العيون مصائد الشيطان
المرأة والاسلام
منذ ساعةعينٌ طاهرة
في زمنٍ امتلأت فيه الشاشاتُ بالمشاهدِ والصور، وأصبحَ النظرُ العابرُ سببًا لانشغالِ القلب، تحتاجُ المرأةُ المسلمةُ اليوم إلى وقفةٍ مع نفسها لتعيدَ التوازن بين البصرِ والبصيرة. هذا المقالُ يقدّمُ دروسًا عمليّةً من نورِ القرآنِ والسنّة، ومن سيرةِ الأنبياءِ عليهم السلام، ليذكّرنا بأنّ العفّةَ في النظرِ ليست تقييدًا، بل حمايةٌ للروحِ والكرامة.
سنتعلّمُ كيف نحفظُ أبصارَنا في زمنِ الانفتاح، وكيف يكونُ ضبطُ النظرِ طريقًا إلى صفاءِ القلب، وزيادةِ الإيمان، وثقةِ النفس، وجمالِ المرأةِ الحقيقي.
العِفّة في النَّظَر
العينُ من أعظمِ نِعَمِ الله على الإنسان، ومن حُكمِ العقل أن يشكر الإنسانُ ربَّه على نِعَمِه. والشكرُ لا يقتصرُ على الكلماتِ فقط، بل لكلِّ نعمةٍ شكرٌ عمليٌّ أيضًا، وهو استعمالُها في طاعةِ الله، وعدمُ استخدامها في معصيتِه.
فمَن استعمل نِعَمَ الله في غيرِ ما خُلقت له، جرَّ على نفسهِ وعلى المجتمعِ الفسادَ والانحراف. وشكرُ العينِ العملي هو أن يصونها الإنسانُ عن الحرام، ويبتعدَ بها عن الآفات.
مراتب الشكر في ضوء القرآن الكريم
لفظة الشكر ومشتقاتها وردت في القرآن الكريم خمساً وسبعين مرّة والشكر فضيلة أخلاقية يؤيّدها العقل والعقلاء؛ فكلّ إنسان، بحكم عقله، يدرك أنّه ينبغي أن يشكر من قدّم له معروفاً أو أنعم عليه بنعمة.
والشكر هو معرفة النعمة من المُنعِم وصرفها في الطريق الذي يرضاه. ومن هذا التعريف يتّضح أنّ الشكر من أسمى الأعمال الإنسانية وأعظمها فضلاً.
الشكر له ثلاث مراتب:
الشكر بالقلب: وهو تصوّر النعمة والرضا بها؛
الشكر باللسان: وهو الثناء على المنعِم وذكر فضله؛
الشكر بالجوارح: وهو استعمال النعمة في طريق الخير والحق.
ومن ثمّ، فحقيقة الشكر ليست مجرّد قول "الحمد لله" أو الشكر باللسان، بل تبدأ بالتأمّل في النعمة والتفكّر في مَن أنعم بها، وهذه المعرفة والإيمان هما الأساس الأوّل للشكر، ثم يأتي الشكر اللساني، وأخيراً الشكر العملي، وهو أصعب المراتب.
قال الإمام الصادق عليه السلام: « أدنى الشكر رؤية النعمة من اللّه من غير علة يتعلق القلب بها دون اللّه، و الرضا بما أعطاه، و أن لا تعصيه بنعمته، و تخالفه بشيء من أمره و نهيه بسبب نعمته » (1).
إنّ العين والأذن هما بوّابة القلب، وما يدخل من هاتين البوابتين يصل إلى القلب ويؤثّر فيه إيجاباً أو سلباً. فالقلب في تفكّره وفهمه وإدراكه محتاج إلى العين والأذن وسائر الحواس. كما قال أميرالمؤمنين: « الْقَلْبُ مُصْحَفُ الْبَصَرِ » (2).
وحاسّتا البصر والسمع ترتبطان ارتباطاً مباشراً بالقلب والروح الإنسانية، ولذلك ذكر الله في آياتٍ عدّة ختم القلوب والآذان والأبصار، كما في قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ (3).
