هل زوَّج النبي آدم عليه السلام أبناءه من بناته؟
الشيخ مهدي المجاهد
منذ أسبوعمنذ القدم، شغلت الأذهان مسألة : كيف بدأ النسل البشري بعد النبي آدم عليه السلام؟
هل فعلاً زوّج آدم أبناءه من بناته؟ وهل هذا يليق بعدل الله وطهارته؟
روايات متعددة تداولها الناس، وتباينت فيها الآراء، لكن الحقيقة الناصعة جاءت من منبعها النقي: الإمام الصادق عليه السلام، الذي بيّن بأسلوب حاسم وواضح ما جرى، وردّ على من نسب إلى الله أموراً لا تليق بجلاله.
في هذه الرواية الفريدة التي نقلها زرارة، نكتشف كيف ردّ الإمام على هذه المزاعم، وكيف شرح الطريقة الحقيقية التي استمر بها نسل البشر، بعيدًا عن الخرافة، وبما يليق بطهارة الرسالة الإلهية.
رواية زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام من كتاب علل الشرائع للشيخ الصدوق
" سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام عَنْ بَدْءِ النَّسْلِ مِنْ آدَمَ كَيْفَ كَانَ، وَعَنْ بَدْءِ النَّسْلِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، فَإِنَّ أُنَاساً عِنْدَنَا يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَى آدَمَ أَنْ يُزَوِّجَ بَنَاتِهِ بِبَنِيهِ، وَأَنَّ هَذَا الْخَلْقَ كُلَّهُ أَصْلُهُ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ."
يبدأ زرارة بسؤال الإمام الصادق عليه السلام عن كيفية استمرار النسل بعد النبي آدم عليه السلام، في ظل انتشار قول بأن الله أمر آدم أن يُزوّج أبناءه من بناته، وأن البشرية كلّها من نسل زواج الإخوة بالأخوات. هذا السؤال يعكس جدلاً كان موجوداً في زمانهم، وهذا ما يوجد في كتب المخالفين ويظهر اعتقادتهم.
استنكار الإمام الصادق عليه السلام
« فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوّاً كَبِيراً، يَقُولُ مَنْ قَالَ هَذَا بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ صَفْوَةَ خَلْقِهِ وَأَحِبَّاءَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ مِنْ حَرَامٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْقُدْرَةِ مَا يَخْلُقُهُمْ مِنْ حَلَالٍ، وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ عَلَى الْحَلَالِ الطُّهْرِ الطَّاهِرِ الطَّيِّبِ ».
الإمام الصادق عليه السلام يُنكر هذا القول بشكل قوي، ويعتبره افتراء على الله. كيف يُعقل أن الله، الحكيم، يخلق أفضل خلقه – الأنبياء والصالحين – من علاقة محرمة؟ الإمام يبيّن أن الله قادر أن يخلق النسل من الحلال الطيب النقي، وقد أخذ على البشر ميثاق الطهارة.
تشبيه بالبَهائم لبيان فطرة النفور من الحرام
« فَوَ اللَّهِ لَقَدْ تَبَيَّنْتُ أَنَّ بَعْضَ الْبَهَائِمِ تَنَكَّرَتْ لَهُ أُخْتُهُ فَلَمَّا نَزَا عَلَيْهَا وَ نَزَلَ كُشِفَ لَهُ عَنْهَا فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهَا أُخْتُهُ أَخْرَجَ غُرْمُولَهُ ثُمَّ قَبَضَ عَلَيْهِ بِأَسْنَانِهِ حَتَّى قَطَعَهُ فَخَرَّ مَيِّتاً وَ آخَرَ تَنَكَّرَتْ لَهُ أُمُّهُ فَفَعَلَ هَذَا بِعَيْنِهِ فَكَيْفَ الْإِنْسَانُ فِي إِنْسِيَّتِهِ وَ فَضْلِهِ وَ عِلْمِهِ ».
