سيدة قريش أُمُّ أُمِ الأطهار
الشيخ مالك المصلاب
منذ 7 سنواتفي زمان يسوده الجهل، والظلم، وتتجلى فيه الصفات الرذيلة، كانت تعيش خديجة بنت خويلد، وكانت من أثرى الأثرياء في زمانها، إلا أنها لم تكن تتخلق بما يتصف بها الأثرياء من أنفة وكبرياء ، ولم تسلك مسالكهم ، ولم تكن تشترك في مجالس اللهو والغناء، كانت تتنزّه عنها، وتترفع عن هذه المثالب والأخلاق الشنيعة، فكانت مؤمنة بالله العظيم، متمسكة بما جاء به إبراهيم الحنيف.
كان منطقها منطق الصواب، وفعلها فعل الشرف والطهارة، ولقد كانت تُلقّب بسيدة قريش، وبالطاهرة.
لقاء الطاهر بالطاهرة
كان عملها التجارة، فشاء الرب الجليل اجتماعها مع الصادق الأمين من خلال التجارة، وبما أنه مصدر البركة، فحلت بأموالها البركة بفضله، بحيث كانت تلك التجارة التي قام به تختلف بشكل كبير وملفتًا للنظر عمّا سبق من فعالياتها التجارية، الأمر الذي كشف لهاعن وجود خصوصية به، لقد بانَ وتجلى لها عظمُ شأنه، مما جعلها أن تبدي رغبتها بالاقتران به، لقد تقدم لخطبتها عظماء وكبار قريش، إلا أنها رفضتهم جميعًا، وكأنها كانت تأبى نفسها إلا أن تقترن برجل لم يشهد عالم الإمكان نظيره، حيث أن جميع أهل مكة، كانوا يرون الخلق العالي الذي كان يتحلى به.
توجه مؤمن آل قريش أبو طالب لخطبتها لنبيّنا فكان مما خطب فيهم:
ثُمَّ إِنَّ ابْنَ أَخِي هَذَا مِمَّنْ لَا يُوزَنُ بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا رَجَحَ بِهِ، ولَا يُقَاسُ بِهِ رَجُلٌ إِلَّا عَظُمَ عَنْهُ، ولَا عِدْلَ لَهُ فِي الْخَلْقِ. ( )
يكشف كلامهعن المرتبة العالية والرفيعة التي كان يتحلى به النبي الأعظم قبل البعثة، مما يكشف لنا عن سر رغبة خديجة بالاقتران به بالرغم من فقره، ورفضها لسادة قريش؛ إذ قيمة الإنسان هو خُلُقه وليست المال الذي يملكه، وهذه الخلق السامية هي التي أشار أليها أبو طالب حيث قال في خطبتها: وَإِنْ كَـانَ مُقِلًّا فِي الْمَالِ فَإِنَّ الْمَالَ رِفْــدٌ جَـارٍ، وَظِلٌّ زَائِلٌ، وَلَهُ فِـي خَدِيجَةَ رَغْبَةٌ وَلَـهَا فِيهِ رَغْبَةٌ. ( )
بيّن(ع) أن محمدًا وإن كان قليل المال، إلا أن هذا لا يضر بمنزلته، فالمال نصيبٌ جارٍ، ليس بثابت، وهاهنا تشبيه جميل منه حيث قام بتشبيه امتلاك المال، كالظل الذي محالها إلى الزوال، وإلى الانعدام، ويريد بهذا التشبيه أن الإنسان الطاهر الشريـف الصادق في كلامه، والذي ظاهره وباطنه سيان، كمحـمد يبقى طاهرًا، شريفًا، لا تغيره تقلبـات الزمان وصروف الدهر.
هذا كلامٌ خرجَ مِن شخص كان يعيش في العصر الجاهلي، لا أنه كان يمتلك الحكمة، ومنطق الصواب، وقد كشف من خلال كلماته، أين تكمن قيمة الإنسان، فما بال هذا الزمان، الذي تجلى فيه العلم، وانطمس فيه الجهل، فيجعل قيمة الإنسان في ماله!
وهذه النظرة موجودة في القرآن حيث قال الله تعالى?? : {وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيم} ( )
هكذا كانت خديجةذات القلب الطاهر، فكانت لم ترى قيمة الإنسان في ماله؛ إذ هذه نظرة جاهلية، لذلك لم تكن لتقبل بالاقتران بأي شخص كان، وقد تقدم لخطبتها رؤساء قريش وسادتها، إلا أنها رفضتهم، ومال قلبها لنبيّنا مـحمد ، وهذا أشار إليه أبو طالب عنـدما تقدم لخطبتها للرسول الأكرم حيث قال: وَلَـهَا فِيهِ رَغْبَةٌ.