وفي موضع آخر قال: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ (4).
إذن فالعين والأذن والقلب من أعظم النِّعَم وأثمنها، وهي في الوقت نفسه وسيلةٌ لشكر الله تعالى. فليكن حمدُنا وامتنانُنا على هذه النعم خالصاً وصادقاً، لعلّنا نكون من الشاكرين حقّاً.
آفاتِ العينِ
ومن أخطرِ آفاتِ العينِ التي تُضعِفُ العفّةَ: التطلّعُ إلى ما يُثيرُ الشهوةَ والنظرُ إلى المناظرِ المحرّمة. قال الإمامُ عليٌّ عليه السلام: « العيونُ مصائدُ الشيطان » (5)؛ أي إنّ الشيطانَ يصطادُ الإنسانَ من طريقِ بصرِه. وهذه المصيدةُ ليست بالأمرِ السهلِ التخلّصِ منها، لذلك على الإنسانِ أن يحتاطَ قبل أن يقعَ في الفخّ.
العينُ هي أحدُ أهمِّ المنافذِ إلى القلب؛ فكلُّ ما يدخلُ منها يؤثّرُ في القلبِ مباشرةً، فيُحبُّ أو يكره، ويَميلُ أو يَنفِر. لذا على الإنسان أن ينتبهَ إلى ما يُدخلهُ إلى قلبِه من طريقِ بصرِه، لأنّ ما يترسّخُ في القلبِ يصعبُ إزالتهُ لاحقًا، والتخلّصُ منه أمرٌ شاقّ.
حِكايةٌ مُعَبِّرَة
عن أبي جعفر عليه السلام، قال: « استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة، و كان النساء يتقنعن خلف آذانهن، فنظر إليها و هي مقبلة، فلما جازت نظر إليها، و دخل في زقاق قد سماه ببني فلان، فجعل ينظر خلفها، و اعترض وجهه عظم في الحائط، أو زجاجة، فشق وجهه، فلما مضت المرأة، نظر فإذا الدماء تسيل على صدره و ثوبه، فقال: و الله لآتين رسول الله صلى الله عليه و آله، و لأخبرنه. قال: فأتاه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و آله، قال له: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرئيل عليه السلام بهذه الآية: ﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ (6).
نزلت الآيةُ التاليةُ موجَّهةً إلى النساء، كما سبقتها آيةٌ للرجال؛ ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ (7).
ففي هاتين الآيتين يأمرُ اللهُ تعالى المؤمنين والمؤمناتِ جميعًا أن يغضّوا أبصارَهم ويحفظوا عفّتَهم.
وكلمة «غَضّ» تعني النقصَ أو الخفضَ؛ أي أن يُنقِصَ الإنسانُ من نظرِه عند اللقاء بغيرِ المحارم، فيغضَّ بصرَه ولا يُحدِّق بعينيه نظرًا مباشرًا أو طويلًا في وجوهِهم.
وفي موضعٍ آخر من القرآن، يذكُر اللهُ تعالى على لسانِ إحدى بنتَي شعيبٍ عليه السلام فضيلةَ الأمانة في النظر، فتقول: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ (8).
الأمانةُ عادةً تُطلَق على حفظِ الأموال، لكنّ معناها في القرآن أوسعُ من ذلك، فهي تشملُ كلَّ نواحي الحياةِ الأخلاقية والاجتماعية والسياسية. وفي هذه الآية يُمدَحُ نبيُّ الله موسى عليه السلام لِما كان عليه من الأمانة في السلوك، خصوصًا في أمانة النظر.
فعندما عرضت صفورا بنتُ شعيب على أبيها أن يستأجرَ موسى عليه السلام، سألها شعيب: كيف عرفتِ أنّه أمين؟ قالت: رأيتُه قويًّا حين استقى لنا الماء وحدَه، وأمينًا حين قال لي: امشي خلفي ودُلّيني على الطريق، لأنّي من قومٍ لا ينظرون إلى ظهور النساء. فعرفتُ أنّه رجلٌ عفيفٌ أمين.
