فن التمريض في الإسلام: عبادة ورحمة في ضوء القرآن والعترة
ريحانة
منذ 11 ساعة
هل التمريض مجرّد وظيفة لتلقّي راتب آخر الشهر؟ أم هو رسالةٌ سماوية تفيض رحمةً وعطاءً؟
في ثقافة القرآن وأهل البيت عليهم السلام، التمريض ليس مجرّد مهنة بل عبادةٌ خفيّة، يترقّى بها الإنسان في مدارج القرب الإلهي، ويتحوّل بها إلى شعاع نورٍ يُبدّد ألم المريض ووحشته.
في هذا المقال، نأخذكم في رحلة إيمانية وعاطفية عبر آيات الذكر الحكيم وسيرة الأطهار لنتأمّل في مكانة التمريض وممارسيه.
في الثاني عشر من مايو من كل عام، يحتفل العالم بـ"اليوم العالمي للتمريض"، الذي تم اعتماده في ذكرى ميلاد فلورنس نايتينغل، رائدة التمريض الحديث. وفي العالم الإسلامي، يُحتفى أيضًا بيوم التمريض في الخامس من جمادى الأولى، تزامنًا مع ولادة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام)، التي تُعد رمزًا للتضحية والرعاية في الإسلام، خاصةً في مواقفها البطولية في كربلاء.
التمريض مهنة الأنقياء وعبادة المتقين
ليست مهنة التمريض من المهن التي يُقبل عليها أيّ كان؛ بل هي ميدانٌ لا يدخله إلا أصحاب النفوس الرحيمة، والقلوب الصبورة، والأرواح ذات العزم العالي. أولئك الذين احتلوا مكانةً في ضمير المجتمع وأصبحوا محبوبين بين الناس؛ لأنّهم يضحّون بجهودهم من أجل راحة الآخرين.
واليوم، كما تطوّرت العلوم الأخرى، أصبح التمريض علمًا مستقلًّا يُدرّس في الجامعات والمعاهد عبر العالم، وله أبعاده النفسية والتخصّصية. ومع ذلك، ما زالت بعض زوايا هذه المهنة النبيلة مخفيّة تحت غبار الجهل أو الإهمال. الإسلام، بكونه دينًا شاملًا، يسلّط الضوء على هذه الزوايا ويمنحها بُعدًا روحيًّا عظيمًا.
قيمة مهنة التمريض في الميزان الإلهي
التمريض طريق إلى القرب من الله
قد يكون التمريض من أعظم السُّبُل التي تقرّب الإنسان من الله وتوصله إلى الكمال الروحي. حينما ينظر الممرّض إلى عمله كواجب إنساني وإلهي، يَنبعث في داخله نورٌ من الإيمان والعزيمة.
ثواب التمريض في الروايات
١. قال رسول الله صلى الله عليه و آله:
«مَن سَعى لِمَريضٍ في حاجَةٍ قَضاها أولَم يَقضِها خَرَجَ مِن ذُنوبِهِ كَيَومٍ وَلَدَتْهُ اُمُّهُ» (1)
وهذا يدل على أن النية الصادقة والعمل الإنساني لخدمة المريض يكفيان لنيل مغفرة شاملة من الله عز وجل.
٢. قال رسول الله صلى الله عليه و آله:
«مَن قامَ عَلى مَريضٍ يَوماً و لَيلَةً بَعَثَهُ اللّه ُ مَعَ ابراهيمَ الخَليلِ»(2)
وهذا يشير إلى الدرجة العالية التي ينالها الممرّض عند الله، فهي منزلة الأنبياء والصديقين.
٣. قال رسول الله صلى الله عليه و آله:
«مَن أطعَمَ مَريضا شَهوَتَهُ أَطعَمَهُ اللّه ُ من ثِمارِ الجَنَّةِ» (3)
وهذا يدل على أن كل لفتة حنونة تجاه المريض – حتى الطعام – تُسجل عند الله ويجازى صاحبها بأفضل الجزاء.