تمت الخطبة فعندما قام ليذهب مع عمّه أبي طالب قالت له خديجة: إِلَى بَيْتِكَ، فَبَيْتِي بَيْتُكَ، وأَنَا جَارِيَتُكَ. ( )
أي خُلُق عظيم كان تمتلكه هذه المرأة العظيمة؟
حيث كانت من أثر أثرياء زمانها، مع ذلك تقول له(ص) أنا جاريتك؟
اعتلاء سلم الكمال
وهاهنا بدأت مرحلة أخرى من حياتها، لقد كان لاقترانها منه دورًا في اعتلائها سلّم الكمال، حتى بلغت أقصاه، فكانت من النساء الكاملات، ولكن ليس هذا أن اقترانها منه هو العلة التامة في بلوغها مرحلة الكمال، وإلا لكـان جميع زوجاته(ص) مـن النساء الكاملات، والحال أن شهادته فقط لهاحـيث قال: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء، إلاّ مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد. ( )
لم يبلغ غيرها من زوجات النبي درجة الكمال، كانت هي أرفعهن منزلة وفضلاً وأسماهن مقامًا، حتى كان لها سلام خاص من الباري تبارك وتعالى ، حيث جاء جبريل وقال: هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْكَ مَعَهَا إِنَاءٌ مُغَطًّى، فِيهِ إِدَامٌ، أَوْ طَعَامٌ، أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ، فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا ومِنِّي السَّلَامَ، وبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ، ولَا نَصَب. ( )
لا حاجة لزوجة أخرى عند وجود الكمال
بما أن خديجة قد بلغت الكمال، لم يكن للنبي أن يقترن بغيرها، أو ليس الزواج من أجل حصول السكينة للنفس؟
﴿وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَـلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَـعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون﴾ ( )
إن السكينة قد حصلت عند اقترانه (ص) بها، لذلك لم يتزوج بامرأة أخرى قط في حياتها، وهذا أيضا ما شوهد في حياة مولانا أمير المؤمنين فلم يتزوج في حياة مولاتنا فاطمة الزهراء بامرأة أخرى.
ارتحلت وما ارتحلت ذكراها بقيت خالدة
اشتد بها المرض في أيام الحصار القاسي الذي فرضتها قريش ومن تبعها على شعب أبي طالب، حيث منعت سادة قريش صلة أبي طالب بأي نحو من الأنحاء بخارج الشعب، لم يكن الطعام ليصلهم إلا بصعوبة بالغة، حتى أن صبيانهم يصيحون من الجوع، قد حلّ بهم الضعف، كانت تعيش تلك السيدة الثرية تلك السنين التي بلغت ثلاث سنوات، وهي بجانبه(ص)، لم تتخلى عنه وتضعف عمّا كانت عليه، بل كانت تصبّره وتهون عليه ما حلّ به، فارتحلت إلى جوار ربّها ووريت تحت ثرى والتراب، ولكنها لم يرتحل ذكرها الخالد، إذ لها قلب طاهر وحنون ، وروح مواسية في الضراء والسراء مع الرسول (ص) فكيف يمكن أن ينساها، كان دائمًا يلهج لسانه بذكرها، لم تحل امرأة محلها، حتى أنه قام بتسمية العام الذي رحلت فيه، ورحل فيه عمّه أبو طالب بعام الحزن.
فنرى أن بعض زوجاته (ص) لم يتحملن ما كان يحمله (ص) تجاه خديجة من محبة شديدة، فانتقصت أحدُهم مقامها، وتزعم أن الله قد بدّله بخير منها، ولكن كان جوابه: لا والله ما أبدلني الله خيرًا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني وكذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولادّا إذ حرمني أولاد النساء. ( )
يتبين من كلامه(ص) تمام الوضوح أنهاكانت في قمة المواساة، بالرغم من قساوة الظروف التي كانت محيطة بهم كما تقدم في السطور السابقة، وهاهنا تبرز حقيقة وصدق الإنسان، في الظروف القاسية، فمَن كان معك في السراء، ليس معلومًا أن يكون معك في الضراء، فكم من زواج تدهورت أوضاعه عند تغير الأحوال، فتتخلى الزوجة عن زوجها في أسوأ ظروفه، في وقت هو أحوج إلى مَن يقف بجانبه، ويخفف عليه ما حلّ به.
محبة من يحبها
هكذا كانت خديجة المواسية له في تلك الظروف الصعبة القاسية؛ لذلك من شدة محبته لها، كان يحب من يحبها، فلقد كان يكرم أصدقائها، وكان قوله: إني لأحب حبيبها. ( )
وكأنّما حين يصل من يحبها ، فقد وصلها، فيُذكّرونه بها، فيعيش ذكراها في رحيلها.
هكذا كانت خديجة بنت خويلد، سيدة قريش، وأمُّ أمِّ العترة الأطهار.
أعطت بسيرتها العطرة للعالم عدة رسائل أهمها:
- أن الشرف والطهارة يكونان حتى في زمان يسوده الجهل، والظلم. ( )
- أن المدار في اختيار شريك الحياة هو الزوج الطاهر، لا الزوج الثري.
هذا والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين
الشيخ مالك المصلاب
2/9/1438هـ
التعلیقات