أبعاد التربية العائلية في الخطبة الفدكية
السيد حسين الهاشمي
منذ 5 ساعاتتبقى الخطبة الفدكية التي ألقتها مولاتنا فاطمة الزهراء سلام الله عليها مناراً خالداً على مرّ العصور، لأنها صدرت من فم شخصيةٍ ليست عادية، بل من إحدى الشخصيات التي خوطبت بقول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ (1). وهي المحور في حديث الكساء حيث قال الله تعالى لجبرئيل: « هُمْ أَهْلُ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَمَعْدِنُ الرِّسالَةِ، هُم فاطِمَةُ وَأَبُوها وَبَعْلُها وَبَنُوها » (2). ومن أبرز الجوانب التي تتجلّى في هذه الخطبة المباركة البعد التربوي العائلي، حيث رسمت الزهراء عليها السلام معالم التربية التي يمكننا أن نتعلم منها في نطاق الأسرة، باعتبارها النواة الأولى لبناء المجتمع الإيماني السليم.
ولهذا، وبمناسبة حلول الأيّام الفاطميّة الأليمة، قرّرنا أن نكتب لكم حول أبعادِ التربيةِ العائليةِ في الخطبةِ الفدكية.
الأبعاد التربوية العائلية
هناك أربعةُ أبعادٍ أساسيةٍ للتربية في كلّ مجالٍ من مجالات الحياة. وهذه الأبعاد الأربعة تتجلى أيضا في الحياة العائلية والأسرية وفي تربية الأبناء وتعامل الآباء مع البعض ومع الأبناء كذلك. هذه الأبعاد هنّ التربية الأخلاقية والتربية الاعتقادية والدينية والتربية الاجتماعية والتربية الولائية والسياسية. عندما نلاحظ الخطبة الفدكية بتأمل ودقة يمكننا أن نستخرج منها هذه الأبعاد التربوية الأربعة ونطبقها في مجال الرتبية العائلية.
البعد الأول: التربية الأخلاقية
التربية الأخلاقية في العائلة هي الركيزة الأساسية في بناء الإنسان الصالح والمجتمع السليم. فهي البذرة الأولى التي تُغرس في قلب الطفل منذ لحظات وعيه الأولى، لتشكّل ملامح شخصيّته وسلوكه في مراحل حياته المختلفة. عندما نراجع القرآن الكريم نرى أنّ الله تعالى يأمرنا بوقاية أنفسنا وعائلتنا من النار حيث قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ (3). وهذه الوقاية لاتحصل إلا بالتربية الأخلاقية للنفس والعائلة. لأنّ أفراد العائلة إذا لم يُربّوا أخلاقياً، فيميلون إلى الرذائل الأخلاقية وهذا الأمر يذهب بهم إلى نار الجحيم.
وعندما نراجع الخطبة الفدكية نرى أنّ فاطمة الزهراء سلام الله عليها تكلّمت بنحو يزدهر فيه الأخلاق والتربية الأخلاقية. فهي وإن كانت مظلومة ومقهورة إلا أنها لم تنس ذكر الله فإبتدأت كلامها بذكر الله والشهادة بالوحدانية ونبوة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حيث قالت: « الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها ... وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها ... وأشهد أن أبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله، اختاره وانتجبه قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتبله... » (4).
النكتة الأخلاقية الأخرى هي مراعاة حال المفجوعين والذين أصابهم مصيبة في الدنيا. فيجب أن يعتني المؤمنون بهم ويراعوا حالهم. فقد قالت الزهراء سلام الله عليها: « أيها الناس! اعلموا أني فاطمة وأبي محمد ... فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزي إليه » (5). وأيضا قالت: « يا معاشر الفتية وأعضاد الملة، وأنصار الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي، والسنة عن ظلامتي، أما كان رسول اللهصلى الله عليه وآله أبي يقول: المرء يحفظ في ولده؟ سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة » (6).
البعد الثاني: التربية الدينية والاعتقادية
يمكننا أن نقول إنّ التربية الدينية أهم بعد من أبعاد التربية. لأنّ الذي لم يتمّ تربيته دينيا لا ينتفع منه في الدين والإسلام وإن تمّ تربيته في الأبعاد الأخرى. لأنّ الذي لايعتقد بالشريعة والدين والأعمال الإلهية، لايوجد له رادع غير عقله من أن يفعل ما يشاء. فأهمّ وظائف العائلة، هي التربية الدينية والاعتقادية.