الإمام يضرب مثلاً بالبهائم، التي رغم أنها بلا عقل، فإنها تنفر من العلاقة مع الأقارب إذا علمت القرابة. أحدها مات بعدما اكتشف أن التي واقعها كانت أمه أو أخته. فإذا كان الحيوان يرفض هذا الفعل فطرياً، فكيف بالإنسان المكرم العاقل؟
سبب انتشار المفاهيم الخاطئة
« غَيْرَ أَنَّ جِيلًا مِنْ هَذَا الْخَلْقِ الَّذِي تَرَوْنَ رَغِبُوا عَنْ عِلْمِ أَهْلِ بُيُوتَاتِ أَنْبِيَائِهِمْ وَ أَخَذُوا مِنْ حَيْثُ لَمْ يُؤْمَرُوا بِأَخْذِهِ فَصَارُوا إِلَى مَا قَدْ تَرَوْنَ مِنَ الضَّلَالِ وَ الْجَهْلِ بِالْعِلْمِ ».
الإمام عليه السلام يُرجع سبب هذه الانحرافات الفكرية إلى ترك علم أهل البيت عليهم السلام، واللجوء إلى مصادر لا تُعتمد، فكانت النتيجة انتشار الجهل والضلال.
القلم واللوح وكتابة التشريعات
« كَيْفَ كَانَتِ الْأَشْيَاءُ الْمَاضِيَةُ مِنْ بَدْءِ أَنْ خَلَقَ اللَّهُ مَا خَلَقَ وَ مَا هُوَ كَائِنٌ أَبَداً ثُمَّ قَالَ وَيْحَ هَؤُلَاءِ أَيْنَ هُمْ عَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ فُقَهَاءُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَ لَا فُقَهَاءُ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ أَمَرَ الْقَلَمَ فَجَرَى عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ وَ أَنَّ كُتُبَ اللَّهِ كُلَّهَا فِيمَا جَرَى فِيهِ الْقَلَمُ فِي كُلِّهَا تَحْرِيمُ الْأَخَوَاتِ عَلَى الْإِخْوَةِ ».
يوضح الإمام عليه السلام أن كل التشريعات كانت مكتوبة في اللوح المحفوظ قبل خلق آدم بآلاف السنين، ومن ضمنها تحريم زواج الإخوة من الأخوات، مما ينفي تمامًا صحة الرواية الشائعة.
التوراة والإنجيل والزبور والفرقان
« مَعَ مَا حُرِّمَ وَ هَذَا نَحْنُ قَدْ نَرَى مِنْهَا هَذِهِ الْكُتُبَ الْأَرْبَعَةَ الْمَشْهُورَةَ فِي هَذَا الْعَالَمِ التَّوْرَاةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ الزَّبُورَ وَ الْفُرْقَانَ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَنِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ عَلَى رُسُلِهِ صلوات الله عليهم اجمعين مِنْهَا التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى عليه السلام وَ الزَّبُورُ عَلَى دَاوُدَ عليه السلام وَ الْإِنْجِيلُ عَلَى عِيسَى عليه السلام وَ الْقُرْآنُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وَ عَلَى النَّبِيِّينَ عليه السلام وَ لَيْسَ فِيهَا تَحْلِيلُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ».
الإمام عليه السلام يستشهد بالكتب السماوية الأربعة التي أنزلها الله على أنبيائه، ويؤكد أن أيًّا منها لم يُجز أو يُحلّل زواج المحارم، ومنها زواج الإخوة والأخوات.
تحذير من دعم حُجج المجوس
« حَقّاً أَقُولُ مَا أَرَادَ مَنْ يَقُولُ هَذَا وَ شِبْهَهُ إِلَّا تَقْوِيَةَ حُجَجِ الْمَجُوسِ فَمَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ».
الإمام عليه السلام يرى أن من ينشر مثل هذا الكلام إنما يخدم فكر المجوس الذين كانوا يبيحون زنا المحارم، ويكشف أن في الأمر ترويج باطل تحت غطاء ديني.
