الغِفاريّان ومواساتهما
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 5 سنواتإنّ الأطفال كثيرا ما يتأثرون برواية القصص، ويستطيع كل من الأبوين أن يستفاد من هذا الأمر والفرصة؛ لتربية الأولاد؛ لأن الأطفال لهم شغف لاستماع القصص، ويتأثرون إلى حد كبير بها، ويتفاعلون معها، وللقصص تأثير أكبر من النصيحة المباشرة؛ لأن القصة تمنحه الفرصة بأن يفكر ويستلهم منها، ومن هذا المنطلق سوف نروي لكم قصة أصحاب الإمام الحسين عليه السلام؛ لكي نستلهم من حياتهم الدروس، ونتعلم منهم كيف وصلوا إلى هذا المقام الرفيع.
هما: عبد الله وعبد الرحمن ابنا عُروَةَ بنِ حِراق الغِفاريّ.. من غِفار بن مُلَيل، بطنٌ من كِنانة، وهي عدنانيّة. كان جدُّهما (حِراق) مِن أصحاب أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب عليه السلام، وممّن حارب إلى جانبه في حروبه الثلاث: الجمل وصِفّين والنَّهروان.
أمّا هذان الأخوان الغِفاريّان: عبد الله وعبد الرحمن، فهُما مِن أشراف الكوفة ومن شجعانها ومن الموالين لأهل البيت النبويّ الشريف(1).
ولما كان يوم العاشر من المحرم بعد الحملة الأُولى -على ساحة كربلاء، وما أسفَرَت عنه من شهادة خمسين رجلاً مِن أصحاب الإمام أبي عبد الله الحسين صلوات الله عليه- خرج بعض الأصحاب فُرادى يواجهون تحدّياً مِن أزلام عسكر عمر بن سعد؛ حيث خرج يَسار مولى زياد ابن أبيه وسالم مولى عبيد الله بن زياد يطلبان البِراز، فوَثَب حبيبُ بن مظاهر الأسديّ فلم يأذَن له الإمام الحسين عليه السلام، فقام عبد الله بن عُمَير الكلبيّ (أبو وهب)، فقاتل حتّى استُشهد، ثمّ استُشهِد وَلَدُه وهب وزوجته بعد أن دفعته أُمُّه إلى المعركة تشجّعه، وكانت لا ترضى عنه أن يعود إليها إلّا أن يستشهد بين يدَي إمامه سيّد شباب أهل الجنّة أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
ولمّا نظر الإمام الحسين صلوات الله عليه إلى كثرة مَن قُتِل مِن أصحابه الكرام البررة، أذِن للرجلينِ والثلاثة بالبراز إلى ساحة المعركة وهم يستأذنونه.. فخرج الجابِريّان: سيف بن الحارث بن سريع، ومالك بن عبد بن سريع، وهما ابنا عمّ وأخَوانِ لأُمّ، فقاتلا قريباً منه حتّى استُشهِدا معاً رضوان الله عليهما.
وهنا تقدّم الغِفاريّان: عبد الله وعبد الرحمن وهما ابنا عُروَة الغِفاريّ، فتقدّما فيمن تقدّموا؛ ليُستشهَدوا بين يدي الإمام الحسين سيّد شباب أهل الجنّة عليه السلام.
ويقول أبو مخنف: لمّا رأى أصحابُ الحسين عليه السلام أنّهم لا يَقْدِرون على أن يمنعوا الحسينَ عليه السلام (أي: لا يستطيعون أن يَحمُوه) ولا أنفسَهم، تَنافَسُوا في أن يُقتَلوا بين يديه.
وتقدّم عبد الله وعبد الرحمن الغِفاريّان فقالا لسيّدهما الإمام الحسين عليه السلام: يا أبا عبد الله، السلام عليك، حازَنا العدوُّ إليك، فأحبَبْنا أن نُقتَل بين يدَيك، نَمنَعُك ونَدفَع عنك. فقال عليه السلام لهما: «مرحباً بِكُما، أُدْنُوا منّي». فدَنَوا منه، وهما يبكيان..
فقال: «يا ابنَي أخي ما يُبكيكما؟ فوَ اللهِ إنّي لَأرجو أن تكونا بعد ساعةٍ قريرَيِ العين».
فقالا: جَعَلَنا اللهُ فِداك، واللهِ ما على أنفسِنا نبكي، ولكنْ نبكي عليك؛ نراك قد أُحيط بك، ولا نَقْدِر على أن ننفعك.
فقال: «جزاكُما اللهُ يا ابنَي أخي بوجدِكما مِن ذلك ومُواساتِكما إيّايَ بأنفسكما أحسنَ جزاء المتّقين».
ثمّ استقدما وقالا: السلام عليك يا ابن رسول الله، فقال: «وعليكما السلامُ ورحمة الله وبركاته».
فدَنَوا منه، فجَعَلا يُقاتلان قريباً منه، بين يديه، وإنّ أحدَهما لَيرتجز فيُتمّ له الآخَرُ رَجْزَه، فيقولان:
قد عِلِمتْ حقّاً بنو غِفارِ *** وخِنْدِفٌ بَعدَ بني نِزارِ
لَنَضـرِبَنَّ مَعشـرَ الفُجّارِ *** بكلِّ عَضْبٍ ذَكَرٍ بَتّارِ
يا قومِ ذُودوا عن بني الأخيارِ *** بالمَشْـرفيِّ والقَنا الخَطّارِ
ثم أنهما بَرَزا معاً، وارتجزا سويّةً، وقاتلا كَتِفاً إلى كتف، واستُشهِدا مُتقاربَين وقتاً ومكاناً، وتألّقت روحاهما إلى الرفيق الأعلى سعيدتين رضوان الله عليهما.
وأسمى مِن كلّ ذلك.. توجّهُ حجّة الله المولى الإمام المهديّ سلام الله عليه لشهداء طفّ كربلاء بزيارةٍ عاشورائيّة خاصّة، يقول في ضمنها: «السلامُ على عبدِ الله وعبدِ الرحمنِ ابنَي عُرْوة بنِ حِراقِ الغِفاريَّين». (2)
ــــ
1ـ تاريخ الطبري: ج ٤ ص ٣٢٧؛ الكامل: ج٤ ص ٧٢.
2ـ فرسان الهيجاء: 318.
التعلیقات