وفي آيةٍ أخرى يُحذّر اللهُ من خيانةِ العين فيقول: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ (9).
ومعنى «خائنةِ الأعين» هو نظرةُ الخيانة، أي سرقةُ النظرِ إلى ما لا يحلّ للإنسان أن يراه. فمَن يؤمنُ بأنّ اللهَ سيحاسبه حتى على نظراتِه يوم القيامة، تنشأُ في نفسهِ درجةٌ عاليةٌ من التقوى والعفّة، تحفظُ له طهارةَ بصرِه وسلامةَ قلبِه.
ينبغي أن نتذكّرَ أنّ العينَ بمثابةِ رقيبِ العقل ورسولِ القلب؛ فما تراه العينُ تُرسلهُ إلى الدماغ، فيتحرّكُ الجسدُ استجابةً لما وُقِع في القلب من أثر. وربما لهذا قال الإمامُ الصادق عليه السلام: (النَّظْرَةُ بَعْدَ النَّظْرَةِ تَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ الشَّهْوَةَ وَ كَفَى بِهَا لِصَاحِبِهَا فِتْنَةً) (10) أي إنّ تكرارَ النظرِ يُنشئُ في النفسِ ميلاً وشهوةً تكفي لتُضِلّ الإنسانَ عن طريقِ العفّة.
إذًا، فإنَّ النظرَ من المسائلِ المهمّة التي قد يؤدّي الإهمالُ فيها إلى كثيرٍ من المفاسد والانحرافات.
وليس هذا التعليمُ خاصًّا بالإسلام وحده، بل وُجِدَتْ أيضًا في المسيحية تعاليمُ تدعو إلى العفّة والطهارة، وتنهى عن التطلّع المحرَّم.
قال النبيّ عيسى عليه السلام لتلاميذه: « فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ » (11).
والمقصودُ من كلمة «اقلعها» ليس معناها الحرفي، أي قلعُ العين أو إفسادُها، بل هو تعبيرٌ بليغٌ عن شدّةِ التحذير وغايةِ التأكيد على ضرورة حفظِ البصر والعفّة في النظر. ويتّضحُ هذا المعنى أكثر في تتمّةِ الكلام، حيثُ يُحذِّرُ السيّدُ المسيحُ من عواقبِ النظراتِ الشهوانيّة وما تجرّه من فتنةٍ وفساد.
الخاتمة
العفّةُ في النظرِ ليست أمراً قديماً يخصّ الماضي، بل هي رسالةُ وعيٍ للمرأةِ المعاصرة، لتعيشَ بنقاءٍ داخليّ وسطَ ضوضاءِ الصورِ والمغريات.
فلنبدأ من اليوم بتدريبِ أنفسِنا على «غضّ البصر»، ولو بخطواتٍ صغيرة:
أن نختارَ ما نشاهد، أن نغلقَ ما يفسدُ قلوبَنا، وأن نتذكّر دائمًا أنّ اللهَ يعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تُخفي الصدور.
افعليها الآن: اجعلي من نظركِ عبادةً؛ حين تمرّ صورةٌ لا ترضي الله، أغلقيها وابتسمي لأنّكِ فزتِ بمعركةٍ صغيرةٍ في طريقِ الطهرِ الكبير.
١. مسند الإمام الصادق أبي عبد الله جعفر بن محمد(ع) / العطاردي، الشيخ عزيز الله / المجلد : 21 / الصفحة : 413.
2. نهج البلاغة / السيد الرضي / الحكمة 409.
3. البقرة: 7.
4. الملك: 23.
5. تحف العقول / ابن شعبة الحَرّاني / المجلد : ١ / الصفحة : ١٥١.
6. تفسير البرهان في تفسير القرآن / هاشم الحسيني البحراني / ذيل سورة النور : الآية ٣٠.
7. النور : ٣١.
8. القصص : ٢٦.
9. الغافر : ١٩.
10. من لا يحضره الفقيه / الشيخ الصدوق/ المجلد : ٤ / الصفحة : ١٨.
11. إنجيل متّى ٥: ٢٩.







التعلیقات