تربية الأطفال بطريقة صحيحة من سيرة أم البنين عليها السلام
السيد حسين الهاشمي
منذ ساعةتمثّل تربية الأولاد إحدى أهمّ المسؤوليات التي تقع على عاتق الوالدين والمربّين، إذ تتوقّف عليها سلامة الفرد ورُقيّ المجتمع واستقامة الأجيال القادمة. وقد أولى الإسلام هذه المهمّة عنايةً بالغة، فجعل الأسرة المدرسة الأولى، والأمّ الركن الأوثق في بناء شخصية الطفل وصياغة وجدانه وقيمه. وفي هذا السياق، برزت في التاريخ الإسلامي نساءٌ جليلات قدّمن أنموذجاً رائداً في التربية الصالحة، ومن أبرزهنّ السيّدة فاطمة بنت حزام الكلابية، أمُّ البنين عليها السلام، التي سطّرت سيرة تربوية فريدة تستحقّ الدراسة والاقتداء. لقد عُرفت أمّ البنين عليها السلام بصفاء النية، وسموّ الإيمان، وصدق الولاء لرسول الله وأهل بيته عليهم السلام، حتى أصبحت نموذجاً متكاملاً للأمّ الرسالية التي تربّي أبناءها على القيم العليا من الشجاعة، والإيثار، والصدق، وحفظ الدين. فلم تكن أمّاً عادية، بل كانت مدرسة تربوية نشأت فيها شخصيات عملاقة، في مقدّمتهم أبو الفضل العباس عليه السلام وإخوته الثلاثة، الذين أصبحوا رموزاً للفداء والطاعة والعقيدة.
في الثالث عشر من شهر جمادى الآخرة تحلُّ ذكرى رحيل هذه السيدة الجليلة، ومن وحي هذه المناسبة ارتأينا أن نسلّط الضوء على سيرتها المباركة في تربية أبنائها، لنستكشف من خلال أقوالها ومواقفها دروسًا مهمّة في بناء الأسرة الصالحة. كما نحاول أن نبيّن كيف يمكن للأسرة المسلمة اليوم أن تستلهم من منهجها القيمي والروحي طريقًا لبناء جيلٍ مؤمنٍ ثابتٍ على الحقّ.
دور الأمهات في تربية الأولاد وأهمية انتخاب زوجة صالحة
تربية الأولاد ليست عملاً عابراً، بل هي مشروع حضاري ينعكس على مستقبل الأسرة والمجتمع والأمة بأسرها. وقد منح الإسلام الأمّ منزلةً فريدة، باعتبارها المربّي الأول والأعمق تأثيراً في شخصية الطفل. وفي ظلّ التغيّرات الاجتماعية الكبرى والتحديات الأخلاقية الفكرية، تزداد الحاجة إلى دراسة دور الأمّ، وكيف أنّ اختيار الزوجة الصالحة هو الأساس الذي تُبنى عليه البيوت المستقرة والأجيال الواعية.
ومن هنا تبرز أهمية اختيار الزوجة الصالحة والأم الحسنة في تربية الأولاد. صفات الأمّ النفسية والأخلاقية قد تنتقل إلى أبنائها وراثياً وسلوكياً. لذلك يؤكد الإسلام على اختيار المرأة ذات الدين والخلق. فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « أنكحوا الأكفاء وأنكحوا فيهم واختاروا لنطفكم » (1).
وقد عمل أميرالمؤمنين عليه السلام بهذه الوصية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقد روي: « أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام قال لأخيه عقيل ـ وكان نسابة عالما بأنساب العرب وأخبارهم ـ : انظر الى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاما فارسا. فقاله : تزوج ام البنين الكلابية فانّه ليس في العرب أشجع من آبائها. فتزوجها » (2). ولهذا عندما نُقِلَتْ أمتعةُ كربلاء المنهوبة إلى الشام وقُدِّمت ليزيد، كان بينها لواءٌ كبير. فرأى يزيد ومن كان في مجلسه أنّ اللواء كلَّه مثقوبٌ وممزّق، غير أنّ عَمودَه ومقبضه باقِيَينِ سالمَين. فسأل يزيد: « من كان يحمل هذا اللواء؟ فقيل له: العباس بن علي. فقام يزيد دهشةً وإجلالاً لذلك اللواء، ثم جلس، ثم قام، ثم جلس ثلاث مرّات، وقال: انظروا إلی هذا العلم فانه لم يسلم من الطعن والضرب إلا مقبض اليد التي تحمله. ثم قال: أبيت اللعن يا عباس، هکذا يکون وفاء الأخ لأخيه » (3).
