لماذا لم تتزوج السيدة فاطمة المعصومة؟ إجابة على تساؤل مشروع
شيخ مهدي المجاهد
منذ 3 ساعاتالسيدة فاطمة المعصومة عليها السلام هي ابنة الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام. وُلدت في ظروف قاسية، حيث كان والدها مضطهدًا من قبل الحكم العباسي، يتنقل بين السجون، يُحال بينه وبين ممارسة دوره العلني كإمام بين شيعته ومواليه بسبب القيود الظالمة.
نشأت في بيت الإمامة؛ فجدّها وأبوها وأخوها أئمة معصومون، عالمون بزمانهم، مفترضو الطاعة. تربّت في هذا الجو الإيماني، وتشربت من علوم آل محمد وأخلاقهم.
وبعد غياب والدها، تولّى الإمام الرضا عليه السلام رعايتها، وأولاها عناية خاصة. نشأت على يديه، وتعلّمت منه، فكانت عالمة، واعية، نقية، وذات مكانة متميزة بين أهل البيت عليهم السلام.
الزواج في الإسلام وسنّة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله
ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله أنه قال : « النكاح من سنّتي، فمن رغب عنه فقد رغب عن سنّتي » (1).
الزواج في الإسلام ليس مجرد علاقة اجتماعية، بل هو سنّة نبوية، ودرب من دروب الاستقامة وحفظ النفس. في هذا الحديث يؤكد النبي محمد صلى الله عليه وآله أن النكاح من سنّته، ومن أعرض عنه فقد أعرض عن نهجه، ما يدل على مكانته العالية في الدين. الزواج هنا ليس فقط مستحبًا، بل مرتبط بهدي النبي وسيرته.
أما في الحديث اخر يقول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله : « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباه (2) فليتزوَّج، فإنَّه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فليصُم، فإنَّ الصوم له وجاء » (3)، فيوجه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله خطابه إلى الشباب، ويحثهم على الزواج إن كانت لديهم القدرة الجسدية والمالية، لأنه وسيلة لحفظ النظر والابتعاد عن الحرام، كما أنه يحصّن الإنسان من الوقوع في الفواحش. ومن لا يقدر على الزواج، فليصم، لأن الصيام يخفف من حدة الشهوة.
إذن، من الواضح أن الزواج في الإسلام ليس خيارًا هامشيًا، بل هو جزء من المنظومة القيمية التي أرساها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله. وهو دعوة للارتباط على أساس المودة والرحمة، لا على أساس الهوى والعُرف الاجتماعي فقط.
السؤال المشروع: لماذا لم تتزوج؟
أمام هذا التأكيد على الزواج، يطرح البعض سؤالًا مشروعًا: لماذا لم تتزوج السيدة فاطمة المعصومة؟ امرأة من بيت النبوة، ذات علم وعفة، محبوبة من الإمام الرضا عليه السلام، فكيف عاشت دون زواج؟ هل لم يتقدّم لها أحد؟ أم رفضت هي الزواج؟ أم كانت هناك ظروف خارجة عن إرادتها؟
الهدف من هذا السؤال ليس التشكيك، بل محاولة لفهم واقعها، وظروفها، وما يمكن أن نستفيده من حياتها. إن عدم زواجها لا يقلّل من شأنها، بل قد يكون له أبعاد روحية واجتماعية وسياسية، يجب تأملها بدقة وإنصاف.
ليست هذه المقالة لإعطاء الجواب القاطع، بل لنفكّر سويًا... لنقترب من حياة هذه السيّدة النورانية ونحاول أن نقرأ ظروف زمانها، ونفهم مشاعرها، ونستلهم من صبرها.
الظروف السياسية والاجتماعية في عصرها
كانت السيّدة المعصومة عليه السلام تعيش في عصر العبّاسيين، حيث كانت عائلة أهل البيت عليهم السلام تحت رقابة شديدة.
والدها الإمام الكاظم عليه السلام قضى سنوات في السجن، وأخوها الإمام الرضا عليه السلام نُفي إلى خراسان.
الزواج من بنات الأئمة لم يكن مسألة عادية، بل كان يدخل في الحسابات السياسية، وكان يمكن أن يُعرض الزوج، وربما العائلة كلها، للاضطهاد أو القتل. لذلك، لم يكن الأمر بيدها وحدها، بل كان محاطًا بتعقيدات كثيرة تتجاوز الاختيار الشخصي.
