المعاقين وعدل الله تعالى
السيد حسين الهاشمي
منذ 3 ساعاتنحن البشر نواجه في حياتنا الكثير من المصائب والمشاكل، ولكن من أشدّ ما يبتلي به الإنسان ويؤثّر في ذهنه ونفسيته أن يكون في الأسرة شخصٌ معاق أو مصاب بعلّة. فكلّنا نواسي تلك العائلة نحسّ بالألم والحزن تجاههم. وقضية وجود المعلولين ليس بالأمر الحديث، بل كان في الأزمنة الماضية معاقين والمصابين بالعلة أكثر من يومنا هذا. فقد روى عبدالله بن حرب: « لما اقبل الناس مع أمير المؤمنين من صفين أقبلنا معه حتى إذا جزنا النخيلة و رأينا أبيات الكوفة، إذا شيخ جالس في ظل بيت على وجهه اثر المرض، فأقبل الى أمير المؤمنين عليه السلام و نحن معه حتى سلم عليه، و سلمنا معه فرد بنا حسنا قال له أمير المؤمنين عليه السلام: فهل شهدت معنا غزاتنا هذه؟ فقال: لا لقد أردتها و لكن ما ترى في من طب الحمى خذلتني عنها. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ » (1).
فمن هنا يخطر ببال الجميع، قضية المعاقين وكيفية الجمع بين هذه الواقعة وعدل الله تعالى. موضوع وجود المعاقين والمعلولين في الدنيا من أعمق المسائل الفكرية التي شغلت العقول عبر التاريخ، إذ يتقاطع فيه البعد العقائدي مع الإنساني، ويلامس سؤالًا جوهريًا ظلّ حاضرًا في ضمير الإنسان: كيف يجتمع وجود الألم والنقص والابتلاءات مع عدل الله تعالى ورحمته؟
وفي هذه المقالة نحاول قدر الإمكان الإجابة عن هذه المسألة الصعبة.
علل وجود المعاقين
لقد واجهت المدارس الفلسفية والدينية هذا التساؤل كلٌّ بطريقتها. فبعض الإجابات، إجابات عقلية محضة وبعضها الآخر ناشئة من الآيات الشريفة والروايات المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام. فلنذكر البعض منها.
المعلولية والنقص، أمران نسبيان
إنّ الإعاقة كنقصٍ في عضوٍ أو في قدراتٍ ذهنية وصفٌ نسبيٌّ لا حقيقي. ولذلك، وباعتبارٍ ما، يمكن القول: إنّ جميع البشر، بل جميع المخلوقات، ما عدا المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام، هم معلولون وناقصون. فالتفاوت بأشكاله المختلفة موجود بين جميع الناس وجميع الكائنات، وهذا التفاوت بمقتضى الحكمة البالغة الإلهية تفاوتٌ حكيمٌ أيضاً. فقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (2). وهذه الفوارق في ذاتها لا تُوجب ألماً ولا معاناة؛ وإنّما يظهر الألم حين يقيس الإنسان نفسه بغيره.
فالناس العاديون إذا لم يُقارنوا أنفسهم بالإنسان الكامل، فسيرون أنفسهم طبيعيين. ولكن لو قارنّا نحن البشر العاديون أنفسنا بالأنبياء عليهم السلام، الذين كانوا يمتلكون غالباً منذ الولادة خصائصَ مميّزة، لشعرنا بأنّنا ناقصون جدّاً. وكما أنّ الأعمى منذ الولادة يرى نفسه ناقصاً إذا قورن بذوي البصر، فإنّ الناس العاديين أيضاً ـ مقارنةً بالأنبياء عليهم السلام ـ هم بمنزلة العميان منذ الولادة، لأنّ الأنبياء يدركون أموراً لا قدرة للناس العاديين على إدراكها.
ويمكن توسيع هذا القياس على نطاقٍ أوسع. فعلى سبيل المثال، إذا قارنّا الحيوانات بالإنسان، نرى أنّ الحيوانات تفتقد بعض كمالات الإنسان، كما أنّ الإنسان يفتقد بعض كمالات الحيوان. فالطيور ليس لها عقل، ولكنّ الإنسان أيضاً لا يملك أجنحة للطيران. ومع ذلك، لا يُقال عن الإنسان في مقابل الطير إنّه معاق، ولا عن الطير في مقابل الإنسان إنّه معاق.
عالمُ المادّة هو عالمُ العِلّةِ والمعلولِ المادّيَّين.
العالم الذي نعيش فيه هو عالم مادّي، أي أنّ كل شيء يظهر في ظروف محدّدة وبأسباب وعلل خاصة به، ويتكامل تدريجيًا. فإذا لم تُراعَ شروط وحدود هذه العلل، ينتج كائن ناقص وعديم الفائدة، وأحيانًا ضارّ. فمثلا الثمرة على الشجرة تنضج بشكل كامل عندما يقدّم البستاني الماء والأسمدة في الوقت المناسب، ويولي اهتمامًا بكل قواعد النمو ويهيّئها. وإلا فلن تنضج الثمرة تمامًا، لأن العالم المادّي والطبيعي ليس كذلك بحيث يسلم الكائنات صحيحة وكاملة في أيّ ظرف.
وكذلك بالنسبة للطفل السليم، من الضروري أن يعرف الأبوان ما هو مطلوب ونافع في تربيته ونموّه، وأن يراعوه دائمًا. فنحن في كثير من الحالات بسبب عدم مراعاتنا للشروط الصحية، ننتج أطفالًا معاقين ومعلولين. لذلك في هذه الحالات، لا ينبغي أن نلقي اللوم على الخالق البارئ. لأنّ الله قد وضع لكل كائن شروطًا خاصة من أجل تكامله، فإذا أُحسنت مراعاتها، سينشأ كل شيء جيّدًا ونافعًا.
