تحذيرات خطيرة من رياح الخريف الباردة
السيد حسين الهاشمي
منذ ساعةمع إشراقة الخريف تتبدّل ملامح الكون وتتوشّح الطبيعة بثوبٍ جديدٍ يحمل في طيّاته الدفء والسكينة. فبعد أن تكتمل دورة الصيف الحارّة وتخفت حرارتها، يبدأ النسيم وينتشر الأوراق في الأجواء، وتتناثر أوراق الأشجار بألوانٍ زاهية كلوحةٍ فنيّة أبدعها الخالق عزّ وجل. إنّ الخريف ليس مجرّد فصلٍ انتقالي بين الحرّ والبرد، بل هو زمنٌ غنيّ بالدروس الكونيّة والعِبَر الروحيّة، إذ يجمع بين الاعتدال والتهيئة لموسم الشتاء. وفي هذا الفصل تبرز الرياح بأشكالها المختلفة؛ منها ما يكون لطيفًا ومنها ما يحمل الغبار والأمطار، فتتجلّى من خلالها قدرة الله تعالى في تنويع الأجواء وتسيير الكون وفق نظامٍ دقيق. فالرياح في الخريف ليست مجرّد ظاهرة طبيعيّة، بل عنصرٌ أساسيّ في توازن المناخ، وسرّ من أسرار إحياء الأرض واستمرار الحياة. ولكلّ ريحٍ في كلّ فصلٍ من فصول السنة سرّ دفين أودعه الله تعالى فيها. ويمكن للإنسان أن يطّلع على بعض هذه الأسرار الدفينة في الرياح المختلفة من خلال ما ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام. فإنهم موضع علم الله ومعادن وحيه. ولهذا عندما نراجع الروايات، نشاهد أنّ مولانا وسيدنا أميرالمؤمنين عليه السلام قد كشف لنا بعض أسرار الرياح في الخريف والربيع. فقد قال أميرالمؤمنين عليه السلام: « تَوَقَّوُا الْبَرْدَ فِي أَوَّلِه وتَلَقَّوْه فِي آخِرِه، فَإِنَّه يَفْعَلُ فِي الأَبْدَانِ كَفِعْلِه فِي الأَشْجَارِ، أَوَّلُه يُحْرِقُ، وآخِرُه يُورِقُ » (1). تَوَقّوا البرد أي احفظوا أنفسكم من أذاه وتَلَقّوه أي استقبلوه والمراد من آخِرُه يُورِق أن البرد في آخره يمس الابدان بعد تعودها عليه، فيكون عليها أخف. (2). ولهذا خطر ببالنا أن نكتب حول أنواع الرياح.
حكمة أمير المؤمنين عليه السلام حول الرياح
تُعدّ كلمات أمير المؤمنين عليه السلام منبعًا لا ينضب من الحكمة والتوجيه، فهي تختصر بعُمقٍ بالغٍ علوم الطبيعة والطبّ، وتكشف عن إدراكٍ دقيق للعلاقة بين الإنسان والكون. هذه الحكمة الوجيزة تمثّل مزيجًا بين البصيرة الإلهية والخبرة الحياتية، حيث ربط الإمام بين الطقس الموسمي وتأثيره على الأجساد البشرية والنباتات، فأوضح ما قد يغفل عنه الأطباء والمزارعون على حدّ سواء. يشير الإمام عليه السلام إلى أنّ البرد الذي يطلّ على الناس في بدايات الخريف أو أوائل الشتاء يحمل ضررًا على الأبدان، تمامًا كما يُتلف أوراق الأشجار الخضراء ويُحرقها قبل أن تألفه الطبيعة. أمّا في نهايات الشتاء وبدايات الربيع، فإنّ تقبّل هذا البرد فيه نفعٌ للأبدان، كما أنّه يوقظ الأرض والأشجار للحياة من جديد، فتنمو الأوراق وتزدهر الطبيعة.
