رسالة الإسلام في اليوم الأغذية العالمي / حين يُصبح الخبز أمنيةً
الاسرة في الاسلام
منذ 6 ساعاتفي السادس عشر من أكتوبر من كل عام، يقف العالم وقفة تأمّلٍ في نعمةٍ كثيرًا ما نغفل عنها: نعمة الطعام. يوم الأغذية العالمي ليس مجرّد مناسبةٍ لإحصاء الجائعين، بل فرصةٌ لنتذكّر كيف يمكن للّقمة أن تكون طريقًا إلى الرحمة، والتكافل، والبركة.
في هذا اليوم، يُعيدنا الإسلام إلى جوهر رسالته الإنسانية: أن يكون الطعام وسيلةً للتقرّب إلى الله، وجسرًا للمحبّة بين الناس، وسبيلاً لتسكين جوع القلوب قبل جوع البطون.
فما أجمل أن نحتفل بنعمة الأكل ونحن نتذكّر من حُرِمها، ونمدّ أيدينا لا بالعطاء فقط، بل بالمشاركة والرحمة. العالم اليوم يتحدّث عن "الأمن الغذائي"، بينما أكثر من واحدٍ من كلّ عشرة أشخاص على وجه الأرض لا يجد ما يسدّ رمقه.
وتقول الإحصاءات الحديثة إنّ تسعة ملايين إنسان يموتون سنوياً بسبب الجوع، أي ما يقارب أربعةً وعشرين ألف شخصٍ في اليوم الواحد.
رقمٌ مرعب... كأنّ مدينةً كاملة تُمحى كلّ يومٍ لأنّها لم تجد ما تأكله!
لكنّ القرآن سبق كلّ المؤتمرات حين ذكّر أهل مكّة بنعمتين لا يُقدّران بثمن: ﴿ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴾ (1)، فالطعام ليس مجرّد رزقٍ للجسد، بل أساس الأمن والكرامة الإنسانية.
نعمة الطعام بين الشكر والنسيان
الطعام من أوّل ما يحتاج إليه الإنسان ليعيش، ولكنّه أيضاً من أسرع ما ينسى قيمته.
في حين أنّ موائدنا اليوم تزخر بما لذّ وطاب، هناك ملايين البشر يبحثون عن كسرة خبزٍ يابسة، أو عن بقايا طعامٍ في القمامة.
لقد أقرّت الأمم المتحدة عام 2021 القرار رقم 76/166 الذي يعترف بـ"الحق في الغذاء" كحقٍّ من حقوق الإنسان. كلّ دول العالم وافقت... إلاّ دولتين: الولايات المتحدة وإسرائيل.
كأنّ الجوع لا يعني شيئاً لهما، أو كأنّ حقّ الإنسان في الخبز أقلّ من حقّه في الكلام! في المقابل، كان الإسلام قبل أربعة عشر قرناً قد وضع قواعد العدالة الغذائية: أن لا يشبع أحدنا وجاره جائع، وأنّ المشاركة في الطعام من دلائل الإيمان. يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « مَن أكلَ وذو عينَين ينظر إليه ولم يُواسه، ابتُلي بداءٍ لا دواء له» (2).
وفي حديثٍ آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: « فَمَا أَقَرَّ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَ جَارُهُ الْمُسْلِمُ جَائِعٌ» (3).
كأنّ الإيمان لا يكتمل إلاّ بمشاركة اللقمة، كأنّ الجوع في بيت جارك يسرق من إيمانك شيئاً. هكذا أراد الإسلام أن يجعل من المائدة ميزاناً للرحمة، ومن الخبز امتحاناً للضمير.
المائدة المشتركة: بركة الجماعة ووحدة القلوب
في زمن الفردية والانعزال، يعيد الإسلام تذكيرنا بمعنى المائدة التي تجمع القلوب. يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « كُلوا جَميعا وَ لا تَفَرَّقوا فَاِنَّ الْبَرَكَةَ مَعَ الْجَماعَةِ » (4).
البركة لا تأتي من وفرة الطعام، بل من دفء القلوب حوله.
كم من أمٍّ تقول: لا أشعر بطعم الأكل إلاّ حين نأكل جميعاً! إنّها الحقيقة التي يغفل عنها الكثيرون: اللقمة التي تُشارك فيها أكثر لذّةً من المائدة التي تُؤكل وحيداً. ولذلك كانت المائدة في بيوت الأنبياء ليست مكاناً للشبع فقط، بل ميداناً للمحبّة.
فالإسلام لا يريد منّا أن نملأ بطوننا، بل أن نملأ قلوبنا بالرحمة، وأن نحفظ كرامة الجائع كما نحفظ كرامة أنفسنا.
الإطعام في الإسلام: طريق إلى الجنّة
من بين الأعمال التي كرّمها الإسلام، كان الإطعام في الصدارة. الإطعام في القرآن ليس تفضّلاً، بل عبادةٌ تقرّب العبد من الله. قال تعالى في وصف الأبرار: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ (5).