فعلى الرجال المسلمون أن يختاروا النساء المسلمات العفيفات حتى يتولد لهما أطفالا صالحين كي يمكنهما تربيتهما بشكل أفضل وأسهل.
الهوية الدينية وتشخيص الواجب
الهوية الدينية هي إحساس الطفل بالانتماء إلى دين معيّن و معرفته بأنّ الله خالقه وربّه وفهمه لأصول دينه وكيف يعيش وفقها وشعوره بالاعتزاز بقيمه الإيمانية. هذا الإحساس يبدأ منذ السنوات الأولى، بل قد يبدأ منذ داخل البيت قبل الولادة عبر أجواء الإيمان والذكر. تشخيص الواجب هو قدرة الطفل على معرفة ماذا يجب أن يفعل في كل موقف؟ وما الصحيح وما الخطأ؟ وما هي مسؤولياته تجاه الله وأسرته ونفسه؟ في الحقيقية، تشخيص الواجب والهوية الدينية هما البوصلة الأخلاقية التي تُرشدا الطفل في الحياة.
ومن هنا يأتي دور الأم في تربية الطفل بشكل يحصل على الهوية الدينية ويمكنه تشخيص الواجب. الطفل لا يفهم التعقيد العقائدي، لكنه يفهم المحبة. لذلك تبدأ الأم بتعريفه بالله من خلال شكره على النعم أمامه ودعائها له بصوت مسموع وتعليمه البسملة والحمدلة. على الأم أن تتيح للطفل المشاركة في الصلوات الجماعية والمجالس الدينية وإحياء المناسبات الدينية وزيارة المساجد والمراقد. الأم لا تكتفي بأن تقول: هذا خطأ وهذا صحيح. بل بجب أن تعلمه لماذا هذا صحيح ولماذا هذا غلط؟ فيجب على الأم أن تتكلم مع طفلها حول أنه ماذا يجب أن نفعل في هذا الموقف؟ وماذا يرضي الله؟
وعندما نراجع سيرة أم البنين عليها السلام نرى أنها منذ ولادتها أبنائها كانت تخلق لهم هوية دينية. فقد روي: « أنّ أُمّ البنين رأت أمير المؤمنين عليه السلام في بعض الأيام أجلس أبا الفضل عليه السلام على فخذه، وشمّر عن ساعديه، وقبلهما وبكى، فأدهشها الحال. لأنّها لم تكن تعهد صبيّاً بتلك الشمائل العلوية ينظر إليه أبوه ويبكي، من دون سبب ظاهر، ولمّا أوقفها أمير المؤمنين عليه السلام على غامض القضاء، وما يجري على يديه من القطع في نصرة الحسين عليه السلام، بكت وأعولت وشاركها مَن في الدار في الزفرة والحسرة، غير أنّ سيّد الأوصياء بشّرها بمكانة ولدها العزيز عند اللّه جلّ شأنه، وما حباه عن يديه بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل ذلك لجعفر بن أبي طالب، فقامت تحمل بشرى الأبد، والسعادة الخالدة » (4). ولهذا تعلم العباس وإخوته تشخيص الوظيفة والواجب. فحينما كان يوم عاشوراء: « ولما كان يوم الطف قال شمر بن ذي الجوشن الكلابي للعباس واخوته: أين بنو اختي؟ فلم يجيبوه، فقال الحسين لإخوته: أجيبوه وإن كان فاسقا فإنّه بعض أخوالكم. فقالوا له: ما تريد؟ قال: اخرجوا إلي فانّكم آمنون ولا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم. فسبّوه وقالوا له: قبحت وقبح ما جئت به أنترك سيّدنا وأخانا ونخرج الى أمانك؟ وقتل هو وإخوته الثلاثة في ذلك اليوم » (5).
ولهذا قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام حول عمه العباس عليه السلام: « كان عمّنا العباس بن علي نافذ البصيرة صلب الايمان جاهد مع أبي عبد الله وأبلى بلاء حسنا ومضى شهيدا » (6).
