آسيـة زوجة فرعون: قدوة خالدة لثبات المرأة المؤمنـة
نساء خالدات
منذ 4 ساعات
لم يذكر القرآنُ آسيةَ زوجةَ فرعون بوصفها شخصيةً عابرة، بل قدّمها مثلاً للذين آمنوا؛ امرأةٌ عاشت في قصرٍ يضجّ بالطغيان، لكنها اختارت القرب من الله على رفاه السلطة: ﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾. آمنت حين كفر زوجها، وثبتت حين خضع الجميع، فكانت بصوت دعائها وصدق يقينها أعظم درسٍ في الولاء لله والبراءة من الظلم.
آسية ليست قدوةً للتاريخ فحسب، بل نموذجٌ ملهم لنساء اليوم: قوةٌ روحية في بيئةٍ معاكسة، أمومةٌ رساليةٌ حمت موسى في لحظات مصيرية، وبصيرةٌ جعلتها تفضّل بيتًا عند الله على قصور الدنيا. من قصتها تتعلّم المرأة المعاصرة كيف توازن بين الرحمة والحزم، بين رعاية الأسرة ونصرة الحق، وأن تجعل الدعاء والعمل الصالح طريقًا للنصر والعزة وسط الضغوط الاجتماعية والسياسية.
آسيـة زوجة فرعون
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ (1).
آسية زوجة فرعون، الذي بلغ كفره إلى حدّ أنّه صاح بين قومه: ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ﴾ (2).
لكن آسية آمنت بالله إيمانًا خالصًا، ولم تستطع قوّة زوجها ولا كفره أن تضعف عقيدتها.
دور آسية في حماية النبي موسى
يمكن القول: إنّ آسية كانت الأمّ الثانية لموسى عليه السلام. فقد كان لها دور حاسم في تربيته وإنقاذ حياته. وقد ساندته في ثلاث مراحل:
الأولى: عندما وُجد موسى في التابوت مأخوذاً من النهر، وكان فرعون ومن حوله قد قرّروا قتله، منعتهم آسية وقالت: ﴿ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ (3).
الثانية: حين سعت لتُقبَل أمّ موسى كمرضعة له.
والثالثة: عندما شدّ موسى لحية فرعون أو ضربه بعصا على رأسه.
وجاء في بحار الأنوار أنّ القصة كانت هكذا:
فلما درج (مشي) موسى كان يوما عند فرعون فعطس موسى فقال : « الحمد لله رب العالمين » فأنكر فرعون ذلك عليه ولطمه وقال : ما هذا الذي تقول؟ فوثب موسى على لحيته وكان طويل اللحية فهلبها أي قلعها ، فهم فرعون بقتله ، فقالت امرأته : غلام حدث لا يدري ما يقول ، وقد لطمته بلطمتك إياه (4).
بهذه المواقف الثلاثة، أدّت آسية دورًا مصيريًا في حماية موسى الذي أُرسل لهداية البشرية، وصارت مثالًا للنساء في رعاية من اختاره الله وليًا له.
حفظ الإيمان في بيئة شركية
من مميّزات آسية روحانيتها وإيمانها. يُقال إنّ إيمانها بموسى ظهر عندما غلب السحرة في قصر فرعون فآمنوا، وربما كان إيمانها قبل ذلك ولكنها كانت في حالة تقيّة.
ويصف القرآن حالتها الروحية بقولها: ﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (5).
لقد دعت بثلاثة أمور:
أن تكون في جوار رحمة الله وقربه.
أن تنجو من فرعون وأفعاله.
أن تُنقذ من القوم الظالمين.
وهذا يبيّن أنّ همّها الأكبر كان الدين والإيمان، وأنها في بيئة الشرك لم ترَ سبيل النجاة إلا باللجوء إلى الله، ولذلك كانت نموذجًا في التديّن.
الصمود حتى الشهادة
هذه المرأة القدوة فضّلت الشهادة على التقيّة، وواجهت جهاز الظلم والإلحاد، وظلّت عبر التاريخ رمزًا للفخر والعزّة للنساء المؤمنات.
بعد إعلان إيمانها تعرّضت للتعذيب الشديد على يد فرعون، حتى استشهدت في النهاية. ويُقال إنّهم ربطوا يديها ورجليها بالمسامير إلى الأرض وتركُوها تحت حرّ الشمس، ثم وضعوا صخرة عظيمة على جسدها النحيل لتفارق الحياة تحت أقسى أنواع العذاب.
وفي بعض الروايات ذُكر أنّ الملائكة كانت تأنس بها وتُريها البيت الذي طلبته من الله في الجنة (6). وإن صحّ ذلك، فهي من النساء المحدثات، كما ورد في القرآن بشأن مريم عليها السلام.
