اليوم العالميّ للقضاء على الفقر / الصبر والكرامة في زمن الضيق
السيد حسين الهاشمي
منذ ساعةلقد علّمنا القرآن الكريم أنّ الصبر مفتاح الفرج، وأنّ في طيّات الضيق أبوابًا من الرحمة لا تُفتح إلا لمن وثق بالله وتوكّل عليه. كما أنّ الكرامة، في منطق الإيمان، لا تُقاس بما يملك الإنسان من مالٍ أو جاه، بل بما يملكه من عزّةٍ نفسٍ وإباءٍ أمام قسوة الحياة. فكم من فقيرٍ عاش مرفوع الرأس، غنيًّا بروحه وإيمانه، وكم من مُترفٍ ضاع في زينة الدنيا وفقد كرامته أمام أول اختبارٍ للشدّة. في اليوم العالميّ للقضاء على الفقر، تتجدّد في الأذهان معاني الصبر والكرامة في زمن الضيق، وتُستحضر قصص أولئك الذين واجهوا العسر بثباتٍ وإيمان، فلم يسمحوا للفقر أن ينتزع منهم إنسانيّتهم أو يُطفئ نور الأمل في قلوبهم. إنّ الحديث عن الصبر والكرامة ليس ترفًا فكريًّا، بل هو حديث عن روحٍ تُقاوم، وعن قلبٍ يثبت رغم العواصف، وعن إنسانٍ يرى في البلاء مدرسةً لصقل النفس وتهذيبها.
وفي هذا اليوم العالمي، تدعونا القيم الإيمانيّة إلى أن ننظر إلى الفقر لا كوصمةٍ اجتماعيّة، بل كمسؤوليّةٍ إنسانيّة تُحتّم علينا جميعًا مدَّ يد العون، وإحياء الأمل في نفوس المتعبين، وتعلّم معنى الصبر الكريم الذي يُزهر كرامةً وثقةً بوعد الله: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ (1).
الإيمان والصبر منقذ الإنسان من مهانة الفقر
في زمنٍ تتكاثر فيه التحدّيات وتضيق فيه سبل العيش، يقف الإنسان بين خيارين: أن ينهزم أمام قسوة الفقر فيُفقد ذاته، أو أن يتسلّح بالإيمان والصبر وعزّة النفس، فيحوّل الضيق إلى مدرسةٍ للسموّ والكرامة. إنّ الفقر، في حقيقته، ليس عيبًا ولا نقيصةً، بل امتحانٌ من الله تعالى ليرى كيف يثبت المؤمن أمام حرمانٍ يَصقُل روحه ويُصفّي قلبه. فقد قال الله تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ (2). وأيضا قال الله تعالى حول أموال الدنيا والصبر: ﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ (3).
الإيمان هو القوة الخفيّة التي تمنح الفقير طمأنينةً لا يشتريها الأغنياء. فمن يؤمن بأنّ الرزق بيد الله، لا يذلّ نفسه لخلقٍ من خلقه، ولا يبيع كرامته بثمنٍ بخس. ففي هذا أنشد الإمام الحسين عليه السلام وهو في طريقه إلى كربلاء:
« وإن كانت الأرزاق شيئا مقدّرا
فقلة سعي المرء في الرزق أجمل
وإن كانت الأموال للترك جمعها
فما بال متروك به المرء يبخل » (4).
إنّ المؤمن الحقيقي يرى في الفقر ساحة اختبارٍ لعلاقته بالله، لا ميدانًا للهوان، فيسكن قلبه يقينٌ بأنّ ما عند الله خيرٌ وأبقى، وأنّ خزائن الرحمة لا تُغلق أبدًا في وجه من صدق التوكّل والرضا. ففي هذا قال الله تعالى في كتابه الحكيم: ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ (5).
الصبر ليس مجرّد احتمالٍ للألم، بل هو وعيٌ راقٍ يجعل الإنسان يرى وراء العسر حكمةً ورحمة. الصابر لا يُكسر، لأنّه يُدرك أنّ البلاء لا يدوم، وأنّ الله لا ينسى عباده. في صبره سكونٌ وإباء، وفي دمعه نورُ يقينٍ يُطفئ نار الفقد. فقد روي عن الإمام الباقر عليه السلام: « قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: عَجَباً لِلْمُؤْمِنِ إِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ لاَ يَقْضِي لَهُ قَضَاءً إِلاَّ كَانَ لَهُ خَيْراً إِنِ اُبْتُلِيَ صَبَرَ وَ إِنْ أُعْطِيَ شَكَرَ » (6).