بعبارة أخرى: الولادة السليمة أو الولادة الناقصة لها أسباب وعلل مادية خاصة بها. فكل معاق أو أي ظاهرة صادرة عن سبب خاص بها. وبناءً عليه، فإنّ أي نقص موجود في مخلوقات العالم هو من جانب المخلوقات نفسها، لا من جانب الله، وبعبارة أوضح: النعمة من الله كاملة، والنقص من جهة مستلم النعمة. وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿ مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ (3).
فعندما تكون الأسباب والعلل وظروف ولادة طفل ناقص غير مناسبة، أو من ناحية الجينات، يولد الطفل ناقصًا. فالخلاصة أنّ لعالم الخلق شروط، وإذا لم يلتزم الإنسان بها، ينتج عن ذلك نقص، ويكون الخطأ من نفسه، ولا علاقة له بعالم الخلق والله تعالى.
ما ذنب الطفل الصغير؟
في ذيل هذا الجواب، يأتي اشكال آخر وهو أنه ما ذنب الطفل الصغير الذي يتولد من الأبوين الذين لم يتوجها إلى الأمور الصحية والتربوية؟
الجواب أن المقصّر الأساسي هم الوالدان، لكنّ المعاناة تقع على عاتق الطفل. وهذا ليس مقصورًا على الطفل وحده. ففي جميع مظالم العالم، الخطأ من الظالم، ولكن تبعات الظلم تقع على المظلوم. ومع ذلك، فإنّ الله تعالى يعوّض ويزيد من درجات الفرد البريء ومقامه الروحي. فالعدل الإلهي يقتضي أن يُحاسب كل شخص بحسب وسعه الفكري والعقلي، وإمكاناته وظروفه المتاحة. لذلك، فإنّ من ينشأ في بيئة فاسدة ينال أجرًا أكبر على أعماله الصالحة، وعقابًا أقل على ذنوبه، مقارنةً بمن نشأ في بيئة دينية مستقيمة.
الظرف الروحي والجسدي لكل شخص
الواقع أنّ قدرات الكائنات والبشر ليست كالآنية التي تُملأ للبعض نصفها وللبعض الآخر كاملها، بل إنّ كل كائن يتكوّن ظرفه وقدرته بما يتناسب مع وضعه وموقعه الخاص. فجميع الأواني ممتلئة بما يتناسب مع قدراتها، وكلما زادت الإمكانات والمواهب وتجلّت، كبر حجم الأواني أيضًا. فعلى سبيل المثال، كلما زادت معلومات الإنسان ودرجاته العلمية، اتسع قلبه وفؤاده. وكذلك لكلٍّ من الجمادات والنباتات والحيوانات مجال خاص لظهور قدراته. فمثلاً، يمكن لحبة القمح أن تتحول خلال بضعة أشهر، مع مراعاة قواعد الزرع والرعاية والحصاد، إلى سنبلة تحتوي على سبعين حبّة. وبالطبع، كلما نقصت العوامل المؤثرة، قلّت الحبوب الناتجة، وكلما حسّنت عوامل النمو والعناية، زادت الحبوب المحصودة. وينطبق هذا على أنواع النباتات والحيوانات الأخرى أيضًا.
وبالنسبة لاختلاف القدرات وتفاوت الكائنات، فهناك ملاحظة جديرة بالاهتمام وهي أنه ليس كل كائن موجود في حالة واحدة محددة أو يمتلك نوعًا واحدًا من القدرات فقط، بل يمكن أن يتغير وضعه، ونتيجة لذلك ترتفع قدراته وتتطوّر.
الامتحان والابتلاء وترفيع الدرجات
المرض والمعاناة ونقص الأعضاء وما شابهها ليست ذنوبًا ولا عقابًا، بل هي ابتلائات وامتحانات فقد قال الله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ (4). وهذه الابتلائات تُخفف من التكليف في الدنيا، وتُعوَّض في الآخرة. إذ إنّ الله تعالى، يعوّض الحرمانات غير الطوعية بالأجر الأخروي. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: « قال الله عز وجل إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا أو أنشر له ديوانا » (5).
وأرض ظهور العدل المطلق لله هي في الآخرة. لذلك، لا ينبغي اقتصار عالم الوجود في الدنيا، ولا البحث عن ظهور جميع الأمور في هذا العالم المحدود فقط. والأبوين أيضا إذا صبرا لهم أجر جميل. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: « من كان له ابن وكان عليه عزيزا وبه ضنينا ومات فصبر على مصيبته واحتسبه أبدل الله الميت دارا خيرا من داره وقرارا خيرا من قراره وأبدل المصاب الصلاة والرحمة والمغفرة والرضوان » (6).
هذه جملة من الأجوبة حول المعاقين والمعلولين. أتمنى أنكم استفدتم منها.
1) تفسير نور الثقلين (للشيخ عبد علي العروسي) / المجلد: 2 / الصفحة: 253 / الناشر: نشر اسماعيليان – قم / الطبعة: 4.
2) سورة الحجرات / الآية: 13.
3) سورة النساء / الآية: 79.
4) سورة الأنفال / الآية: 28.
5) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 82 / الصفحة: 122 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 2.
6) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 82 / الصفحة: 123 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 2.








التعلیقات