من آسیة المؤمنة إلى زینب الصابرة
إنّ مقارنةً قصيرة بين زينب الكبرى وبين زوجة فرعون، تُظهر عظمة مقام زينب الكبرى. في القرآن الكريم، عُرِفت امرأة فرعون نموذجاً للإيمان، للرجال والنساء على مرّ الزمان إلى يوم القيامة. ولكن قارنوا امرأة فرعون التي آمنت بموسى وتعلّقت بالهداية التي جاء بها، فلمّا وقعت تحت ضغط التعذيب الفرعوني ــ الذي انتهى بها إلى الموت كما نقلت التواريخ والروايات ــ كان عذابها الجسدي يُؤلمها، فصرخت قائلة: «إذ قالت ربّ ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجّني من فرعون وعمله»؛ طلبت من الله المتعال أن يبني لها بيتاً في الجنة، وأن ينجّيها من فرعون وعمله. في الحقيقة كانت تطلب الموت، وتريد الخلاص من الدنيا.
بينما كانت مشكلة السيدة آسية ـ زوجة فرعون ـ هي العذاب الجسدي والآلام البدنية؛ لم تفقد عدداً من الإخوة، ولا ولدين، ولا كثيراً من الأقارب وأبناء الإخوة كما جرى لزينب الكبرى. لم تر أمام عينيها أعزّتها يُساقون إلى المذبح واحداً بعد واحد.
في يوم عاشوراء، رأت زينب الكبرى كل هؤلاء الأحبة يُذبحون أمامها: رأت الحسين بن علي عليه السلام، ورأت العباس، وعليّ الأكبر، والقاسم، وأبناءها، وإخوتها الآخرين. وبعد الشهادة، شهدت كل تلك المحن: هجوم العدو، هتك الحرمة، مسؤولية حفظ الأطفال والنساء. فهل يمكن مقارنة هذه المصائب الروحية العظيمة بالآلام الجسدية؟
ومع ذلك، لم تقل زينب: «ربّ نجّني»، بل في يوم عاشوراء رفعت قلبها إلى الله وقالت: «اللهم تقبّل منّا هذا القربان». كان جسد أخيها مقطّعاً أمام عينيها، ومع ذلك التفتت بقلبها إلى الله وقالت: ربّنا تقبّل منّا.
وحين سُئلت: كيف رأيتِ؟ أجابت: «ما رأيتُ إلّا جميلاً». كل هذه المصائب كانت جميلة في نظر زينب، لأنّها من الله، ولأنّها في سبيله، وفي سبيل إعلاء كلمته.
انظروا إلى هذا المقام! مقام الصبر العظيم والتفاني في الحق، كم يختلف عن المقام الذي ذكره القرآن في شأن آسية. هذا يُظهر عظمة مقام زينب الكبرى. فالعمل لله هكذا يكون. ولذلك فإنّ اسم زينب وعملها اليوم مثالٌ يُحتذى، باقٍ في الدنيا. بقاء دين الإسلام، وبقاء طريق الله، واستمرار السير عليه من قِبَل عباد الله، إنّما استند وتغذّى من عمل الحسين بن علي عليه السلام وعمل زينب الكبرى. إنّ ذلك الصبر العظيم، وتلك المقاومة، وتحمّل المصائب والمحن، جعلت القيم الدينية اليوم قيماً حيّةً ورائجة في العالم.
الخاتمة
اختارت آسية وجه الله على زينة القصر، فخلّدها القرآن قدوةً في الإيمان والثبات والتضحية. رسالتها لنا واضحة: من جعل همَّه رضى الله نجّاه، ومن صبر على الطريق أثمر صبرُه بيتًا في الجنة وذكرًا طيّبًا في الدنيا.
أسئلة وأجوبة
1) من هي آسية ولماذا ضُرب بها المثل؟
هي زوجة فرعون، قدّمها القرآن مثلًا للمؤمنين لثباتها ودعائها وولائها لله رغم طغيان بيئتها.
2) ما أبرز مواقفها في حماية موسى؟
منعت قتله حين التُقط من النهر، وسعت لقبول أمّه مرضعةً له، ودافعت عنه عندما شدَّ لحية فرعون أو ضربه، فكفّت أذاه عنه.
3) كيف حفظت إيمانها في بيئة شركية؟
بلجئها إلى الله ودعائها الصادق، وبتقديمها القرب من الله على طاعة الباطل، مع حكمةٍ وكياسةٍ حتى ظهر إيمانها علنًا.
4) ماذا تتعلّم النساء اليوم من آسية؟
الثبات أمام الضغوط، تقديم الدين على المصلحة، الأمومة الواعية، ونصرة المظلوم ولو خالفت أهواء الأقوياء.
5) كيف كانت نهايتها؟
عُذِّبت حتى الشهادة؛ وتذكر رواياتٌ أنّ الملائكة آنستها وأُريت البيت الذي سألته في الجنة، فكانت خاتمتها كرامةً وثباتًا.
1. التحريم: 11 و12.
2. النازعات: 24.
3. القصص: 9.
4. بحار الأنوار / ط دار الإحياء التراث / العلامة المجلسي / المجلد: 13 / الصفحة: 26.
5. التحريم: 11.
6. الميزان في تفسير القرآن / السيد محمد حسين الطباطبائي / المجلد: 19 / ذيل آية 11 سورة التحريم.
التعلیقات