الطاعة للإمام والإخلاص فيها
الطاعة في الإسلام ليست خضوعاً شكلياً أو انقياداً قهرياً، بل هي وعيٌ وإيمانٌ وحبٌّ واتباعٌ للحق. وقد جسّدت أمّ البنين سلام الله عليها هذا المفهوم بأسمى درجاته. عندما تزوجت مع أميرالمؤمنين عليه السلام، أدركت أنها تدخل بيتا يحمل عبق النبوّة، فلم تتعامل مع الزواج كارتباط عاطفي فقط، بل كمسؤولية دينية. فيمكننا أن نفهم ذلك من مواقفها. الموقف الأول حينما دخلت بعد الزفاف في دار أميرالمؤمنين عليه السلام. فقد قال السيد الشبر في حقها: « كانت من النساء العالمات الفاضلات العارفات بحق أهل البيت مخلصة في ولائهم. ووصفها صاحب العمدة بالعالمة ، وقد بلغ من معرفتها وتبصرها أنها لما دخلت على علي عليه السلام كان الحسنان مريضين فأخذت تسهر معهما وتقابلهما بالبشاشة ولطيف الكلام كالأم الحنون » (7). وموقفها الثاني بعد واقعة الطف، حينما رجعت السبايا إلى المدينة المنورة وقام بشر بن حذلم بنعي الإمام الحسين عليه السلام في وسط المسجد وقال:
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها
قتل الحسين فأدمعي مدرار
الجسم منه بكربلاء مضرج
والرأس منه على القناة يدار
ثم قال: ورأيت امرأة كبيرة تحمل على عاتقها طفلاً وهي تشق الصفوف نحوي، فلمّا وصلت قالت: يا هذا أخبرني عن سيدي الحسين عليه السلام، فعلمت أنها ذاهلة؛ لأني أنادي «قتل الحسين» وهي تسألني عنه، فسألت عنها، فقيل لي: هذه أم البنين عليها السلام، فأشففت عليها وخفت أن أخبرها بأولادها مرة واحدة... فعظم أجرها بأبنائها الأربعة. فقال بشر: لقد رأيتها وقد وضعت يديها على خاصرتها وسقط الطفل من على عاتقها وقالت: لقد والله قطعت نياط قلبي، اولادي ومن تحت الخضراء كلهم فداء لأبي عبدالله الحسين، أخبرني عن الحسين. فقلت لها: عظم الله لك الأجر بمصاب مولانا أبي عبد الله الحسين عليه السلام » (8).
أمّ البنين عليها السلام ليست شخصية تاريخية فحسب، بل منهج تربوي كامل. قدمت للعالم أربعة شهداء، ولكن الأهم أنها قدمت مدرسة في الطاعة والإخلاص وكيفية تربية الأطفال بشكل صحيح. نتمنى أنكم استفدتم من هذه المقالة.
1) الوافي (للفيض الكاشاني) / المجلد: 21 / الصفحة: 44 / الناشر: مكتبة الإمام علي – اصفهان / الطبعة: 1.
2) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب (ابن عنبة) / المجلد: 1 / الصفحة: 357 / الناشر: منشورات الشريف الرضي – قم / الطبعة: 1.
3) سوگنامه آل محمد (امحمدي الاشتهاردي) / المجلد: 1 / الصفحة: 300 / الناشر: نشر الناصر – قم / الطبعة: 4.
4) العباس (للسيد عبدالرزاق المقرم) / المجلد: 1 / الصفحة: 129 / الناشر: مكتبة الروضة العباسية – كربلاء المقدسة / الطبعة: 1.
5) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب (ابن عنبة) / المجلد: 1 / الصفحة: 357 / الناشر: منشورات الشريف الرضي – قم / الطبعة: 1.
6) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب (ابن عنبة) / المجلد: 1 / الصفحة: 357 / الناشر: منشورات الشريف الرضي – قم / الطبعة: 1.
7) أدب الطف (للسيد جواد الشبر) / المجلد: 1 / الصفحة: 73 / الناشر: دار المرتضى – بيروت / الطبعة: 1.
8) أم البنين النجم الساطع (للشيخ علي الرباني) / المجلد: 1 /8 الصفحة: 147 / الناشر: دار الكتاب الإسلامي – قم / الطبعة: 1.








التعلیقات