عائشة وخروجها يوم الجمل
الشيخ مهدي المجاهد
منذ ساعةفي تاريخ الأمة الإسلامية صفحات مؤلمة تحمل بين سطورها دروساً بالغة العبرة، ومن أبرزها خروج عائشة بنت أبي بكر، زوجة النبيّ صلى الله عليه وآله، راكبة الجمل في معركة الجمل، تلك الحادثة التي شكّلت انحرافاً خطيراً عن وصايا النبيّ الأكرم لنسائه، وتحذيره لهنّ من الدخول في الفتنة. فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله قوله لنسائه: « كأني بإحداكنّ تنبحها كلاب الحوأب »، وحذّر عائشة بالخصوص من أن تكون هي المقصودة. ومع ذلك، لم تعتبر من كلام النبيّ صلى الله عليه وآله، ولا من نصائح الصالحين من الصحابة كأمّ سلمة التي كتبت إليها ناصحةً أن تلزم بيتها، إذ كانت تعلم أنّ الخروج إلى البصرة خروجٌ على وصيّ رسول الله وإمام زمانها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. وهكذا دوّنت كتب التاريخ مواقفها وردودها على تلك النصائح، لتبقى هذه الحادثة عبرة لكلّ من يتجاوز حدود الله ويتقدّم على إمام زمانه بغير علمٍ ولا هدى.
رسالة أم المؤمنين أم سلمة إلى عائشة
فقد كتبت ام سلمة الى عائشة عندما عزمت على الخروج الى البصر.
« من أم سلمة زوج النبي صلّى اللّه عليه و سلم، إلى عائشة أم المؤمنين: فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد، إنك سدّة بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أمته، و حجاب مضروب على حرمته، قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه (1) و سكّر خفارتك فلا تبتذليها. فاللّه من وراء هذه الأمة، و لو علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أن النساء يحتملن الجهاد عهد إليك، أ ما علمت أنه قد نهاك عن الفراطة (2) في البلاد فإن عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال، و لا يرأب بهن إن انصدع؟ جهاد النساء؛ غضن الأطراف، و ضم الذيول، و قصر الوهازة. ما كنت قائلة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لو عارضك ببعض هذه الفلوات ناصّة (3) قعودا من منهل إلى منهل؟ و غدا تردين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم؛ و أقسم لو قيل لي: يا أمّ سلمة ادخلي الجنة لاستحييت أن ألقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم هاتكة حجابا ضربه عليّ فاجعليه سترك، و وقاعة البيت حصنك؛ فإنك أنصح ما تكونين لهذه الأمة ما قعدت عن نصرتهم؛ و لو أني حدثتك بحديث سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لنهشتني نهش الرقشاء (4) المطرقة و السلام ».
رد عائشة على امّ سلمة
فأجابتها عائشة :من عائشة ام المؤمنين الى ام سلمة :
« من عائشة أم المؤمنين إلى أم سلمة، سلام عليك، فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد، فما أقبلني لوعظك، و أعرفني لحق نصيحتك، و ما أنا بمعتمرة بعد تعريج، و لنعم المطلع مطلع فرقت فيه بين فئتين متشاجرتين من المسلمين، فإن أقعد ففي غير حرج، و إن أمض فإلى ما لا غنى بي عن الازدياد منه، و السلام » (5).
كتاب الاشتر الى عائشة
وكتب الاشتر من المدينة الى عائشة ، وهي بمكة :
« اما بعد : فأنّكِ ضعينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد أمرك ان تقري في بيتك ، فإنّ فعلتِ فهو خير لك ، وإن ابيتِ الا ان تأخذي فسأتك ، وتلقي جلبابك ، وتبدُ للناس شُعيراتك ، فأقاتلك حتى أردك الى بيتك ، والموضع الذي يرضاه لك ربُّكِ ».
ردُّ عائشة على الاشتر
فكتبت إليه في الجواب :« اما بعدُ : فإنّك أوّل العرب شبَّ الفتنة ، ودعا الى الفرقة ، وخالف الائمة ، وسعر في قتل الخليفة ، وقد علمت إنّك لن تعجز الله حتى يُصيبك منه بنقمة ينتصر بها منك للخليفة المظلوم ، وقد جاءني كتابك ، وفهمت ما فيه ، وسيكفينك الله ، وكان من اصبح مماثلاً لك في ضلالك وغيّك ، ان شاء الله » (6).