الفقر والصبر في القرآن الكريم
لم يصف القرآن الفقر بالذلّ أو النقص، بل جعله حالةً من البلاء الذي يطهّر القلب من التعلّق بالدنيا. فالفقر قد يكون طريقًا إلى الصفاء الروحي، حين يُعلّم الإنسان معنى الرضا والزهد والتوكّل. وأيضا من الأمور التي ذكرت في القرآن أن الفقر والمصيبة من الإبتلائات والامتحانات الإلهية. فقد قال الله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ (7). فالفقر من الابتلائات الإلهية في حق المؤمن. فإذا صبر المؤمن ولم يجزع ولم يكفر بالله، يبارك له الله تعالى حيث قال: ﴿ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ (8).
يُعلّمنا القرآن أن لا نغترّ بالغنى ولا نيأس من الفقر، لأنّ كلاهما وجهان لابتلاءٍ واحد، وميدانان لاختبار الإيمان. فقد قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾ (9). هذه الآيات تُفنّد وهمًا بشريًّا خطيرًا: أن الغنى دليل الكرامة والفقر دليل الإهانة. وهذا ليس بالأمر الصحيح. بل إنّ الله يبتلي هذا بالعطاء، وذاك بالمنع، ليختبر شكر الأول وصبر الثاني. فيجب أن يعلم كلا القسمين أنه من الواجب أن نشكر الخالق الرازق في جميع الأحوال وهذا يسبب كثرة الرزق والبركة. فقد قال تعالى: ﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ (10).
أجر الصبر على الفقر والمشكلات
حينما نراجع الروايات الشريفة، نرى أن أجر الصابر على الفقر والفاقة، أجر كبير. فلنذكر البعض منها.
ثلاث خصال مخصوصات
روي أنه قال الفقراء لرسول الله صلى الله عليه وآله: « إِنَّ اَلْأَغْنِيَاءَ ذَهَبُوا بِالْجَنَّةِ يَحُجُّونَ وَ يَعْتَمِرُونَ وَ يَتَصَدَّقُونَ وَ لاَ نَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِنَّ مَنْ صَبَرَ وَ اِحْتَسَبَ مِنْكُمْ تَكُنْ لَهُ ثَلاَثُ خِصَالٍ لَيْسَ لِلْأَغْنِيَاءِ، أَحَدُهَا أَنَّ فِي اَلْجَنَّةِ غُرَفاً يَنْظُرُ إِلَيْهَا أَهْلُ اَلْجَنَّةِ كَمَا يَنْظُرُ أَهْلُ اَلْأَرْضِ إِلَى نُجُومِ اَلسَّمَاءِ لاَ يَدْخُلُهَا إِلاَّ نَبِيٌّ فَقِيرٌ أَوْ شَهِيدٌ فَقِيرٌ أَوْ مُؤْمِنٌ فَقِيرٌ. وَ ثَانِيهَا يَدْخُلُ اَلْفُقَرَاءُ اَلْجَنَّةَ قَبْلَ اَلْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَ ثَالِثُهَا إِذَا قَالَ اَلْغَنِيُّ سُبْحَانَ اَللَّهِ وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ وَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ وَ اَللَّهُ أَكْبَرُ وَ قَالَ اَلْفَقِيرُ مِثْلَ ذَلِكَ لَمْ يَلْحَقِ اَلْغَنِيُّ اَلْفَقِيرَ وَ إِنْ أَنْفَقَ فِيهَا عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ وَ كَذَلِكَ أَعْمَالُ اَلْبِرِّ كُلُّهَا. فَقَالُوا رَضِينَا » (11).
1. ملوك أهل الجنة
قال عليه السلام: « اَلْفُقَرَاءُ مُلُوكُ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ وَ اَلنَّاسُ كُلُّهُمْ مُشْتَاقُونَ إِلَى اَلْجَنَّةِ وَ اَلْجَنَّةُ مُشْتَاقَةٌ إِلَى اَلْفُقَرَاءِ » (12).