٤. قال الإمام الصادق عليه السلام:
«يَكِرُّ مَعَ القائِمِ عليه السلام ثَلاثَ عَشْرَةَ امرَأَةً... يُداوِينَ الجَرحى ويَقُمنَ المَرضى» (4)
هذا يُظهر المكانة الرفيعة التي يحتلها التمريض في مشروع الإمام، ودور المرأة فيه كمربية وراعية ومجاهدة.
٥.«إنَّ رَسولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله خَرَجَ بِالنِّساءِ فِي الحَربِ حَتّى يُداوينَ الجَرحى»
(5)
مما يؤكد أهمية التمريض كواجب اجتماعي وجهادي حتى في أوقات الحرب، ويثبت شرعية مشاركة المرأة في هذا الدور.
٦. قال الإمام الصادق عليه السلام:
«ما قضى مسلمٌ لمسلمٍ حاجَةً إلاّ ناداهُ اللّه ُ تباركَ و تعالى : علَيَّ ثَوابُكَ ، و لا أرضى لَكَ بدُونِ الجَنّةِ» (6)
هذا يشمل بالطبع قضاء حاجات المرضى، ويؤكد أن الله هو الضامن لثواب من يخدم عباده، ولا يرضى له إلا بالجنة.
الرسول والتمريض في مسجد المدينة
بعد معركة أحد، نُصبت خيمة في مسجد النبيّ لمعالجة الجرحى، وكان رسول الله يشرف بنفسه على ذلك. وفي معركة الخندق، أمر النبيّ بنقل سعد بن معاذ إلى خيمة امرأة تُدعى «رفيدة الأسلمية» كانت تقوم بتمريض الجرحى، وهذه الخطوة تُعدّ أول نواة للتمريض المنظّم في الإسلام.
الأنبياء والأئمة نموذجًا في التمريض
النبي يوسف (عليه السلام): كان يعتني بالمرضى في السجن، مما جعله محبوبًا لدى السجناء.
الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): في إحدى الليالي مرض الإمام علي (عليه السلام)، فبقي النبي إلى الصباح يقسّم وقته بين الصلاة ورعايته، ويتفقده ويواسيه.
سعد بن معاذ: بعد إصابته في الخندق، نصَب النبي خيمة له داخل المسجد وتولّى بنفسه تمريضه.
الإمام علي (عليه السلام): قام بخدمة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أثناء مرضها، وكانت أسماء بنت عميس تساعده.
السيدة الزهراء والسيدة زينب (عليهما السلام): في معركة أحد، كانت الزهراء تغسل جراح النبي وتوقف النزيف، وكان أمير المؤمنين يملأ الدرع ماءً. والإمام زين العابدين (عليه السلام) قال عن عمّته زينب ليلة عاشوراء: «كانت تعتني بي أحسن عناية».
رضا الله ورضا المرضى
حين يرسم الممرّض البسمة على وجه المريض، تنعكس عليه البهجة وتزول عنه مرارة التعب. علاقة الممرّض بالمريض، إذا بُنيت على الرحمة والمحبّة، تتحوّل إلى علاقة روحانية ذات بُعد إلهي.
وفي القرآن الكريم:
﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195].
الواجبات الأخلاقية للممرضين
تجنب قول "إنا لله وإنا إليه راجعون" أمام المريض:
من الأمور التي قد تسبب قلقاً للمريض وتؤثر على راحته النفسية هي التحدث بكلمة "إنا لله وإنا إليه راجعون" في حضوره، حيث إن قول هذا الذكر أمام المريض قد يوحي له بأن مرضه خطير وأن الأمل في شفائه ضعيف. وكان الإمام الباقر عليه السلام يحاول أن يخفي هذا الذكر عن المرضى الذين يعانون من الألم أو المحنة.
