زواج النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بالسيدة خديجة عليها السلام: نموذج إنساني خالد
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 7 ساعاتيحتلّ الزواج في الإسلام مكانةً عظيمة، إذ جعله الله تعالى أساس بناء الأسرة والمجتمع، وجعل فيه السكن والمودة والرحمة. وقد ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله قوله : « قال صلى الله عليه وآله النكاح من سنتي، فمن رغب عنه فقد رغب عن سنتي » (1).
ليؤكد أن الزواج ليس مجرد عقد اجتماعي، بل هو مسيرة إيمانية وروحية تعكس فطرة الإنسان وتلبّي حاجاته في أجواء من الطهر والسكينة.
كما قال صلى الله عليه وآله في حديث آخر: « ما بُنِيَ في الإسلامِ بِناءٌ أحَبَّ إلى اللّه ِ عزّوجلّ ، وأعَزَّ مِنَ التَّزويجِ » (2).
ولذلك لم يكن زواج النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بالسيدة خديجة بنت خويلد عليها السلام حدثًا عابرًا في تاريخ الإسلام، بل مدرسة عملية متكاملة تصلح أن تكون قدوةً للشباب في كل عصر، إذ اجتمع فيه الإيمان والصدق والتضحية والتكامل الروحي بين الزوجين. وفي وقت كانت الأعراف الجاهلية تسيطر على المجتمع المكي، قدّم هذا الزواج المبارك نموذجًا إنسانيًا وأخلاقيًا خالدًا.
المرحلة الأولى: الخطبة والتعارف
كانت السيدة خديجة عليها السلام من أعظم نساء قريش شأنًا، فهي من بيت شريف وعريق، وكانت ثرية وصاحبة تجارة واسعة، اشتهرت بين العرب بلقب الطاهرة لما عُرف عنها من العفاف والكرم وحسن السيرة.
لقد كسرت السيدة خديجة عليها السلام تقاليد الجاهلية حين رغبت في الزواج من النبي صلى الله عليه وآله بنفسها، إدراكًا منها لعظمة شخصيته وعلو مكانته، ولأنها رأت فيه الصدق والأمانة وهما أعظم ما يبحث عنه العقلاء في شريك الحياة. وهذا ما يبعث برسالة قوية إلى الشباب اليوم: أن معيار اختيار الزوج أو الزوجة ينبغي أن يكون قائمًا على الإيمان والأخلاق والصدق، لا على المظاهر المادية أو الاعتبارات القبلية.
المرحلة الثانية: مراسم الزواج
جرت مراسم الزواج في حضور أعمام النبي صلى الله عليه وآله وكبار قريش، وتولى عمه أبو طالب رضي الله عنه خطبة العقد، فأثنى على ابن أخيه محمد صلى الله عليه وآله، معدّدًا شرف نسبه وسمو أخلاقه، ومبيّنًا أنه خير من يُزف إلى خديجة عليها السلام.