عندما نقرء الخطبة الفدكية نرى الكثير من التوصيات التربوية في مجال التربية الدينية. فلنذكر البعض منها. منها ما ذكرت الزهراء سلام الله عليها من الأحكام والواجبات والمحرمات في الشريعة الإسلامية مع فوائدها وحِكَمها. حيث قالت: « ثم جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، زيادة لعباده عن نقمته وحياشة منه إلى جنته ... فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة تنزيها لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس، ونماء في الرزق، والصيام تثبيتا للإخلاص، والحج تشييدا للدين، والعدل تنسيقا للقلوب، وطاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا أمانا من الفرقة ، والجهاد عزا للإسلام، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبر الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منماة للعدد، والقصاص حقنا للدماء، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييرا للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس، واجتناب القذف حجابا عن اللعنة، وترك السرقة إيجابا للعفة ، وحرم الله الشرك إخلاصا له بالربوبية » (7).
البعد الثالث: التربية الاجتماعية
التربية الاجتماعية في العائلة من الركائز الأساسية التي يقوم عليها توازن الفرد والمجتمع معاً، إذ إنّ الإنسان كائنٌ اجتماعيّ بطبيعته، لا يمكن أن يعيش بمعزل عن الآخرين، ولا أن يحقّق ذاته إلا من خلال التفاعل الإيجابي مع محيطه. إنّ أهمية التربية الاجتماعية في العائلة تكمن في كونها تبني شخصيةً متوازنة، تدرك أن الفرد جزء من منظومة أكبر هي الأمة والمجتمع، وأنّ صلاح هذه المنظومة يبدأ من صلاح العلاقات داخل البيت.
ومن هنا قالت فاطمة الزهراء سلام الله عليها: « ثم التفتت إلى أهل المجلس، وقالت: أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغاؤه إلى الأمم، وزعمتم حق لكم لله فيكم عهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم، كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق » (8). فتذكرهم بأنّ على جميع العباد أن يراقبوا أعمالهم في الوهلة الأولى وأن يبلغوا الأوامر والنواهي إلى الآخرين في المرتبة الثانية.
المورد الآخر التي تذكرنا الزهراء سلام الله عليها هو الاستعانة والمشاركة في الأمرو المختلفة الاجتماعية. فإنّ كثيرا من الأمور، تسهل بمشاركة الناس. ولهذا قالت الزهراء سلام الله عليها: « أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى مني ومسمع، ومبتد ومجمع؟ تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذا العدد والعدة، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجنة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنجبة التي انتجبت، والخيرة التي اختيرت، قاتلتم العرب، وتحملتم الكد والتعب، وناطحتم الأمم، وكافحتم البهم، فلا نبرح أو تبرحون، نأمركم فتأتمرون » (9).
البعد الرابع: التربية الولائية والسياسية
إنّ الموالاة لأئمة أهل البيت عليهم السلام ومتابعتهم في جميع الأمور، هي أساس الإسلام. فقد قال علي بن موسى الرضا عليه السلام: « إن الامامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين، إن الامامة أس الاسلام النامي وفرعه السامي، بالامام تمام الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد ... » (10). فيجب على العائلة المسلمة أن تربّي أولادها بالولاء لأميرالمؤمنين عليه السلام والأئمة المعصومين عليهم السلام حتى لايذهبوا إلى غير المعصومين ويصيروا من أتباعهم.
والخطبة الفدكية مليئة بالتأكيدات في هذا المجال. فقد قالت عليها السلام: « فجعل الله ... طاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا أمانا من الفرقة » (11). وأيضا عاتبت الناس على ترك الولاية حيث قالت: « فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسيكة النفاق ... فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم » (12).
هذا بعضٌ من الموارد التي استطعنا جمعها من الخطبة الفدكية حول أبعاد التربية العائلية. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من محبيها، ومتّبعيها، ومفرحيها.
1) سورة الأحزاب / الآية: 33.
2) مفاتيح الجنان (للشيخ عباس القمي) / المجلد: 1 / الصفحة: 716 / الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلامية - قم / الطبعة: 1.
3) سورة التحريم / الآية: 6.
4) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 29 / الصفحة: 220 / الناشر: مؤسسة الوفاء - بيروت / الطبعة: 1.
5) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 29 / الصفحة: 224 / الناشر: مؤسسة الوفاء - بيروت / الطبعة: 1.
6) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 29 / الصفحة: 227 / الناشر: مؤسسة الوفاء - بيروت / الطبعة: 1.
7) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 29 / الصفحة: 223 / الناشر: مؤسسة الوفاء - بيروت / الطبعة: 1.
8) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 29 / الصفحة: 222 / الناشر: مؤسسة الوفاء - بيروت / الطبعة: 1.
9) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 29 / الصفحة: 229 / الناشر: مؤسسة الوفاء - بيروت / الطبعة: 1.
10) الأمالي (للشيخ الصدوق) / المجلد: 1 / الصفحة: 775 / الناشر: مؤسسة البعثة – قم / الطبعة: 1.
11) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 29 / الصفحة: 223 / الناشر: مؤسسة الوفاء - بيروت / الطبعة: 1.
12) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 29 / الصفحة: 225 / الناشر: مؤسسة الوفاء - بيروت / الطبعة: 1.









التعلیقات