البعد الطبي والصحي
كلمات أمير المؤمنين عليه السلام تكشف عن وعي مبكّر بما توصّل إليه الطبّ الحديث. البرد الأول، برد أوائل الشتاء: يعرّض الجسم لنزلات البرد والإنهاك، إذ لم يتهيّأ بعد لمواجهة الانخفاض الحاد في درجات الحرارة، فيكون ضرره على البدن شديدًا. الثاني برد أواخر الشتاء: يدرّب الجسد على مقاومة الأمراض، ويقوّي المناعة الطبيعيّة، كما يُنشّط الدورة الدمويّة. إذن، ما عبّر عنه الإمام بكلمة يُحرِق إنّما هو إشارة إلى أثر البرد المباغت على الجسم في إضعافه، بينما يُورِق تعبيرٌ عن أثره النافع حين يكون موسمه قد انقضى، فينعش الجسد كما ينعش الشجر.
البعد الزراعي والتكويني
الرياح الباردة حين تهبّ في أوائل الخريف أو الشتاء تصيب الأشجار بأذى، فتسقط أوراقها فجأة كأنّها احترقت، أمّا مع نهايات الشتاء فإنّ نفس هذه البرودة تُسهم في دورة الحياة، فتحرّك العصارة في سيقان الأشجار وتُمهّد لإخراج الأوراق الجديدة. وهذا يثبت أنّ الإمام عليه السلام لم يكن يوجّه كلامه في دائرة ضيّقة، بل كان يُدرك النظام الكوني المتكامل الذي يربط الإنسان بالطبيعة.
الرياح، جلوة من أمر الله
من يتأمّل في حركة الكون ونظامه البديع، يجد أنّ كلّ شيء فيه يسير وفق تدبيرٍ إلهيّ محكم، لا فوضى فيه ولا عبث. ومن أبرز الظواهر التي تُظهر هذا التدبير الربّاني الرياح، فهي قوّة خفيّة لا تُرى بالعين، ولكن آثارها تُدرك في كلّ مكان. في هبوب النسيم العليل، في حركة الغيوم، في تلقيح الأشجار، وفي جريان السفن في البحار. إنّها جَلوةٌ من جَلوات أمر الله في الطبيعة، تتجلّى فيها حكمته وتقديره، تُذكّر الإنسان بضعفه أمام قدرة الخالق، وتدعوه إلى الإيمان والتفكّر. والقرآن الكريم أيضا يشير إلى هذا الأمر حيث قال: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ (3). وأيضا قال: ﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَٰلِكَ النُّشُورُ ﴾ (4). فهذه الآيات الكريمة تؤكّد أنّ حركة الرياح ليست عشوائية، بل هي رسالة من الله، إمّا رحمةً تمهّد للأمطار والخير، أو عذابًا إذا جاءت عاصفة مدمّرة.
الرياح الخريفية
الخريف فصلٌ يختلف عن سائر الفصول؛ إذ يكتسي بطابعٍ خاصّ يجمع بين الجمال والحزن، بين السكون والاضطراب. تتبدّل فيه ألوان الطبيعة، فتذبل الأوراق الصفراء وتتساقط، ويهبّ النسيم بارداً يحمل معه إيحاءات الغروب والأفول.
القرآن الكريم يصوّر لنا مشاهد قريبة من أجواء الخريف، حيث تتحوّل الأرض بعد خصبها إلى قفرٍ جافّ حيث يقول: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ﴾ (5). فالاصفرار الذي يرافق الخريف والرياح التي تبعثر الأوراق الجافة صورة واضحة لمصير الإنسان، مهما بلغ من قوّة أو شباب، فإنّه سينتهي إلى الذبول والزوال.
الرياح الخريفية رسالة وجودية تحمل معاني متعدّدة. منها التذكير بالموت. فإنّ تساقط الأوراق مع هبوب الرياح مشهدٌ يشبه تساقط الأعمار. ومن هنا تذكرنا أيضا بالتوبة. فإنّ برودة الرياح المفاجئة تنبّه الإنسان أنّ الأجل قد يأتي بغتة. وإلى هذا أشار الإمام الباقر عليه السلام. فقد قال الكامل: « كنت مع أبي جعفر عليه السلام بالعريض فهبت ريح شديدة فجعل أبو جعفر عليه السلام يكبر، ثم قال: إن التكبير يرد الريح، وقال عليه السلام: ما بعث الله ريحا إلا رحمة أو عذابا » (6).