روي عن جابر قال : « كان سبب تزويج خديجة محمدا أن أبا طالب قال يا محمد إني اريد أن ازوجك ولا مال لي اساعدك به ، وإن خديجة قرابتنا ، وتخرج كل سنة قريشا في مالها مع غلمانها يتجر لها ويأخذ وقر بعير مما أتى به ، فهل لك أن تخرج؟ قال : نعم ، فخرج أبوطالب إليها وقال لها : ذلك ، ففرحت وقالت لغلامها ميسرة أنت وهذا المال كله بحكم محمد صلى الله عليه وآله ، فلما رجع ميسرة حدث أنه ما مر بشجرة ولا مدرة إلا قالت : السلام عليك يا رسول الله ، وقال : جاء بحيرا الراهب ، وخدمنا لما رأى الغمامة على رأسه تسير حيثما سار تظله بالنهار ، وربحا في ذلك السفر ربحا كثيرا ، فلما انصرفا قال ميسرة : لو تقدمت يا محمد إلى مكة وبشرت خديجة بما قد ربحنا لكان أنفع لك ، فتقدم محمد على راحلته ، فكانت خديجة في ذلك اليوم جالسة على غرفة مع نسوة فظهر لها محمد راكبا ، فنظرت خديجة إلى غمامة عالية على رأسه تسير بسيره ، ورأت ملكين عن يمينه وعن شماله ، في يد كل واحد سيف مسلول ، يجيئان في الهواء معه ، فقالت : إن لهذا الراكب لشأنا عظيما ليته جاء إلى داري ، فإذا هو محمد صلى الله عليه وآله قاصد لدارها ، فنزلت حافية إلى باب الدار ، وكانت إذا أرادت التحول من مكان إلى مكان حولت الجواري السرير الذي كانت عليه ، فلما دنت منه قالت : يا محمد اخرج و واحضرني عمك أبا طالب الساعة ، وقد بعثت إلى عمها أن زوجني من محمد إذا دخل عليك ، فلما حضر أبوطالب قالت : اخرجا إلى عمي ليزوجني من محمد فقد قلت له في ذلك ، فدخلا على عمها ، وخطب أبوطالب الخطبة المعروفة ، وعقد النكاح ، فلما قام محمد صلى الله عليه وآله ليذهب مع أبي طالب قالت خديجة : إلى بيتك ، فبيتي بيتك ، وأنا جاريتك » (3).
أما المهر فقد وردت فيه روايات متعددة، فقيل إن أبا طالب قد ضمن المهر في ماله ، كما هو صريح خطبته ، ولكن خديجة رضوان الله تعالى عليها عادت فضمنت المهر في مالها ، فقال البعض : يا عجباً! المهر على النساء للرجال ؟!
فغضب أبو طالب ، وقال : إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان ، وأعظم المهر ، وإن كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلا بالمهر الغالي .
ولكن يبقى : أن بعض الروايات تفيد : أن رسول الله صلى الله عليه وآله نفسه قد أمهرها عشرين بكرة.
إن الرسالة العظيمة التي تحملها هذه المرحلة هي أن الزواج ليس استعراضًا اجتماعيًا ولا مناسبة للتباهي بالولائم والأموال، بل هو عهد مقدس قائم على البساطة والجدية والنية الصالحة. وهذا ما ينبغي أن يستحضره الشباب اليوم حين يقبلون على الزواج.
المرحلة الثالثة: الحياة الزوجية
بعد الزواج، عاشت السيدة خديجة عليها السلام إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله حياةً مفعمة بالمودة والوفاء. كانت شريكة له في أصعب الظروف، فقد وقفت معه حين جهر بالدعوة وتحدّى أصنام قريش، وأنفقت مالها في سبيل الله، وشاركت النبي صلى الله عليه وآله محنة الحصار في شعب أبي طالب.
وقد شهد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لها بالفضل في حديثه المشهور:
عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا ذكر خديجة لم يسأم من ثناء عليها و استغفار لها، فذكرها ذات يوم فحملتني الغيرة فقلت: لقد عوّضك اللّه من كبيرة السن؟ قالت: فرايت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غضب غضبا شديدا، فسقطت في يدي (4) فقلت: اللهمّ إنّك إن أذهبت بغضب رسولك صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم أعد لذكرها بسوء ما بقيت، قالت: رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما لقيت قال: قَالَ كَيْفَ قُلْتِ ؟ وَ اللَّهِ لَقَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ النَّاسُ ، وَ آوَتْنِي إِذْ رَفَضَنِي النَّاسُ ، وَ صَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ ، وَ رُزِقَتْ مِنِّي الْوَلَدَ حَيْثُ حُرِمْتُمُوهُ. قالت: فغدا و راح عليّ بها شهرا » (5) (6).
لم تكن خديجة عليها السلام مجرد زوجة، بل كانت سندًا معنويًا وماليًا وروحيًا، حتى قال العلماء: لولا مال خديجة وسيف علي عليه السلام، لما قام للإسلام عمود. وهذا ما يجعل زواجهما مدرسة في معنى المشاركة الحقيقية في الحياة الزوجية، حيث يتحمل كل من الزوجين مسؤولية دعم الآخر في السراء والضراء.