وفي حديث النبيّ صلى الله عليه وآله: « من أطعم ثلاثة نفر من المسلمین أطعمه الله من ثلاث جنان فی ملکوت السماوات الفردوس، وجنة عدن، وطوبى، و شجرة تخرج من جنة عدن غرسها ربنا بیده» (6).
وفي حديثٍ آخر عن الإمام زين العابدين عليه السلام: « مَنْ اَطْعَمَ مُؤمِنـا مِنْ جـُوعٍ اَطْعَمَهُ اللّه ُ مِنْ ثِمارِ الجنـَّةِ وَمـَنْ سَقى مُؤمِنـا مِنْ ظـَمَاً سَقاهُ اللّه ُ مِنَ الرَّحيقِ الْمَخَتُومِ. وَ مْـنَ كسـاه مِـن عُـرىً كساه اللّه ُ مِنْ اسْتَبْرقٍ وَ حريرٍ» (7).
أيّ كرمٍ هذا؟!
لقمةٌ واحدة قد تفتح لك باب الجنّة، وكأس ماءٍ تُروى به روحك قبل جسدك يوم القيامة. لذلك كان الأئمةُ عليهم السلام يحرصون على أن لا تُرفع موائدهم إلاّ بعد أن يُوزّع منها على الفقراء، لأنّهم يعلمون أنّ بركة الطعام في مشاركته، لا في كثرته.
حين يتحوّل الجوع إلى جريمة إنسانية
في عصر التكنولوجيا والرفاه، يموت إنسانٌ كلّ خمس ثوانٍ بسبب الجوع أو سوء التغذية.
تخيّلي... منذ بدأتِ قراءة هذا المقال، ربما مات طفلان أو ثلاثة فقط لأنّهم لم يجدوا ما يأكلون. أكثر من 800 مليون إنسان يعيشون تحت خطّ الجوع. 3مليارات شخص لا يملكون القدرة على اتّباع نظامٍ غذائيٍّ صحيّ. ثلث وفيات الأطفال في العالم سببها سوء التغذية. ويموت واحد من كلّ 12 إنساناً بسبب نقص الغذاء.
هذه ليست أرقاماً باردة، بل أرواحٌ تُزهق بصمت. كلّ لقمة نهدرها في القمامة، ربما كانت كفيلةً بإنقاذ حياة إنسانٍ في مكانٍ آخر.
من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الامتنان
نعيش اليوم في ثقافةٍ تُعلّمنا الشراء لا الشكر، والتكديس لا المشاركة. لكنّ الإسلام يدعونا إلى عكس ذلك: إلى أن نرى في كلّ لقمةٍ نعمةً تستحقّ الحمد، لا عادةً تستحقّ النسيان.
يقول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: « ما أكلتَهُ راحَ، وما أطعمْتَهُ فاحَ » (8).
أي إنّ ما أكلته زال أثره، أمّا ما أطعمته بقي في الدنيا والآخرة. ما أجمل أن يتحوّل طعامك إلى أثرٍ طيّب، إلى ذكرى باقية، إلى دعوةٍ مستجابة من قلبٍ شبع بعد جوع.
في ظلّ الجوع العالمي: مسؤولية الإنسان المؤمن
لا يمكننا أن نغيّر العالم في يومٍ واحد، لكن يمكن لكلّ واحدٍ منّا أن يبدأ من نفسه ومن مائدته. أن نُقلّل الهدر في بيوتنا. وأن نُشرك الآخرين في طعامنا.
حين نعلّم أبناءنا أن يشكروا الله قبل الأكل وبعده، وأن يُفكّروا في من لا يجد ما يأكل، نكون قد زرعنا فيهم إنسانيةً تظلّ تنمو مدى العمر.
الخاتمة: المائدة التي تُنقذ العالم
أيّها القارئة الكريمة…
ليست المشكلة في قلّة الطعام في الأرض، بل في قلّة الرحمة في القلوب. فحين يغيب الشعور بالجائع، تفقد اللقمة معناها، وتتحوّل النعمة إلى نقمة.
فربّ لقمةٍ صغيرةٍ تُنقذ حياة إنسان، وربّ لقمةٍ مهملةٍ تُفقدنا البركة كلّها.
﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ (9)
فلنحدّث بنعمة الله على موائدنا… بالمشاركة، بالرحمة، وبالامتنان.
فهذا هو معنى الإيمان الحقيقيّ: أن تشبع وأنت تفكّر بالجائع.
1. قريش : 4.
2. تنبيه الخواطر و نزهة النواظر / ورّام بن أبي فراس / المجلد : 1 / الصفحة : 47.
3. الأمالي / الشيخ الطوسي / دار الثقافة / المجلد : 1 / الصفحة : 520.
4. بحارالأنوار/العلامة المجلسي / المجلد: 66 / الصفحة: 349.
5. الانسان : 8.
6. اصول الكافي / الكليني / المجلد: 2 /
7. اصول الكافي / الكليني/ المجلد: 3 / الصفحة:288.
8. غرر الحكم : 9634 .
9. الضحى : 9 ـ 11.
التعلیقات