الرياح الربيعية
الربيع فصلٌ يفيض حياةً وجمالاً، تتفتّح فيه الأزهار وتخضرّ الحقول وتبتهج الطبيعة بكسوتها الجديدة. ومن أعظم ما يميّز هذا الفصل المبارك الرياح الربيعيّة، فهي ليست مجرّد نسماتٍ رقيقة تحرّك الأغصان، بل هي رسالة رحمة إلهيّة تبعث الدفء في الأبدان، والنشاط في القلوب، وتعيد للأرض حياةً بعد موات.
حين تهبّ الرياح الربيعيّة تحمل معها رطوبة وبذورًا وحبوب لقاح، فتبعث في التربة حياةً جديدة. وهذا مشهد قرآني يشير إلى البعث بعد الموت. كما يبعث نسيم الربيع النشاط في الجسد بعد قسوة الشتاء، فإنّه يوقظ القلوب من غفلتها ويمنحها طمأنينة. كثير من الشعراء شبّهوا نسيم الربيع بروحٍ تتنفّس في صدر الكون. الربيع موسم الزرع والنماء، والرياح فيه تحمل الغيوم الماطرة، فيتهيّأ الناس لمواسم حصادٍ عامرة بالخير. وبهذا قال الإمام الصادق عليه السلام حوله: « نعم الريح الجنوب تكسر البرد عن المساكين وتلقح الشجر وتسيل الأودية » (7).
النسيم في الأدب والشعر العربي
النسيم، تلك النفحة الرقيقة من الريح، لم يكن مجرّد ظاهرة طبيعيّة في وجدان العربي، بل تحوّل إلى رمز شعري وروحي يعبّر عن مشاعر متناقضة: من الحنين إلى الأوطان، ومن ذكر الحبيب إلى استدعاء ذكريات الليالي الماضية. لقد وجد الشعراء في النسيم وسيلةً للتعبير عن أشواقهم، ومركبًا ينقل رسائلهم عبر الفيافي والصحارى. فلنراجع بعض الأشعار العربية حول النسيم.
قال ظافر الحداد:
« أَلاَ يا نسيمَ الريحِ إنْ كنتَ عابِرا
على الثغرِ فاقْرِى الساحَليْن سلامي
فبالرملِ من شرقيِّه مَنْ بحُبِّه
سَرائرُ تَسْرى في أدق عظامي » (8).
وقال البرعي:
« هبَّ النسيمُ فملستْ منهُ أشجارُ
و غردتْ في بشامِ الشبحِ أطيارُ
و ضاحكَ البرقُ أزهارَ الرياضِ فمنْ
فضى ِّمذهبها نورٌ وأنوارُ » (9).
وقال بهاء الدين زهير:
« حَبَّ النَسيمُ عَليلاً
وَهُوَ النَسيمُ الصَحيحُ
وَطابَ وَقتُكَ فَاِنهَض
فَالآنَ طابَ الصَبوحُ » (10).
خلاصة المقال
الرياح ليست مجرد ظاهرة مادية، بل هي مظهر من مظاهر الحكمة الإلهية في الكون. تأتي بالرحمة حينًا وبالعقاب حينًا آخر، تحمل البشائر أو النذر، وتربط حياة الإنسان بالطبيعة ربطًا وثيقًا. ومن تأمّل في حركتها أدرك أنّ الله لم يخلق شيئًا عبثًا، بل جعل كلّ نفحة ريحٍ درسًا في الإيمان، ودعوةً للشكر، وعظةً للغافلين.
1) نهج البلاغة (للسيد الشريف الرضي) / المجلد: 1 / الصفحة: 491 / الناشر: دار الكتب اللبناني – بيروت / الطبعة: 1.
2) نهج البلاغة (للسيد الشريف الرضي) / المجلد: 1 / الصفحة: 491 / الناشر: دار الكتب اللبناني – بيروت / الطبعة: 1.
3) سورة الروم / الآية: 46.
4) سورة فاطر / الآية: 9.
5) سورة الحديد / الآية: 20.
6) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 60 / الصفحة: 6 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 2.
7) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 60 / الصفحة: 6 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 2.
8) https://www.aldiwan.net/poem14661.html
9) https://www.sh6r.com/poem/30175
10) https://www.aldiwan.net/poem42981.html
التعلیقات