غياب الكفوء المناسب
من التفسيرات القوية التي ذُكرت لعدم زواجها: عدم وجود كفوء لها. فمقامها العلمي والروحي والأخلاقي كان رفيعًا، ولم يتوفر من يليق بها زوجًا. فالكفاءة في الزواج، حسب الشريعة الإسلامية، لا تقتصر على المال أو النسب، بل تشمل الدين، العلم، والتقوى.
وليس هذا غريبًا في سيرة نساء أهل البيت، فزينب الكبرى تزوجت من عبد الله بن جعفر الطيار، المعروف بجلالته. ولم يكن زواج نساء أهل البيت يُعقد إلا مع من بلغ منزلة من التقوى والعلم. وبالتالي، فإن غياب الكفوء ليس أمرًا سطحيًا، بل حقيقة دينية واجتماعية تعكس مكانة المرأة في الإسلام.
رواية اليعقوبي وتفنيدها
هناك رواية نسبت إلى المؤرخ أحمد بن إسحاق اليعقوبي، تقول إن الإمام الكاظم عليه السلام أوصى بعدم تزويج بناته. ولكن هذه الرواية ضعيفة من جهة السند، إذ تفرد بها راوٍ مجهول، ولم تُذكر في المصادر الموثوقة. كما أنها تتعارض مع رواية وردت في "الكافي"، تؤكد أن الإمام الكاظم عليه السلام لم يمنع زواج بناته، بل فوّض أمر تزويجهن إلى الإمام الرضا عليه السلام، مشترطًا عدم تزويج أي منهن إلا برأيه ومشورته. فجاء في الخبر : « وإِنْ أَرَادَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يُزَوِّجَ أُخْتَهُ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ وأَمْرِهِ ، فَإِنَّهُ أَعْرَفُ بِمَنَاكِحِ قَوْمِهِ. وَأَيُّ سُلْطَانٍ أَوْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ كَفَّهُ عَنْ شَيْءٍ ، أَوْ حَالَ بَيْنَهُ وبَيْنَ شَيْءٍ ـ مِمَّا ذَكَرْتُ فِي كِتَابِي هذَا ـ أَوْ أَحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْتُ ، فَهُوَ مِنَ اللهِ ومِنْ رَسُولِهِ بَرِيءٌ ، واللهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بُرَآءُ ، وعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وغَضَبُهُ ، ولَعْنَةُ اللاَّعِنِينَ والْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالنَّبِيِّينَ والْمُرْسَلِينَ وجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ ... إلى أن يقول : ولَايُزَوِّجُ بَنَاتِي أَحَدٌ مِنْ إِخْوَتِهِنَّ مِنْ أُمَّهَاتِهِنَّ ولَاسُلْطَانٌ ولَاعَمٌّ إِلاَّ بِرَأْيِهِ ومَشُورَتِهِ ، فَإِنْ فَعَلُوا غَيْرَ ذلِكَ ، فَقَدْ خَالَفُوا اللهَ ورَسُولَهُ ، وجَاهَدُوهُ فِي مُلْكِهِ ، وهُوَ أَعْرَفُ بِمَنَاكِحِ قَوْمِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ زَوَّجَ ، وإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتْرُكَ تَرَكَ » (4).
وهذا يُعزز احتمال أن الإمام الرضا عليه السلام لم يجد الكفوء المناسب لها، أو أن الظروف السياسية منعت ذلك. ومع وفاتها وهي شابة، نفهم أن عدم زواجها لم يكن ناتجًا عن عزوف أو تقصير، بل بسبب واقع معقد لم يكن بيدها تغييره.
عزّة لا عزوف
عدم زواج السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام لا يعني أنها أعرضت عن سنّة النبي صلى الله عليه وآله، بل ربما كانت تمثل نوعًا من العزة والكرامة، حين لم تجد من يليق بها. وهي بذلك تقدم نموذجًا مختلفًا عن الصورة النمطية للزواج. فليس كل من لم تتزوج ناقصة، وليس كل من تزوجت بالضرورة مكتملة. العبرة في الوعي، والكرامة، والاختيار الصحيح.
لقد كانت حياتها مليئة بالعطاء، والعلم، والعبادة. وكانت محط احترام ومحبة عند أهل البيت عليهم السلام وعند أتباعهم. قبرها اليوم في قم هو مهوى قلوب المحبين، ومركز للعلم والزيارة.
