَلاَ تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً وَلاَ تُفْزِعَنَّهَا ، وَلاَ تَسُوءَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا .
وَاصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ ، فَإِذَا اخْتَارَ فَلاَ تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ . فَلاَ تَزَالُ كَذلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللهِ فِي مَالِهِ ; فَآقْبِضْ حَقَّ اللهِ مِنْهُ فَإِن اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ ، ثُمَّ اخْلِطْهُمَا ثُمَّ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلاً حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ اللهِ فِي مَالِهِ .
وَلاَ تَأْخُذَنَّ عَوْداً وَلاَ هَرِمَةً وَلاَ مَكْسُورَةٌ وَلاَ مَهْلُوسَةً ، وَلاَ ذَاتَ عَوَار ، وَلاَ تَأْمَنَنَّ عَلَيْهَا إِلاَّ مَنْ تَثِقُ بِدِينِهِ ، رَافِقاً بِمَالِ آلْمُسْلِمينَ حَتَّى يُوَصِّلَهُ إِلَى وَلِيِّهِمْ فَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ .
وَلاَ تُوَكِّلْ بِهَا إِلاَّ نَاصِحاً شَفِيقاً وَأَمِيناً حَفِيظاً ، غَيْرَ مُعْنِف وَلاَ مُجْحِف ، وَلاَ مُلْغِب وَلاَ مُتْعِب .
________________________________________ الصفحة 455 ________________________________________
ثُمَّ آحْدُرْ إِلَيْنَا مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ نُصَيِّرْهُ حَيْثُ أَمَرَ اللهُ بِهِ ، فَإِذَا أَخَذَهَا أَمِينُكَ فَأَوْعِزْ إِلَيْهِ أَلاَّ يَحُولَ بَيْنَ نَاقَة وَبَيْنَ فَصِيلِهَا ، وَلاَ يَمْصُرَ لَبَنَهَا فَيَضُرَّ ذلِكَ بِوَلَدِهَا ; وَلاَ يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً ، وَلْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذلِكَ وَبَيْنَهَا ، وَلْيُرَفِّهْ عَلَى اللاَّغِبِ ، وَلْيَسْتَأْنِ بِالنِّقِبِ وَالظَّالِعِ ، وَلْيُورِدْهَا مَا تَمُرُّ بِهِ مِنَ الْغُدُرِ .
وَلاَ يَعْدِلْ بِهَا عَنْ نَبْتِ الاَْرْضِ إِلَى جَوَادِّ الطُّرُقِ ، وَلْيُرَوِّحْهَا فِي السَّاعَاتِ ، وَلْيُمْهِلْهَا عِنْدَ النِّطَافِ وَالاَْعْشَابِ ، حَتَّى تَأْتِيَنَا بِإِذْنِ اللهِ بُدْناً مُنْقِيَات ، غَيْرَ مُتْعَبَات وَلاَ مَجْهُودَات ، لِنَقْسِمَهَا عَلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ـ فَإِنَّ ذلِكَ أَعْظَمُ لأَِجْرِكَ ، وَأَقْرَبُ لِرُشْدِكَ ، إِنْ شَاءَ اللهُ .
فالفرق إذن بعيد بعد الأرض عن السماء بين كيفية أخذ الزكاة عند النبي والوصي ، وكيفيتها عند أبي بكر وعمّاله .
وهذا بنظرنا هو السبب الواقعي الذي جعل مناوئي أبي بكر يذكّرونه بكنيته القديمة ولقبه القديم (أبو الفصيل) (أبو الخلال) ، وذلك أ نّه لَهج ولَجّ بأخذ الإبل ، بل أخذ خصوص الإبل الجيّدة منها بالقَسْر ، فامتنع عليه بعض من امتنع لسيرته وسيرة عمّاله التعسفية وراحوا يذكّرونه بماضيه القديم دون الكنى والألقاب والمدائح المتأخرة التي كالها عليه أصحابه وأتباعه كيلاً جزافاً .
والذي يعزز ما قلناه أ نّهم لم ينعتوه بـ (أبي الدوانيق) لأن النزاع لم يكن حول النقدين ـ و إن كانت هي أعظم واشرف عند الناس من الإبل ـ ولا وصفوه بـ (أبي حبة) أو (أبي شعيرة) أو (أبي حنطة) أو أو ، بل وصفوه بما كان عليه في الجاهلية .
والنبي ـ كما حكي عنه ـ جاراه بكنية توافق كنيته السابقة ، لكنّها أشرف وأحسن من تلك ، ولم يكنه بأبي عبدالرحمن وأبي محمّد وأمثال ذلك ، وفي هذه التفاتة يجب الوقوف عنها .
________________________________________ الصفحة 456 ________________________________________
________________________________________ الصفحة 457 ________________________________________
المحور الثالث
هل الأئمّة(عليهم السلام) كنوا انفسهم أو أولادهم بأبي بكر ؟
بعد أن انتهينا من بيان عدم دلالة التسميات على المحبة ، أشرنا إلى اختلاف النصوص في وجود ابن للإمام علي(عليه السلام) باسم أبي بكر ، فذهب البعض إلى وجوده ، والآخر إلى انكاره معتقداً بأنّ المولود من ليلى النهشلية ـ زوجة الإمام علي ـ يكنّى بأبي بكر ، في حين أن اسمه هو عبدالله أو محمّد .
وهذا ما قالوه أيضاً في ولد الإمام الحسن المجتبي السبط ، إذ صرح الموضح النسابة بأنّ أبا بكر بن الحسن اسمه عبدالله(1) و إن كان هناك من بتّ بأنّ اسمه أبو بكر .
أما الإمام الحسين فلم يثبت أن يكون له ولد قد سمى أو كنّي بأبي بكر ، وكل ما في الأمر هو تصحيفهم كلمة (الحسن) إلى (الحسين) ، لأنّ ما قالوه في ابن الحسين هو موجود لابن الحسن(عليه السلام) بحذافيره ، ولا أنكر إمكان التعدد ، لكنه بعيدٌ بنظرنا ، ولنا شواهدنا .
وكذا الحال بالنسبة إلى الأئمّة من ولد الحسين(عليه السلام) بدءاً من الإمام علي بن
____________
1- المجدي : 201 .
________________________________________ الصفحة 458 ________________________________________
الحسين السجاد إلى الإمام الحجة ، فلم نجد فيهم أو في أولادهم من سمي بأبي بكر .