القصة الحقيقية لبداية النسل
« ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا كَيْفَ كَانَ بَدْءُ النَّسْلِ مِنْ آدَمَ وَ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ النَّسْلِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَقَالَ إِنَّ آدَمَ عليه السلام وُلِدَ لَهُ سَبْعُونَ بَطْناً فِي كُلِّ بَطْنٍ غُلَامٌ وَ جَارِيَةٌ إِلَى أَنْ قُتِلَ هَابِيلُ فَلَمَّا قَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ جَزِعَ آدَمُ عَلَى هَابِيلَ جَزَعاً قَطَعَهُ عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فَبَقِيَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَغْشَى حَوَّاءَ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ ثُمَّ تَخَلَّى مَا بِهِ مِنَ الْجَزَعِ عَلَيْهِ فَغَشِيَ حَوَّاءَ فَوَهَبَ اللَّهُ لَهُ شَيْثاً وَحْدَهُ لَيْسَ مَعَهُ ثَانٍ وَ اسْمُ شَيْثٍ هِبَةُ اللَّهِ وَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ أُوصِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ وُلِدَ لَهُ مِنْ بَعْدِ شَيْثٍ يَافِثُ لَيْسَ مَعَهُ ثَانٍ فَلَمَّا أَدْرَكَا وَ أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ أَنْ يُبْلِغَ بِالنَّسْلِ مَا تَرَوْنَ وَ أَنْ يَكُونَ مَا قَدْ جَرَى بِهِ الْقَلَمُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ مِنَ الْأَخَوَاتِ عَلَى الْإِخْوَةِ أَنْزَلَ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ حَوْرَاءَ مِنَ الْجَنَّةِ اسْمُهَا نَزْلَةُ فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ آدَمَ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ شَيْثٍ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ ثُمَّ أَنْزَلَ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنَ الْغَدِ حَوْرَاءَ مِنَ الْجَنَّةِ اسْمُهَا مَنْزِلَةُ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ يَافِثَ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ فَوُلِدَ لِشَيْثٍ غُلَامٌ وَ وُلِدَتْ لِيَافِثَ جَارِيَةٌ فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ آدَمَ حِينَ أَدْرَكَا أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَ يَافِثَ مِنِ ابْنِ شَيْثٍ فَفَعَلَ فَوُلِدَ الصَّفْوَةُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الْمُرْسَلِينَ مِنْ نَسْلِهِمَا ».
يشرح الإمام عليه السلام كيف استمر نسل آدم بعد مقتل هابيل: امتنع آدم عن المعاشرة زمنا طويلا حزناً، ثم أنجب شيث، ثم يافث. ثم أنزل الله حوريتين من الجنة، نَزْلَة ومَنْزِلَة، وزوّج إحداهما لشيث والأخرى ليافث. ثم تم التزاوج بين نسلهم بدون زواج إخوة بأخوات.
ختام وتأكيد
الإمام عليه السلام يختم الرواية بنفي قاطع ومؤكد لهذه الرواية الباطلة، ويبرّئ الله من أن يُنشئ النسل البشري من حرام
من خلال هذا الحوار الذي دار بين زرارة والإمام الصادق عليه السلام، تتضح معالم الحقيقة:
النسل الإنساني لم يبدأ من زواج الإخوة بالأخوات، بل من خلقٍ طاهرٍ، وزواجٍ شرعيّ خطّته يد القدرة الإلهية بدقة، حين أنزل الله حوريتين من الجنة ليتم التزاوج بين نسل شيث ويافث.
الإمام لم يكتفِ برفض الادعاء، بل قدّم أدلة عقلية ونقلية، واستدلّ بالكتب السماوية، وضرب أمثلة من الفطرة الحيوانية، وأوضح خطورة الانحراف عن علم أهل البيت، وختم بجملة قاطعة لا تحتمل التأويل:
« وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالُوا مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ ».
إنها رواية تزيح الغبار عن موضوع حساس، وتعيده إلى مكانه الصحيح في نور العقيدة، وفقه الطهارة، وعظمة التشريع الإلهي.
دعوة للمشاركة
عزيزي القارئ،
هل كنت تعلم بهذه الرواية من قبل؟ وهل سمعت شيئاً مختلفاً عن بداية النسل بعد آدم عليه السلام؟
هل لديك استفسار أو تساؤل حول هذا الموضوع أو غيره من القضايا العقائدية؟
نحن هنا لنساعدك، ونرحب بأسئلتك وملاحظاتك بكل صدر رحب
التعلیقات