كتاب عائشة الى زيد بن صوحان
وكتبت عائشة الى زيد بن صوحان العبدي ، إذ قدمت البصرة.
من عائشة ابنة ابي بكر ام المؤمنين حبيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى ابنها الخالص زيد بن صوحان.
« سلام عليك ، اما بعدُ : فإنّ اباك كان رأساً في الجاهلية ، وسيداً في الاسلام ، وإنّك من ابيك بمنزلة المصلى من السابق ، يقال : كادَ أو لحِق ، وقد بلغك الذي كان في الاسلام من مصاب عثمان بن عفان ، ونحن قادمون عليك ، والعيان اشفى لك من الخبر ، فإذا أتاك كتابي هذا ، فاقدم فانصرنا على أمرنا هذا ، فإنّ لم تفعل فثبّط الناس عن عليّ بن ابي طالب ، وكن مكانك حتى يأتيك أمري ، والسلام ».
ردُّ زيد بن صوحان على عائشة
فكتب إليها زيد :من زيد بن صوحان الى عائشة ام المؤمنين :
« سلام عليك ، اما بعدُ : فأنّ الله امركِ بأمرٍ وأمرنا بأمرٍ :أمرك أن تقرّي في بيتك ، وأمرنا ان نقاتل الناس حتى لا تكون فتنة ، فتركت ما امرتِ به ، وكتبتِ تنهينا عمّا امرنا به ، فأمرك عندنا غير مطاع ، وكتابك غير مجاب ، والسلام » (7).
كتاب عائشة الى حفصة
ولما بلغ عائشة نزول أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار ، كتبت الى حفصة بنت عمر :
« اما بعد ؛ فإنا نزلنا البصرة ونزل عليّ بذي قار ، والله داقّ عُنقهُ كدق البيضة على الصفا ، إنه بمنزلة الاشقر (8)، إن تقدّم نحر وان تأخّر عُقِرَ ».
فلما وصل الكتاب الى حفصة استبشرت بذلك ودعت صبيان بني تيم وعدي واعطت جواريها دفوفاً وأمرتهن ان يضربن بالدفوف ، ويقلن : ما الخبر ما الخبر ؟ عليّ كالاشقر بذي قار، إنْ تقدّم نحر وإن تأخّر عقر. فبلغ أم سلمة رضي الله عنها اجتماع النسوة على ما اجتمعن عليه من سبّ امير المؤمنين عليهالسلام ، والمسرة بالكتاب الوارد عليهنّ من عائشة ، فبكت وقالت : اعطوني ثيابي حتى أخرج إليهن واقع بهنّ. فقالت أم كلثوم بنت امير المؤمنين عليه السلام : أنا أنوبُ عنك فأنني أعرَفُ منك ، فلبست ثيابها وتنكرت وتخفرت واستصحبت جواريها متخفرات ، وجاءت حتى دخلت عليهنّ كأنها من النضارة ، فلما رأت ما هُنّ فيه من العَبثِ والسَفَهِ ، كشفت نقابها وابرزت لهنّ وجهها ، ثمّ قالت لحَفصة : إنْ تظاهرت انتِ وأختُكِ على امير المؤمنين عليهالسلام فقد تظاهرتا على اخيه رسول الله صلى الله عليه وآله من قبل ، فأنزل الله عزّوجلّ فيكما ما أنزلَ ، والله من وراء حربكما ، فأنكرت حفصة وأظهرت خجلاً ، وقالت : إنهنّ فعلنَ هذا بجهلٍ ، وفرقتهُنَّ في الحال (9).
عائشةُ أمّ المؤمنين تنبحها كِلابُ الحوأبِ
لقد حذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نساءه من بعده ، في اظهار الخلاف والولوج في الفتنةِ التي اخبر بها صلى الله عليه وآله وسلم وسمى القائمين بها بالناكثين وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الحادثة ضمن ذكره لكثير من انباء الغيب الذي اوصى الله تعالى به لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاء هذا التحذير في جمعٍ من نسائه ، ففي رواية عصام بن قدامة البجلي ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنسائه : « ليتَ شِعْري أيَّتُكنَّ صاحبة الجَملِ الأَدبَب، تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب ، يُقتلُ عن يَمينها وشِمالها خَلقٌ كثيرٌ ، كُلُّهم في النار ، وتنجُو بعد ما كادَتْ » (10).