ونحوه القول بالنسبة إلى ما قيل من وجود ولد لعبدالله بن جعفر باسم أبي بكر ، فبتصوّري أ نّه كنية لابنه محمّد الأصغر وليس باسم له .
ولا يخفى عليك أنّ الأمر يعود لتعدّد الأسماء للشخص الواحد ، فقد يضع الأب لولده اسماً والأمّ اسما آخر . وقد يكنّى ذلك المسمى بكنية واحدة أو كنيتين .
والإمام علي سمى ابنه من ليلى النهشلية بمحمد عملاً بالسنة النبوية القاضية برجحان تسمية الطفل بمحمد لسبعة أيام ، أ مّا الأم أو الجد لأمه من بني دارم فقد سمّاه بعبد الله .
فكأنّ القومَ سعوا إلى تكنية المسمى بعبدالله بأبي بكر ، تجانساً بين اسم ابن أبي قحافة وكنيته ، ثم أطلقوا هذه الكنية أيضاً على المسمّى من قبل أبيه بـ (محمّد) ، فقالوا : محمّد الأصغر بن علي بن أبي طالب من ليلى النهشلية ، المكنّى بأبي
بكر .
ثمّ تطوّر الأمر فكنّوا الابن الآخر للإمام ـ من أمّ ولد ـ المسمى بمحمد الأصغر بأبي بكر أيضاً .
وهناك قول شاذّ انفرد به المزّي ـ وتبعه على ذلك الصفدي ـ بأنّ اسم المكنّى بأبي بكر بن علي هو عتيق ، فقالوا بأن عتيقاً استشهد في كربلاء(1)، وهذا يؤكّد محاولات التبديل في الأسماء والكنى .
قالوا بكل ذلك كي يدلّلوا على وجود المحبة بين علي وابي بكر ، وذلك لتقارب الاسم والكنية بين ولد علي وأبي بكر .
____________
1- سير أعلام النبلاء 3 : 216 ، مرآة الجنان 1 : 131 ـ 132 وعنه الدياربكري في تاريخ الخميس 2 : 333 .
________________________________________ الصفحة 459 ________________________________________
حيث أن المشهور عندهم أنّ كنية أبي بكر هو لمن شغل منصب الخلافة بعد رسول الله ، فارادوا أن يقولوا بأنّ من يسمى بعبدالله ويكنّى بأبي بكر هو ممن يحب الخليفة و يتولاه !!
في حين أنك عرفت أن المسمى من قبل الإمام هو محمّد وليس بعبدالله ، وقد يكون عبدالله اطلق عليه من قبل اُمه ، لكن هذا لا يسمح باطلاق كنية أبي بكر أيضاً عليه ، ولم تكن هناك نصوص ظاهرة واضحة تدل على أن الإمام كناه بتلك الكنية .
و إذا كانت تلك الكنية ثابته له ، لما اختلفوا في اطلاقها على ابن ليلى النهشلية وابن اُم ولد معاً ، كما أ نّهم لم يختلفوا في أ نّها اسم له أم كنية .
وهذا ما أجروه على عمر الأطرف أيضاً ، فقالوا بأنّ كنيته أبو حفص ، في حين أطبق النسّابة على أنّ كنيته أبو القاسم ، وهناك قول على سبيل التمريض : أبو حفص لا يؤخذ به .
ولا يخفى عليك بأن ما يتصدر بأبي وابن واُم وأخت فهو في سياقه الطبيعي موضوع للكنية لا للاسم ، فلا نرى بين أولاد الأئمّة من سُمّي بأبي عبدالله ، أو أبي محمّد ، أو أبي القاسم ، أو أبي الحسين ، فلو جاءت هذه الكلمات فهي كنية للشخص لا اسماً له ، وهو يخطّئ ما قالوه بأنّ أبا بكر هو اسم لابن النهشلية أو لغيره .
والآن لنناقش النصوص المتمسّك بها للدلالة على أن (أبا بكر) هي كنية موضوعة للأئمّة المعصومين من أهل البيت كالسجاد والرضا والهادي(عليهم السلام) ، وقيل للإمام الحجة(عليه السلام) .
قال الحسين بن حمدان الخصيبي (ت 334 هـ) في الهداية الكبرى :
(وكنيته أبو الحسن ، والخاص أبو محمّد ، وروي أ نّه كُنّي بأبي بكر ولم تصحّ
________________________________________ الصفحة 460 ________________________________________
هذه الكنية)(1) .
وقال محمّد بن جرير الطبري الشيعي المتوفّى في أوائل القرن الرابع الهجري في دلائل الإمامة : (علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم ... يكنّى : أبا محمّد وأبا الحسن وأبا بكر ، والأول أشهر وأثبت)(2) .
وقال العلوي (من اعلام القرن الخامس) في المَجْدي : (وجدت بخطّ شيخنا أبي الحسين أنَّ زين العابدين كان يكنّى أبا محمّد ، وكان يكنّى أبا بكر ، والأوّل الصحيح)(3) .
وقال منتجب الدين الرازي من أعلام القرن الخامس الهجري في (فهرست أسماء علماء الشيعة ومصنفاتهم) ضمن خطبة الكتاب وذكره نسب أبي القاسم يحيى قال :
(... بن عبدالله الباهر بن الإمام زين العابدين ، أبي محمّد ، ويقال : أبي القاسم ، ويقال أبي الحسن ، ويقال : أبي بكر بن الحسين بن علي ...)(4)
وقال ابن شهرآشوب (ت 588 هـ) في مناقب آل أبي طالب :
(وكنيته : أبو الحسن ، والخاص أبو محمّد ، ويقال أبو القاسم ، وروى أ نّه كنّي بأبي بكر)(5) .
وقال الأربلي (ت 693) في كشف الغمة (فأ مّا كنيته ، فالمشهور أبو الحسن ، ويقال : أبو محمّد ، وقيل : أبو بكر)(6) .
وقال ابن الصباغ المالكي (ت 855 هـ) في الفصول المهمة :
____________
1- الهداية الكبرى : 213 .
2- دلائل الإمامة : 192 .
3- المجدي : 283 .
4- فهرست أسماء علماء الشيعة ومصنفاتهم : 4 ، طـ المكتبة الرضوية ـ طهران ، وفي صفحة : 372 من المترجم إلى الفارسية .
5- مناقب آل أبي طالب 3 : 310 ، وانظر تاريخ الأئمّة للكاتب البغدادي : 29 أيضاً .