التأثير النفسي للنظرات:
إن المريض في كثير من الأحيان يبحث عن تأثير مرضه من خلال عيون الآخرين. وأحياناً تكون نظرات المحيطين به، بما فيهم الممرضون، مليئة بالسرور والراحة، وأحياناً تكون مملوءة بالحزن والقلق. وتؤثر هذه النظرات بشكل مختلف على نفسية المريض؛ فالنظرة المليئة بالرضا تعطيه الأمل، بينما النظرة المليئة بالتعاطف والحزن قد تجعله يشعر بالاضطراب واليأس. ولهذا، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: لاتديموا النظر إلى أهل البلاء والمجذومين فانه يحزنهم. (7)
الحديث بصوت منخفض أمام المريض:
الحديث بصوت منخفض في حضور المريض يمكن أن يلفت انتباهه ويجعله يشعر بالقلق، لأن المريض قد يظن أن هناك معلومات غير معلنة عن حالته الصحية وأن المحيطين به لا يريدون أن يعرف هذا الأمر. ولهذا السبب، قد يشعر بالقلق وعدم الراحة.
تجنب تناول الطعام أمام المريض:
من الأمور المهمة التي يجب مراعاتها عند رعاية المرضى هو تجنب تناول الأطعمة التي يُحظر على المريض تناولها. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك، كما في الحديث:
نَهی رَسُول اللّه صلی الله علیه و آله أنْ یَأکُلَ العائِدُ عِنْدَ العَلیلِ فَیُحبِط اللّه ُ اَجْرَ عِیادتِهِ.
بالطبع، الممرضون يقضون وقتاً طويلاً في المستشفى وبجانب المرضى، لذا يجب عليهم مراعاة هذه النصيحة الهامة ويأخذونها بعين الاعتبار خلال تناول الطعام، بحيث يتجنبون تناول الطعام أمام المرضى.
السرية والحفاظ على خصوصية المريض:
يجب أن يلتزم الممرضون بمبدأ السرية والحفاظ على خصوصية المرضى. ففي أوقات المرض، يتكشف العديد من الأسرار الخاصة بالمرضى أمام الأطباء والممرضين، ولكنهم لا يرغبون في أن يعلم الآخرون بهذه الأسرار. من هنا، تقع على عاتق الممرضين والمسؤولين في الرعاية الصحية مسؤولية كبيرة في الحفاظ على هذه الأسرار. وفي الإسلام، حتى لو كانت الأسرار تخص شخصاً قد توفي، فإن كشفها غير مرغوب فيه، فما بالك بمن لا يزال على قيد الحياة.
خاتمة: التمريض ليس مهنة بل رسالة
في قاموس القرآن والعترة، التمريض ليس مجرّد عمل بل رسالةٌ مقدّسة. هو عبادة خفية، يختبر فيها الإنسان مدى إنسانيته، ويترقى بها في مدارج الكمال الروحي. الممرّض في ثقافتنا هو رسول رحمة، وصاحب رسالة سماوية، يستحقّ منّا الإجلال والاحترام والدعاء.
هل سبق لك أن جرّبتَ التمريض؟ هل شعرتَ يوماً بأنك تُقدّم عبادة لا تُقدّر بثمن؟
شاركينا تجربتكِ أو ارسلي تحيّة لممرّضة أثّرت في حياتكِ، عبر التعليقات أدناه
ولا تنسي مشاركة المقال مع من يستحقّ أن يسمع هذه الرسالة النورانية.
1. كتاب من لا يحضره الفقيه(الشيخ الصدوق) / المجلد: 4 / الصفحة: 16
2. ثواب الأعمال(الشيخ الصدوق) / الصفحة: 341
3. الدعوات (قطب الدين الراوندي) / الصفحة: 230
4. دلائل الإمامة (محمد بن جریر طبری) / الصفحة: 184
5. بحار الأنوار (للعلامة محمد باقر المجلسي) / المجلد: 19 / الصفحة: 184
6. الكافي (ثقة الاسلام الكليني) / المجلد: 2/ الصفحة: 194
7. بحار الأنوار (للعلامة محمد باقر المجلسي) / المجلد: 75 / الصفحة: 15 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 1.
التعلیقات