مكانتها العلمية عند أهل البيت عليهم السلام
يدل على مكانتها العلمية ما ورد في بعض الوثائق التاريخية من أنّ جماعة من الشيعة قصدوا المدينة يريدون الإجابة عن بعض الأسئلة التي كانت معهم، وكان الإمام عليه السلام مسافرا خارج المدينة، فتصدت السيدة فاطمة عليها السلام للإجابة وكتبت لهم جواب أسئلتهم. وفي طريق رجوعهم من المدينة صادفوا الإمام الكاظم عليه السلام فعرضوا عليه الإجابة وعندما اطلع الإمام عليه السلام على جوابها قال ثلاث مرات: « فداها أبوها » (5).
هذا الموقف يُظهر أنها لم تكن مجرد امرأة عابدة، بل كانت ذات علم وفهم عميق في الدين.
وكانت السيّدة فاطمة بنت الإمام الكاظم عليهما السلام عالمة محدّثة راوية، حدّثت عن آبائها الطاهرين عليهم السلام، وحدّث عنها جماعة من أرباب العلم والحديث، وأثبت لها أصحاب السنن والآثار روايات ثابتة وصحيحة من الفريقين الخاصّة والعامّة، فذكروا أحاديثها في مرتبة الصحاح الجديرة بالقبول والاعتماد. وقد روي عنها: مجموعة من الروايات كحديث الغدير ، وحديث المنزلة ، وحديث حبّ آل محمد ، وفي فضل الإمام علي عليه السلام وشيعته.
وقال الشاعر في فضلها
يا بِنْتَ مُوسَى وَابْنَـةَ الأَطْهــارِ
أُخْتَ الرِّضـا وَحَبِيبَةَ الجَبَّــار
يـــا دُرَّةً مِنْ بَحْرِ عِلْمٍ قَدْ بَدَت
لِلَّهِ دَرُّكِ وَالعُــلُوِّ السَّــــارِي
أَنْتِ الوَدِيعَةُ لِلإمامِ عَلَى الوَرَى
فَخْرِ الكَرِيمِ وَصَاحِبِ الأَسْرارِ
لا زِلْتِ يا بِنْتَ الهُدى مَعْصُومَةً
مِنْ كُلِّ ما لا يَرْتَضيــهِ البـــارِي
مَنْ زَارَ قَبْرَكِ في الجِنــانِ جَزاؤُهُ
هَذا هُوَ المَنْصُوصُ في الأَخْبارِ
الرسالة للمرأة المؤمنة
في زمن يكثر فيه الحديث عن الزواج كغاية بحد ذاتها، تقدم لنا السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام نموذجًا حيًّا لاختيار الطريق على أساس المبادئ الإلهية والكرامة الإنسانية. عدم زواجها لم يكن موقفًا ضد الزواج، بل تعبيرًا عن موقف واعٍ أمام ظروف خاصة.
هي قدوة لكل امرأة مسلمة في الحفاظ على الكرامة، واختيار شريك الحياة عن وعي، أو الانتظار دون قلق حتى يكتب الله الخير. وهي تذكر بأن قيمة المرأة لا تتوقف على حالتها الاجتماعية، بل على إيمانها، علمها، وموقفها.
فماذا عنكِ؟ ما الذي تعلمينه من سيرتها؟
ففي سيرتها ما يُلهمكِ، ويمنحكِ الثبات، ويعيد لقلبكِ الطمأنينة في لحظات الضعف.
شاركي هذا المقال مع من تحبّين، حتى نُحيي ذكرى امرأة عظيمة، ونفتح قلوبًا للحوار، ونجد في الماضي منارات للحاضر والمستقبل.
1ـ مستدرك الوسائل / المحدّث النوري / المجلّد : 14 / الصفحة : 153.
2ـ الباه: العلاقة الخاصة بين الزوجين.
3ـ مستدرك الوسائل / المحدّث النوري / المجلّد : 14 / الصفحة : 153.
4ـ الکافي / الشيخ الكليني / المجلّد : 2 / الصفحة : 88 ـ 89 / ط دار الحدیث.
1ـ كريمه أهل الـبيت / مهدي بور/ ، ص 63 و 64/ نقلاً عن كشف اللئالي.
التعلیقات