6- كشف الغمة 2 : 285 .
________________________________________ الصفحة 461 ________________________________________
نسبه : هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وقد تقدم بسط ذلك . كنيته المشهورة أبو الحسن ، وقيل : أبو محمّد ، وقيل : أبو بكر(1) .
هذه هي الأقوال التي قيلت في هذا الباب ، وهي تؤكّد بوضوح على أنّ كنية (أبي بكر) لم تكن ثابتة للإمام السجاد ; لإطباقهم على ذكرها على سبيل التمريض ـ بل آخِرَ الكنّى المُمَرَّضة ـ مثل : و (روي) و (قيل) و (يقال) مع تصريح الخصيبي بقوله : (ولم تصح هذه الكنية) أو قول ابن جرير الطبري الشيعي (والأوّل أشهر وأثبت) ، أو قول ابن شهرآشوب (والخاص أبو محمّد) أو قول صاحب المجدي (الأوّل الصحيح) وغيرهم ، هذا اولاً .
وثانياً : لم يعرف أنَّ للإمام ولداً باسم (بكر) حتى يكنّى به ، وكلامنا هذا لا يعني لزوم التكنية باسم الولد في جميع الحالات ، لأنّ الكنى توضع على الاشخاص من الصغر وهو أمر مستحب ، لكن بما أنّ التسمية بمحمد مستحبة ، فالتكنّي بأبي محمّد تكون أقرب إلى الإمام واقعاً ، والأئمّة سمّوا أولادهم بمحمد وتكنّوا به ، والإمام السجّاد كُنِّي بأبي محمّد ـ وهو المشهور عنه ـ لولده الأكبر المسمّى بمحمد الباقر .
أ مّا كنية (أبي الحسن) فهي الأُخرى أقرب إلى الإمام من كنية أبي بكر ، لأ نّها موضوعة لكل من سُمِّي بعليِّ على مر التاريخ ولحدِّ هذا اليوم ، ولذلك عدّها الخصيبي وابن شهرآشوب الكنية العامّة ـ أي التي يكنّى بها كل من اسمه علي ـ مقابل الكنية الخاصة به وهي (أبو محمد) ، وأ مّا كنية (أبي بكر) فليست خاصة ولا عامّة ، فيبقى أ نّها كنية مُلصقَة ألصقها به أبناء العامّة .
وعليه فمن غير البعيد أن يكنّى الإمام السجاد بأبي الحسن ، لأ نّها كنية جده الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وهو المشتهر عنه في كتب الحديث
____________
1- الفصول المهمة لابن الصباغ 2 : 855 .
________________________________________ الصفحة 462 ________________________________________
والتراجم والرجال الشيعيّة .
أ مّا كنية أبي بكر فهي أجنبية عنه ، ولا يمكن لحاظها إلاّ من خلال إحدى الاحتمالات المطروحة لاحقاً .
وثالثاً : من المعلوم أن كنية الإمام لا تنحصر بأبي بكر ، فقد كُنّى(عليه السلام) بأبي الحسن(1) ، وأبي الحسين(2) ، وأبي القاسم(3) ، وأبي محمّد(4) ، وأبي عبدالله(5) ، وأبي عبدالله المدني(6) ، وأبي الحسين المدني(7) ، وأبي الأئمة(8) ، وابن
____________
1- المناقب 3 : 310 ، إعلام الورى 1 : 480 ، كشف الغمة 2 : 286 ، المجدي : 282 ، ألقاب الرسول وعترته (المجموعة) : 50 ، العدد القوية : 58 ، دلائل الإمامة : 192 ، جامع المقال : 184 ، طبقات الحفّاظ للسيوطي : 37 برقم 69 ، منتهى المقال 1 : 25 ، (الطبعة المحققه) ، تاريخ الأئمّة للبغدادي : 29 ، شرح الأخبار 3 : 275 ، (في نسخة بدل) ، تاج المواليد للطبرسي : 35 ، فهرست منتجب الدين : 30 ، المقتنى في سرد الكنى 1 : 186 برقم 1584 ، تهذيب التهذيب 7 : 268 ت 521 ، تاريخ دمشق 41 : 360 ت 4875 .
2- تاريخ أهل البيت : 78 ، شرح الأخبار 3 : 275 ، أعيان الشيعة 1 : 629 ، عن طبقات ابن سعد 5 : 211 ، تاريخ الأئمّة للبغدادي : 29 ، المقتنى في سرد الكنى 1 : 186 برقم 1584 ، رجال صحيح البخاري 2 : 527 ت 817 ، تاريخ دمشق 41 : 630 ت 4875 .
3- المناقب 3 : 310 ، إعلام الورى 1 : 480 ، فهرست منتجب الدين : 30 ، جامع المقال : 184 .
4- دلائل الإمامة : 192 ، تاريخ الأئمة للبغدادي : 29 ، ألقاب الرسول وعترته : 50 ، المقنعة للمفيد : 472 ، تاج المواليد : 35 ، فهرست منتجب الدين : 30 ، جامع المقال : 184 ، المناقب لابن شهرآشوب 3 : 310 ، إعلام الورى 1 : 480 ، العدد القوية : 58 ، كشف الغمة 2 : 286 ، أعيان الشيعة 1 : 629 ، التعديل والتجريح 3 : 956 ، تهذيب التهذيب 7 : 268 ت 521 ، رجال صحيح البخاري 2 : 527 ت 817 ، تاريخ دمشق 41 : 360 ت 8475 ، الطبقات الكبرى 5 : 213 .
5- تاريخ دمشق 41 : 360 ت 8475 ، سير أعلام النبلاء 4 : 386 ، تاريخ الإسلام 6 : 436 .
6- السيوطي في طبقات الحفاظ : 37 برقم 69 ، تهذيب التهذيب 7 : 268 ت 521 ، تهذيب الكمال 6 : 395 ت 1323 .
7- إسعاف المبطّا : 21 .
8- المناقب 3 : 310 ، شرح الأخبار 3 : 253 .
________________________________________ الصفحة 463 ________________________________________
الخيرتين(1) ، ووجود هذه الكنى الكثيرة له ، واشتهاره ببعضها في كتب الحديث والأنساب مع نَفْي الناقل الأوّل لخبر الكنية وهو الخصيبي (ت 334) بقوله : (ولم تصح هذه الكنية) وتأكيد ابن جرير الطبري الشيعي ، وصاحب المجدي بأن الأول هو الصحيح والأثبت والأشهر .