2. الشفاعة والرزق الكثير
قال الإمام الصادق عليه السلام في رواية عجيبة تُظهر مدى فضل الفقراء عند الله تعالى يوم القيامة حيث قال : « إِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَلْتَفِتُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِلَى فُقَرَاءِ اَلْمُؤْمِنِينَ شَبِيهاً بِالْمُعْتَذِرِ إِلَيْهِمْ فَيَقُولُ وَ عِزَّتِي وَ جَلاَلِي مَا أَفْقَرْتُكُمْ فِي اَلدُّنْيَا مِنْ هَوَانٍ بِكُمْ عَلَيَّ وَ لَتَرَوُنَّ مَا أَصْنَعُ بِكُمُ اَلْيَوْمَ فَمَنْ زَوَّدَ أَحَداً مِنْكُمْ فِي دَارِ اَلدُّنْيَا مَعْرُوفاً فَخُذُوا بِيَدِهِ فَأَدْخِلُوهُ اَلْجَنَّةَ قَالَ فَيَقُولُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يَا رَبِّ إِنَّ أَهْلَ اَلدُّنْيَا تَنَافَسُوا فِي دُنْيَاهُمْ فَنَكَحُوا اَلنِّسَاءَ وَ لَبِسُوا اَلثِّيَابَ اَللَّيِّنَةَ وَ أَكَلُوا اَلطَّعَامَ وَ سَكَنُوا اَلدُّورَ وَ رَكِبُوا اَلْمَشْهُورَ مِنَ اَلدَّوَابِّ فَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُمْ فَيَقُولُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى لَكَ وَ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْكُمْ مِثْلُ مَا أَعْطَيْتُ أَهْلَ اَلدُّنْيَا مُنْذُ كَانَتِ اَلدُّنْيَا إِلَى أَنِ اِنْقَضَتِ اَلدُّنْيَا سَبْعُونَ ضِعْفاً » (13).
3. النجاة من المسألة في القبر
روى أبي سيار عن الإمام الصادق عليه السلام: « إِذَا دَخَلَ اَلْمُؤْمِنُ قَبْرَهُ كَانَتِ اَلصَّلاَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَ اَلزَّكَاةُ عَنْ يَسَارِهِ وَ اَلْبِرُّ مُطِلٌّ عَلَيْهِ وَ يَتَنَحَّى اَلصَّبْرُ نَاحِيَةً فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ اَلْمَلَكَانِ اَللَّذَانِ يَلِيَانِ مُسَاءَلَتَهُ قَالَ اَلصَّبْرُ لِلصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ وَ اَلْبِرِّ دُونَكُمْ صَاحِبَكُمْ فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْهُ فَأَنَا دُونَهُ » (14).
الصبر مفتاح النعم
إن الصبر مفتاح النعم والنجاح في الأمور المهمة. فأفضل عمل يمكن للفقير أن يفعله هو الصبر في الله. وهذا الأمر ينفعه في جلب الرزق. فقد روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام: « لِكُلِّ نِعْمَةٍ مِفْتاحٌ وَمِغْلاقٌ وَمِفتاحُهَا الصَّبْرُ وَمِغلاقُها الْكَسَلْ » (15).
كانت هذه جملةً من الأمور المتعلقة بالفقر والصبر عليه، ونسأل الله تعالى أن يعجّل في فرج إمامنا صاحب العصر والزمان أرواحنا فداه، ليزول فقر المؤمنين في خيرٍ وعافيةٍ من دينهم.
1) سورة الشرح / الآية: 5 و 6.
2) سورة الأحقاف / الآية: 35.
3) سورة النحل / الآية: 96.
4) إحقاق الحق وإزهاق الباطل (للسيد نور الدين المرعشي التستريس) / المجلد: 33 / الصفحة: 620 / الناشر: مكتبة آية الله المرعشي النجفي – قم / الطبعة: 1.
5) سورة الطلاق / الآية: 2 و 3.
6) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 67 / الصفحة: 184 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 2.
7) سورة البقرة / الآية: 155.
8) سورة البقرة / الآية: 157.
9) سورة الفجر / الآية: 15 و 16.
10) سورة ابراهيم / الآية: 7.
11) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 69 / الصفحة: 48 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 2.
12) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 69 / الصفحة: 49 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 2.
13) الكافي (لمحمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: 2 / الصفحة: 261 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: 5.
14) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 68 / الصفحة: 72 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 2.
15) شرح نهج البلاغة (لإبن أبي الحديد) / المجلد: 20 / الصفحة: 322 / الناشر: دار إحياء الكتب العربية – بيروت / الطبعة: 1.
التعلیقات