وفي حديث آخر فيما قال صلى الله عليه وآله وسلم لنسائه ، ثمّ اردفه بتحذير شديد الى عائشة :
« كأني بأحداكن وقد نبحتها كلاب الحوأب » ثمّ قال لعائشة : « اياك ان تكونيها » ومرة اخرى يصرّح صلى الله عليه وآله وسلم باسمها علناً كما جاء في رواية عليّ بن مُسهر ، عن هشام بن عُرْوة ، عن ابيه ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « يا عائشة إنّي رأيتك في المنام مرتين ، أرى جملاً يحملك في سدافة (11) من حرير ، فأكشفها فإذا هي انت » (12).
كان النبيّ صلى الله عليه وآله قد نهى عائشة عن ركوب عسكر
ولمّا عزمت عائشة على الخروج إلى البصرة طلبوا لها بعيراً أيّداً يحمل هودجها فجاءهم يعلى بن أمية ببعير يسمّى عسكراً وكان عظيم الخلق شديداً فلمّا رأته أعجبها وأنشأ الجمال يحدثها بقوّته وشدّته ويقول في أثناء كلامه « عسكر » فلمّا سمعت هذه اللفظة استرجعت وقالت : ردّوه لا حاجة لي فيه وذكرت حيث سئلت أن رسول الله صلى الله عليه وآله ذكر لها هذا الإِسم ونهاها عن ركوبه وأمرت أن يطلب لها غيره فلم يوجد لها ما يشبهه فغيّر لها بجلال غير جلاله وقيل لها : قد أصبنا لك أعظم منه خلقاً وأشدّ منه قوّةً وأتيت به فرضيت !!! (13).
وهكذا، لم تكن عائشة ممن اعتبروا بنصيحة أمّ سلمة، ولا ممن توقّفوا عند نهي النبيّ صلى الله عليه وآله عن الفتنة، ولا ممن وقروا في بيوتهم كما أمرهم الله. فخرجت راكبة الجمل الذي سُمّي "عسكر"، وقد أخبرها رسول الله من قبل أن لا تركبه، ووقفت في وجه الإمام عليّ عليه السلام، إمام زمانها، الذي كانت طاعته واجبة بنصّ الكتاب والسنة. وبعد كلّ ما جرى، يحقّ لنا أن نسأل: من كان إمام زمان عائشة؟ وهل ماتت وهي تابعة لإمامها أم خارجة عليه؟
إنّ من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية، كما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله، وإنّ في هذا القول فصل الخطاب لمن أراد أن يتّعظ. تبقى معركة الجمل درساً خالداً يذكّرنا بخطورة مخالفة الإمام الحقّ، وأنّ النجاة لا تكون إلا بالثبات على ولاية أمير المؤمنين وأهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.
1. فلا تندحيه: أي لا توسعيه بخروجك إلى البصرة.
2. الفراطة: التقدم.
3. أي أن تستخرج من الناقة أقصى سيرها.
4. الرقشاء: الحية لرقشة جلدها.
5. العقد الفريد / ابن عبد ربه / المجلّد : 5 / الصفحة : 66.
6. وقعة الجمل / ضامن بن شدقم الحسيني المدني / المجلّد : 1 / الصفحة : 30 ؛ عن شرح نهج البلاغة / المجلّد 2 / الصفحة : 80.
7. العقد الفريد / ابن عبد ربه / المجلّد : 5 / الصفحة : 67.
8. هذا مثل يضرب لمن وقع بين شرين لا ينجو من احدهما ، وأول من قال به لقيط بن زرارة يوم جبلة ، وكان على فرس له أشقر.
9. الجمل / الشيخ المفيد / المجلّد : 1 / الصفحة : 150.
10. الكافئة في إبطال توبة الخاطئة / الشيخ المفيد / المجلّد : 1 / الصفحة : 37؛ لقد روي حديث « كلاب الحوأب» في كثير من المصادر الشيعة والسنة مع بعض الاختلاف في اللفظ.
11. السدافة : الحجاب والستر.
12. وقعة الجمل / ضامن بن شدقم الحسيني المدني / المجلّد : 1 / الصفحة : 42.
13. بحار الأنوار / العلامة المجلسي / المجلّد : ۳۲ / الصفحة : ۱۳۸ / الناشر : مؤسسة الوفاء.








التعلیقات