كل هذه الاُمور تشكّكنا في قبول كون هذه الكنية موضوعة عليه من قبل أهل البيت أو الطالبيين ، لأ نّا لا نرى تكنية الإمام السجاد بهذه الكنية في كتب الحديث والأنساب ، وبذلك فالقول بأ نّها من وضع الآخرين هو الأقرب .
ورابعاً : إنّ التكنّي عند العرب تارة تكون من قبل الأب ، وأخرى من قبل الأم أو الجد ، وقد تكون من قبل أهل البلد ، أو السلطان أيضاً ، فقد يكون أتباع النهج الحاكم أطلقوا على الإمام كنية مَن يحبّونه ، بزعم تشابههما في بعض الصفات والسمات !!
وقد رأينا كثيراً من الناس يطلقون اسم عمر على بعض الأشخاص لتشبيههم سلوكه بسلوك عمر .
فكأنَّ أهل الشام أو بعض أهل المدينة ـ من أتباع أبي بكر ـ أطلقوا هذه الكنية على الإمام حبّاً به ، ولتقارب سماته مع سمات من يحبونه ـ بالطبع حسب زعمهم ـ وهذا ليس بعزيز في كتب التاريخ والرجال .
فأهل العراق كنّوا عثمان بن عفان بأبي عمرو القرشي ، في حين أنّ كنيته كانت عند أهل المدينة (أبو عبدالله) ; كُنّي باسم ابنه من رقية ربيبة رسول الله(2) .
وجاء في كتاب (الثقات) بأنّ عطاء بن يسار قدم الشام وكان أهلها يكنّونه
____________
1- المناقب لابن شهرآشوب 3 : 304 ، الوافي بالوفيات 20 : 231 ت 321 ، وفيات الأعيان 3 : 267 ت 422 ، نثر الدر 1 : 232 ، كشف الغمة 2 : 318 ، الكامل للمبرد 2 : 91 ، الكافي 1 : 467 ، تاريخ الأئمّة للبغداديّ : 24 ، الهداية الكبرى : 214 .
2- تاريخ دمشق 39 : 12 .
________________________________________ الصفحة 464 ________________________________________
بأبي عبدالله ، وقدم مصر وكان أهلها يكنّونه بأبي يسار(1) .
وفي العلل للدارقطني وتهذيب الكمال أن أبا محمّد الهذلي الكوفي كان يكنّى من قبل أهل البصرة بأبي المورع(2) .
وفي تاريخ بغداد أنّ أحمد بن الحسين بن عيسى كان يكنّى بأبي بكر ، ثمّ كناه الناس بأبي الحسن وغلبت عليه(3) .
وفي تاريخ الإسلام : أنّ نصر بن الحسين بن القاسم كان يكنّى بأبي ليث ، فلمّا قدم مصر كنّي بأبي الفتح(4) . فلا يستبعد أن يكون بعض أهل المدينة أو أهل الكوفة أو أهل الشام كنوه بهذه الكنيه .
وخامساً : أنّ إطلاق كنية (أبي بكر) على الإمام السجاد لا تّتفق مع ما قدّمناه من كون أسمائهم(عليهم السلام) وكناهم إلهيّة ، فإنّك لو ألقيت نظرةً فاحصةً على أسماء المصطفين من الأنبياء والأوصياء لَما رأيت بين أسمائهم وكناهم من كُني أو سمى باسم أحد الحيوانات و إن كانت من خيار الحيوان ; لأنّ ذلك لا يتطابق مع اشتقاقها من المفاهيم الربانية الإلهية .
وسادساً : إنّ التكنية بأبي بكر هي أَولى بالإمامين الباقر والصادق لا الإمام السـجاد ، لأنّ كتب التراجم ذكـرت بأنّ الإمام الباقر قد تـزوّج اُم فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر ، واُمها أسماء بنت عبدالرحمن بن أبي بكر .
فأبو بكر هو جدّ الإمام الصادق وجدّ زوجة الإمام الباقر (اُم فروة) .
وبذلك تكون هذه الكنية أقرب إلى الصادِقَيْن من غيرهما ، لكنّ القوم لم يقولوا بذلك بل حصروا الأمر بكلّ من اسمه علي من المعصومين ، وفي هذه
____________
1- الثقات 5 : 199 .
2- علل الدارقطني 4 : 197 ، تهذيب الكمال 34 : 263 .
3- تاريخ بغداد 4 : 93 .
4- تاريخ الإسلام 33 : 192 ـ 193 .
________________________________________ الصفحة 465 ________________________________________
الملازمة التفاتة يجب الوقوف عندها والتأمل في معانيها(1) .
وسابعاً : لماذا وضعت كنية (أبي بكر) لمن اسمه (علي) بين ولد الإمام علي بن أبي طالب المعصومين فقط ؟!
فلماذا لا يكنّى الحسن أو الحسين أو الباقر أو الصادق أو الكاظم أو الجواد أو العسكري(عليهم السلام) بهذه الكنية ؟
فهل جاءت هذه الكنية عفويّة أُم هي كُنى مزوّرة مقصودة؟ كل ذلك مع
الأخذ بنظر الاعتبار التشكيك بوجود هذه الكنية لهم(عليهم السلام) في كتب الحديث الشيعية ؟
ألا يؤكّد ذلك أ نّهم أرادوا بهذا العمل أن يقاربوا بين أبي بكر وعلي ؟! وهذا تساؤل ندعو القارئ للإجابة عليه !!
إنّ مستند هذه التكنية نص واحد ذكره أبو الفرج الاصفهاني (ت 356 هـ) حسبما وقفت عليه ; إذ قال في ترجمة الإمام علي بن موسى الرضا : (ويكنّى أبا الحسن وقيل : يكنّى أبا بكر .
قال أبو الفرج : حدثني الحسن بن علي الخفّاف ، قال : حدثنا عيسى بن
____________
1- وبهذا فلا يستهجن ما جاء عن جابر الجعفي عن أبي جعفر الباقر في تأويل قوله تعالى (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا) قال(عليه السلام) : يا جابر أما السنة فهي جدي رسول الله ، وشهورها اثنا عشر شهراً ... اثنا عشر إماماً حجج الله في خلقه وأمناؤه على وحيه وعلمه ، والأربعة الحرم الذين هم الدين القيم ، أربعة يخرجون باسم واحد : علي أمير المؤمنين ، وأبي عليُّ بن الحسين ، وعليُّ بن موسى ، وعليُّ بن محمّد ...) الغيبة للطوسي : 149 / ح 110 ، والهداية الكبرى : 377 ، وروى مثله النعماني في كتاب الغيبة : 90 ، والجوهري في مقتضب الأثر : 30 بسندهما عن داود بن كثير الرقي قال : دخلت على جعفر بن محمّد ... عن صحيفة ورثها عن آبائه(عليهم السلام) .