المرحلة الرابعة: أسلوب الحياة المشتركة
تميّز بيت النبي صلى الله عليه وآله والسيدة خديجة عليها السلام بالبساطة والروحانية. فلم يكن بيت ترف أو إسراف، بل كان بيتًا مؤمنًا قائمًا على القناعة. كانا يعيشان حياة طبيعية بعيدة عن التكلّف، يشتركان في أداء المهام الأسرية بما يليق بمكانتهما، ويسود بينهما الحبّ والتقدير المتبادل.
كما كانت السيدة خديجة عليها السلام أول امرأة دخلت في الإسلام، فآمنت برسالة زوجها من اللحظة الأولى، فكان بيتها أول بيت احتضن نور الإسلام، وهذا دليل على أن الحياة الزوجية ليست مجرد مشاركة مادية بل مشاركة إيمانية وروحية أيضًا.
إن الرسالة التي يحملها هذا الجانب للشباب اليوم هي أن الزواج لا يقوم على المظاهر الفارغة ولا على التنافس في الماديات، بل على المحبة الصادقة والوفاء والقناعة، وأن السعادة الحقيقية تنبع من الإيمان والسكينة.
الدروس والعبر للشباب
معيار الاختيار الصحيح: الزواج الناجح يقوم على أساس الإيمان والخلق، كما فعلت خديجة عليها السلام حين اختارت النبي الأكرم صلى الله عليه وآله.
البساطة في الزواج: مراسم عقدهما كانت خالية من التعقيد والمبالغة.
المشاركة في السراء والضراء: خديجة عليها السلام أنفقت مالها وجهدها في سبيل نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله.
الوفاء بعد الرحيل: ظل النبي صلى الله عليه وآله يذكر خديجة عليها السلام بعد وفاتها بكل خير، حتى غارت بعض زوجاته من كثرة ذكره لها.
الخاتمة
إن زواج النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بالسيدة خديجة عليها السلام لم يكن مجرد ارتباط اجتماعي، بل كان تأسيساً لبيت إيماني صار منطلقاً لرسالة الإسلام. لقد جسّد هذا الزواج أسمى معاني المودة والرحمة، وأعطى للعالم أنموذجاً خالداً في كيفية بناء الحياة الزوجية على أسس من الإيمان والصدق والوفاء.
وفي عالمنا المعاصر، حيث تتعقّد مراسم الزواج وتطغى المظاهر المادية، يحتاج الشباب إلى العودة إلى هذا النموذج المبارك ليستلهموا منه الدروس: أن يختاروا أزواجهم بناءً على القيم والأخلاق، أن يجعلوا مراسم الزواج بسيطة، وأن يبنوا بيوتهم على المحبة والقناعة.
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله في سلوكه مع خديجة عليها السلام معلماً للأمة، وأعطى للعالم درساً خالداً: أن الزواج في الإسلام ليس مجرد عقد، بل رسالة مقدسة، وبناء يرضاه الله عز وجل، وسيرة ينبغي أن تُتخذ قدوة في كل زمان ومكان.
1. جامع أحاديث الشيعة / السيد حسين البروجردي / المجلّد : 20 / الصفحة : 7.
2. بحار الأنوار / العلامة المجلسي / المجلّد : 103 / الصفحة : 222 / ط مؤسسة الوفاء.
3. بحار الأنوار / العلامة المجلسي / المجلّد : 16 / الصفحة : 4 / ط مؤسسة الوفاء.
4. ندم و تحير.
5. قال المجلسيّ رحمه الله لعل المعنى انه صلّى اللّه عليه و آله كان الى شهر يذكر خديجة و فضلها في الغدو و الرواح.
6. كشف الغمة في معرفة الأئمة / المحدث الإربلي / المجلّد : 1 / الصفحة : 482.
التعلیقات