________________________________________ الصفحة 466 ________________________________________
مهران ، قال ، حدّثنا أبو الصلت الهروي ، قال : سألني المأمون يوماً عن مسألة ، فقلت : قال فيها أبو بكر كذا وكذا .
قال [المأمون] : من [هو] أبو بكر ! أبو بكرنا أو أبو بكر العامّة ؟
قلت : أبو بكرنا .
قال عيسى : قلت لأبي الصلت : من أَبُو بكركم ؟ فقال: علي بن موسى الرضا(1)) .
وهذا النص يؤكد مدّعانا بأنّ إطلاق كنية (أبي بكر) على الأئمّة كانت من قبل المتسبصرين أو من لَهُ اختلاط معهم لا من قبل الطالبيين .
فقد قال الشيخ في رجاله عن أبي الصلت : أ نّه عامّي(2) ، وتبعه على ذلك العلاّمة في الخلاصة(3) ، ويستفاد من أحد خَبَرَي الكشي أ نّه كان مخالطاً للعامة وراوياً لأخبارهم(4) .
وقال التفرشي في نقد الرجال : ... ثقة إلاّ أ نّه مختلط بالعامة وراو
لأخبارهم كما يظهر من كلام الكشي ، وكلام الشهيد الثاني في حاشيته على
الخلاصة ...(5)
إذن هذه الكنية هي من إطلاق الآخرين عليه ولا تصـحّ بنظـرنا لعدة
اُمور :
الأول : إنّ المشهور في كتب الحديث وتراجم الرجال الشيعية هو تكنيته بأبي
____________
1- مقاتل الطالبيين : 374 .
2- رجال الطوسي : 360 / ت 14 في أصحاب أبي الحسن الثاني(عليه السلام) .
3- خلاصة الأقوال : 420/ ت 6 .
4- رجال الكشي 2 : 872 ، ح 1148 ، 1149 .
5- نقد الرجال 3 : 60/ ت 2912 .
________________________________________ الصفحة 467 ________________________________________
الحسن الثاني(1) ، أو أبي الحسن(2) ، أو أبي الحسن الخراساني(3) ، أو أبي علي(4) ، أو أبي القاسم(5) ، أو أبي محمّد(6) ، وأبي إسماعيل(7) وليس فيها أ نّه كُنِّي بهذه الكنية ولو لمرّة واحدة .
الثاني : إنّ كنية (أبي بكر) لا تتفق مع ما جاء في الكافي(8) وعيون أخبار الرضا(9) ، عن الإمام الكاظم أ نّه قال : إنّي قد نحلته كنيتي ، ولا يخفى عليك بأنّ كنية الإمام الكاظم هي (أبو الحسن) .
وثالثاً : إنّ كنية (أبي بكر) لا تتجانس مع كُنى المعصومين الإلهيّة حسبما قلناه قبل قليل .
ورابعاً : إنّ قول أبي فرج الاصفهاني ومن أخذ عنه جاءت على سبيل التمريض لقوله (و يُكنَّى أبا الحسن ، وقيل : يكنّى أبا بكر) ، ثم ذكر مستند كلامه .
____________
1- جامع المقال : 184 ـ 185 ، مجمع الرجال 7 : 193 ، منتهى المقال : 6 حجرية ، و 1 : 25 المحققه ، تاج المواليد : 48 ، رجال الطوسي : 339 ت 5040 ، الرسائل الرجالية للكلباسي 2 : 15 ، 177 ، معجم رجال الحديث 13 : 204 ت 8547 ، ألقاب الرسول وعترته : 63 .
2- الهداية الكبرى : 277 ، ألقاب الرسول وعترته : 66 ، تاج المواليد : 48 ، عمدة الطالب : 198 ، سر السلسلة العلوية : 38 ، المجدي : 322 ، الإمامة والتبصرة : 114 ، تهذيب الأحكام 6 : 83 ، تاريخ الأئمّة : 12 ، الفصول المهمة 2 : 969 ـ 970 ، المناقب 3 : 475 ، دلائل الإمامة 359 ، كشف الغمة 3 : 53 ، المقنعة للمفيد : 476 ، جامع المقال : 184 ، مجمع الرجال 7 : 193 ، منتهى المطلب 2 : 894 ، معجم رجال الحديث 13 : 204 ت 8547 ، الوافي بالوفيات 22 : 154 ت 4 ، اللباب في تهذيب الأنساب 2 : 30 .
3- رجال الكشي 1 : 357 برقم 229 ، 2 : 730 برقم 809 ، الرسائل الرجالية للكلباسي 2 : 187 ، تفسير العياشي 1 : 330 ، 356 .
4- المناقب 3 : 475 .
5- منتهى المطلب 2 : 894 ، تحرير الأحكام 2 : 124 .
6- دلائل الإمامة : 359 ، الهداية الكبرى : 279 .
7- تاريخ مواليد الأئمّة لابن الخشاب البغدادي : 36 .
8- الكافي 1 : 311 و 313 / ح 1 و 10 .
9- عيون أخبار الرضا 2 : 31/ ح 2 .
________________________________________ الصفحة 468 ________________________________________
وخامساً : قد يكون أبا الصلت كّناه بذلك تقية ، أو استمالة لقلوب الآخرين .
سادساً : قد يكون المأمون العباسي ـ وهو المعروف بالدهاء ـ كنّاه بذلك ليجمع بين الشيعة والعامّة بعد البيعة بولاية العهد للرضا(عليه السلام) وسخط كثير من العباسيين على تلك البيعة فكأنّ المأمون أراد تقريب وجهات النظر بين الطرفين ، فكنّى المكنّى بـ ( أبي الحسن ) بـ ( أبي بكر ) جمعاً بين رمزَي الخلافة الظالمة والإمامة المظلومة ، وتقريباً لأطراف النزاع، وحفاظاً على ملكه ، وتنفيذاً لخطـطه ومآربه .
لم أقف في كتب الرجال والتراجم على وجود هذه الكنية له(عليه السلام) ، بل هي معلومة خاطئة ادّعاها بعض الجاهلين أو المغرضين من أعداء الشيعة ، محيلاً إلى بعض المصادر التاريخية والحديثية ، لكنّي بمراجعة تلك الكتب وقفت على سقم كلامه ، وأنّ ليس هناك من ادّعى هذا القول قبله ، فقد يكون الأمر اختلط عليه فنسب ما هو محكي عن الإمام السجاد إلى الإمام الهادي ، وقد يكون مغرضاً في احالاته للمصادر ، والثاني هو الأقرب إلى نفسيّة أمثال هؤلاء .
ولو كان حقاً فهو يخالف المتواتر عند فقهاء ومحدّثي أهل البيت بأنّ كنيته(عليه السلام) هي أبو الحسن(1) ، وأبو الحسن الأخير(2) ، وأبو الحسن الثالث(3) ،
____________
1- المناقب 3 : 505 ، دلائل الإمامة : 411 ، جامع المقال : 184 ، منتهى المقال 1 : 25 (المحققه) ، ملخّص المقال : 5 ، مجمع الرجال 7 : 193 ، الهداية الكبرى للخصيبي : 313 ، المقنعة للمفيد : 485 ، منتهى المطلب 2 : 895 ، تاج المواليد : 54 ، الوافي بالوفيات 22 : 48 ت 3 ، اللباب في تهذيب الأنساب 2 : 340 ، التدوين في أخبار قزوين 3 : 425 ، المنتظم 12 : 74 ت 1562 ، تاريخ الإسلام 18 : 199 ، 19 : 218 ، أنساب السمعاني 1 : 85 .
2- نوادر المعجزات : 57 ، الرسائل الرجالية 2 : 190 ، مجمع النورين : 181 .
3- المناقب 3 : 505 ، إعلام الورى : 109 ، كشف الغمة 3 : 190 ، جامع المقال : 185 ، تاج المواليد : 54 ، مجمع الرجال 7 : 193 ، منتهى المقال 1 : 25 (المحققة) ، الرسائل الرجالية للكلباسي 2 : 177 ، مصباح المتهجد : 367 ، ألقاب الرسول وعترته : 63 ، 73 ، رجال الطوسي : 381 ، خلاصة الأقوال : 62 ، 100 ، 142 ، 241 .
________________________________________ الصفحة 469 ________________________________________
وأبو الحسن صاحب العسكر(1) ، وأبو الحسن العسكري(2) ، وابن الرضا(3) ، في حين أكّد الخصيبي في الهداية الكبرى(4) ، وابن شهرآشوب في المناقب(5) ،
وابن الصبّاغ في الفصول المهمة(6) ، وغيرهم بأنّ كنية الإمام الهادي أبو الحسن
لا غير .
ونحن لو أضفنا إلى هذا ما قلناه سابقاً من استبعاد وجود هذه الكنية للإمامين السجاد والرضا لثبت كذب مدعيات القائل ، وأنّها لا تتطابق مع نظرية الاصطفاء الإلهي للأئمّة ، بل لزوم السمّو بهم عن وضع أسماء الحيوانات عليهم .
وهناك قول يتيم واستنتاج غير صحيح للمحدّث النوري أراد أن ينتزعه من كلام وقف عليه في كتاب قديم اصطلح عليه بـ (المناقب القديمة) ; حيث قال عن ذلك الكتاب : (يشتمل على مجمل أحوال الأئمّة ، ولم يعلم لحد الآن مؤلفه ، وقد نقل هذه الرواية أيضاً(7) ، وذكر ألقاباً كثيرة له ، ونحن نعبّر عنه (بالمناقب
____________
1- مصباح المتهجد : 805 ، كفاية الأثر : 289 ، رجال الكشي : 290 ، رجال النجاشي : 44 ، 161 ، نقد الرجال 2 : 221 ، اعلام الورى 2 : 247 ، عوالي اللئالي 3 : 285 ، خاتمة المستدرك 4 : 404 .
2- الإمامة والتبصرة : 118 ، فقه الرضا لابن بابويه : 29 ، الكافي 1 : 326 ، 332 ، علل الشرايع 1 : 245 ، عيون أخبار الرضا 2 : 282 ، الغيبة للطوسي : 82 ، وغيرها .
3- إعلام الورى : 121 ، دلائل الإمامة : 419 ، الكافي 1 : 502 ح 8 .
4- الهداية الكبرى : 313 .
5- مناقب بن شهرآشوب 3 : 505 .
6- الفصول المهمة ، لابن الصباغ 2 : 1064 .
7- قد يعني المحدث النوري بكلامه ما ذكره الخصيبي وغيره بأنّ للإمام الحجة كنية أحد عشر إماماً من آبائه ومن عمه الحسن بن علي السبط أيضاً . ومن خلال نقله لهذه الرواية أراد أن يثبت ما قيل في كنية الإمامين السجاد والرضا وتطبيق ذلك على الإمام الحجة ، وهذا استنتاج باطل ; إذ لم تثبت هذه الكنية للإمام السجّاد أو الرضا حتى يجعلها للإمام الحجة .
________________________________________ الصفحة 470 ________________________________________
القديمة) ، وطبق هذا الخبر سوف تكون من ألقابه : الثاني عشر : أبو الحسن ، الثالث عشر : أبو تراب ، والكنيتان لأمير المؤمنين ... ، الرابع عشر : أبو بكر ، وهي إحدى كُنّى الإمام الرضا كما ذكرها أبو الفرج في مقاتل الطالبيين ، الخامس عشر : أبو صالح ...)(1)
وهذا الكلام غير صحيح أيضاً ، لأنّ مسألة التسميات أَخذت طابعها الخاص من بعد شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) ، ثمّ نضجت في عهد الإمام الحجة ، لكن بالكناية والتاويل ، لا بالتصريح ; لأن الخلفاء الأمويين ومن بعدهم العباسيين كانوا لا يرتضون الجمع بين الاسم والكنية معاً ، فلا يجيزون لمسلم أن يُسَمَّى بعلي و يكنّى بأبي الحسن ، لاعتقادهم بأ نّه دالٌّ على المحبة ، وقد مر عليك نهي عبدالملك بن مروان علي بن عبدالله بن عباس عن ذلك ، وألزمه أن يغيّر أحدهما ، فغيَّر الكنية دون الاسم ، وقد غير البحتري كنيته من أبي الحسن إلى أبي عبادة ارضاءً للمتؤكل العباسي .
وعلى ضوء هذه المجريات والأحداث ، ووقوفنا على تجريح الأئمّة للخلفاء الثلاثة كنائياً ، فلا نقبل تكنية الهاشميين للأئمة بهذه الكنية ، وخصوصاً حينما نقف على المحكيّ عن أبي محمّد العسكري أ نّه قال لعثمان بن سعيد العَمْري ـ بفتح العين ـ : لا يجتمع على أمرئ بين عثمان وأبي عمرو ، وأمر بكسر كنيته فقيل العمري(2) ، ويضاف إلى هذا أنّ الثابت عند الجميع أنّ رسول الله قال عن الإمام
____________
1- النجم الثاقب : 172 ، أعيان الشيعة 2 : 13 .
2- الغيبة للشيخ الطوسي : 354 ، خلاصة الأقوال : 220 ـ 221 .
________________________________________ الصفحة 471 ________________________________________
الحجة بأنّ اسمه اسم رسول الله وكنيته كنية رسول الله(1) .
فلو كانت كنيته هي كنية رسول الله وكنية عمه الحسن السبط والأحد عشر
من آبائه بَدْءاً من رسول الله إلى الإمام العسكري ، فهل هو بحاجة إلى
كنية أخرى ؟ إلاّ أنّ يكون الأخرون قد أحتاجوا إليها فوضعوها عليه طبقاً
لاهوائهم .
أجل ، نحن أكّدنا أكثر من مرة على أنّ القوم كانوا يسعون لتحريف الأمور وسرقة الألقاب، فقد منحوا ابن أبي قحافة لقبَ الصدّيق جزافاً(2) ، كما أ نّهم رووا حديثاً عن مشاهدات النبي في المعراج وأ نّه رأى على العرش مكتوباً (لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول الله ، أبو بكر الصديق) ، وحين سمع الإمام الصادق هذا الخبر استاء وقال : سبحان الله غيَّروا كل شيء حتى هذا(3) !!
ومن هذا الباب جاء تغيير الأسماء و إطلاق الكنى على أهل البيت وأولادهم ، فقد غيروا اسم عمرو بن الحسن إلى عمر بن الحسن ، ثم قالوا بوجود عمر بن الحسين ، وكنّوا عمر الأطرف ـ خلافاً للمشهور في كنيته (أبو القاسم) ـ بأبي حفص ، وجعلو المكنّى بأبي بكر من ولد الإمام علي اسمه عتيقاً مقارنةً بين
الاسم والكنية ، وادعوا أيضاً بأن أبا بكر هو اسم لولد علي والحسن والحسين
فقالوا :
____________
1- دعائم الإسلام 2 : 188 ، كمال الدين : 286 ، كفاية الأثر : 67 ، 83 ، مستدرك الوسائل 15 : 133 .
2- هذا ما وضحناه في رسالتنا (من هو الصديق ومن هي الصديقة) .
3- الاحتجاج 1 : 230 ، وعنه في مدينة المعاجز 2 : 376 .
________________________________________ الصفحة 472 ________________________________________
كل ذلك لتوثيق الصلة بين الآل والخلفاء ، في حين ليس بأيدينا نصٌّ واحد ولو كان من ضعاف الأخبار يشير إلى أنّ الأئمّة أطلقوا هذه الكنية على أنفسهم أو على أولادهم .
والآن لندرس ما حكوه عن الإمام الصادق ـ ترسيخاً لما ادّعوه في تكنية ابن أبي قحافة بأبي بكر ـ من أنّ الإمام قَبِلَ هذه الكنية له ، لأ نّه قال : ما أرجو
من شفاعة علي شيئاً إلاّ وأنا أرجو من شفاعة أبي بكر مثله ، ولقد وَلَدَني
مرّتين(1) .
الإمام الصادق وانتسابه إلى ابن أبي قحافة
نحن لا ننكر اتّصال الإمام الصادق بابن أبي قحافة من جهة الأم(2) ، لكنّا في الوقت نفسه نشكّ في صدور هذا الخبر وأمثاله عنه ، لأنّ شرف الانتساب إلى النبيّ هو الشرف الذي ما فوقه من شرف ، فلو كان الإمام ذكر ذلك لكان دفعاً
للشرّ أو تأليفاً للقلوب ، لأ نّه ليس من المعقول أن يقرن الإمام الصادق بين
الإمام علي(عليه السلام) ـ الذي لم يسجد لصنم قط وهو من المطهّرين بنص الآية ـ مع
مَن عبد الأصنام لفترة والمسمّى بعبد الكعبة أو عتيقاً في الجاهلية ، ويرجو
شفاعته ؟
وهل منزلة الذي ولد في الكعبة وقُتل في المحراب تقاس بالذي لا يعرف عنه أ نّه قتل رجلاً من المشركين .
وهل يمكن مقايسة قوم لم يشتهروا بالفضيلة ، مع قوم أذهب الله عنهم الرجس ؟
____________
1- تهذيب الكمال 5 : 82 ، تذكرة الحفاظ 1 : 167 ، سير أعلام النبلاء 6 : 259 .
2- و إن كان هناك من ينكر صحة ذلك ، كصاحب كتاب (ذخر العالمين في شرح دعاء الصنمين) .
________________________________________ الصفحة 473 ________________________________________
وكيف يتطابق هذا مع ما جاء عن الصادق(عليه السلام) توريةً حينما سئل عن أبي بكر وعمر فقال : كانا امامين قاسطين عادلين ، كانا على الحق وماتا عليه ، فرحمة الله عليهما يوم القيامة .
فلمّا خلا المجلس قال له بعض أصحابه : كيف قلت يابن رسول الله ؟
فقال : نعم ، أما قولي : كانا إمامين ، فهو مأخوذ من قوله تعالى (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) .
وأ مّا قولي : قاسِطَيْن ، فهو من قوله تعالى (وَأَ مَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً) .
وأ مّا قولي : عادلين ، فهو مأخوذ من قوله تعالى (الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) .
وأ مّا قولي : كانا على الحقُّ ; فالحق علي ، فهما قد تظاهرا عليه .
وقولي : ماتا عليه ، المراد أ نّها لم يتوبا عن تظاهرهما عليه ، بل ماتا على ظلمهما إيّاه .
وأ مّا قولي : فرحمة الله عليهما يوم القيامة ، فالمراد أنّ رسول الله ينتصف له منهما ، أَخْذاً من قوله تعالى (وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)(1) .
بل إنّ هذا القول المدَّعى صدوره عن الإمام الصادق يخالِف صريحاً ما ثبت عن أمير المؤمنين(عليه السلام) من قوله في الخطبة الشقشقية : (متى اعترضَ الريبُ فِيَّ مع الأوّل منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر)(2) ؟! إذ لم يعترض الريب في أمير المؤمنين بأنّ أبا بكر ليس كفواً له ولا نظيراً له ، فكيف يساوي ويقارن بينهما الإمام الصادق(عليه السلام) ؟!
____________
1- بحار الأنوار 30 : 286 ح 150 .
2- نهج البلاغة :
________________________________________ الصفحة 474 ________________________________________
وهو الأخر يخالف ما جاء عن جده الإمام علي في أبي بكر وعمر وأ نّهما كانا كاذبان آثمان غادران ـ كما جاء ذلك صريحاً في صحيح مسلم ـ(1) .
ولو راجعت أحاديث أهل البيت وكتب الآخرين لرأيت التضادَّ بين النهجين مشهوداً ، ولا يمكن محوه ورأبَ صدعه بمثل هذه الدعاوي العارية عن
الدليل .
ولا يخفى عليك أنّ الخبر الآنف ينتهي سنده إلى مُسْنِد الكوفة محمّد بن الحسين بن أبي الحُنَين الحُنينيّ ، وهذا رواه عن شيخه عبدالعزيز بن عبدالله الأصّم الذي قال عنه الذهبي وابن حجر : فيه جهالة(2) .
وعبدالعزيز رواه عن حفص بن غياث ، وكلّهم من رجال العامة ، وبذلك يكون الخبر عامّيّاً وفيه ما تعتقد به العامة جملة وتفصيلاً ، ومن المعلوم أنّ الراوي لا يؤخذ بكلامه إذا كان داعيةً إلى مذهبه ، وهذا النقل عن الصادق(عليه السلام) عند القوم جاء دعماً لنهج الشيخين ، وهو يختلف عما هو موجود في كتب الإمامية ، وأنّ هناك تضادّاً بين النهجين يعرفه العالم البصير .
وأوّل من روى هذا الخبر عند الشيعة هو الإربلّي في (كشف الغمة) وعنه
أخذ الاخرون ، والإربلّي كان قد صرح في خطبة كتابه بأنّ غالب ما ينقله
هو من كتب الجمهور ; إذ قال : (واعتمدت ـ في الغالب ـ النقل من كتب
الجمهور ليكون أَدْعى إلى تلقيّه بالقبول ، ووفق رأي الجميع متى وجهوا إلى
الأصول)(3) .
وحتى في النصوص المنقولة عندنا عن كتب العامّة ليس فيها أنّ الإمام يرجو شفاعة أبي بكر مثلما يرجو شفاعة الإمام علي ; لأنّ هذا القول يخالف الأصول
____________
1- مر تخريجه في أول الكتاب صفحه 13 .
2- ميزان الاعتدال 4 : 366 ، لسان الميزان 4 : 32 ت 86 .
3- كشف الغمة 1 : 4 .
________________________________________ الصفحة 475 ________________________________________
الثابتة عندنا ومعتقدنا في الإمام المعصوم ، وهو بعيد صدوره عن الإمام الصادق بعد الأرض عن السماء .
فتحصَّل : أنَّ الخبر المحكيَّ عن لسان الإمام الصادق(عليه السلام) ليس له أصل عندنا ، بل هو خبر عامي ، وهو ليس بحجة علينا ، كلُّ ما في الأمر نقله الاربلّي ليكون أدعى لقبول الآخرين .
وبهذا فقد عرفت أنّ القوم سعوا لاستغلال أسماء الأئمّة وأسماء أبنائهم للتدليل على وجود المحبّة بين أبي بكر وعمر من جهة وبين علي بن أبي طالب وأهل البيت(عليهم السلام) من جهة أخرى ، في حين يرى المتصفّح لأسمائهم وكناهم أنّ كُنّى المسمَّين بعلي من ولد الإمام علي هي إمّا أبو الحسن أو أبو الحسين أو أبا محمّد وأمثالها ، وأن كنية أبي بكر هي بعيدة عن كناهم ، ولا تتّفق مع ما قلناه
في أسمائهم وكناهم الإلهية ، واستبعاد أن تكون مأخوذة من أسماء وكُنّى
الحيوانات .
على أنّ ما قلناه ليس حساسية مّنا تجاه اسم أبي بكر وعمر وكناهما ، لأ نّا لا ننكر إمكان وجودهما بين الطالبيين ولا نهاب من التسمية بهذه الأسماء وهي لا تضرنا ولا تثبت عدالة الآخرين ، بل إنّ بحثنا هذا جاء لبيان الحقيقة العلمية والتاريخية لهذه المسألة ، ولإيقاف الباحثين على اُمور قد تكون خافية عليهم ، وخلاصة القول : أنّ أتباع نهج الخلفاء ادّعوا هذه الكنية لابن أبي قحافة مضاهاة لمال خديجة وما قدّمته من خدمات للإسلام ، لأ نّهم لا يقدرون على مضاهاة الإمام علي في حروبه وشجاعته ، فمالوا إلى انتازع مكارم السيدة خديجة وادّعاء وضع رسول الله كنية أبي بكر عليه مجاراة لكنيته السابقة له .
إن مناوئي ابن أبي قحافة من كبار رجالات قريش وبني هاشم لم يرتضوا بهذه المدّعيات وشكّكوا فيها ، لكنّ أبناءهم ـ مثل معاوية ويزيد ولأجل خلافهم
________________________________________ الصفحة 476 ________________________________________
مع بني هاشم ولزوم الاحتماء بالآخرين في هذا الصراع ـ استخدموا الشيخين كورقة رابحة، لكنّ الإمام عليّاً والأئمة من ولده وقفوا أمام مخطّطاتهم الدنيئة بتسامحهم المعهود ورقيّهم وسمّوهم طبق المعاني والمفاهيم الإلهية المتمثلّة بهم .1 ـ الإمام علي بن الحسين السجاد وتكنيهم إيّاه بأبي بكر !!2 ـ الإمام علي بن موسى الرضا وتكنيتهم إيّاه بأبي بكر ؟3 ـ الإمام علي بن محمّد الهادي وتكنيتهم إيّاه بأبي بكر ؟1 ـ أبو بكر بن علي بن أبي طالب .2 ـ أبو بكر بن الحسن السبط .3 ـ أبو بكر بن الحسين الشهيد .
التعلیقات