العفة في كلام الإمام الباقر عليه السلام
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 3 سنواتلقد ازدهرت الحياة الفكرية والعلمية في الإسلام ببركة الإمام الباقر عليه السلام، وقد التقت فيه عناصر الشخصيّة من السبطين الحسن والحسين عليهما السلام، وامتزجت به تلك الأصول الكريمة والأصلاب الشامخة، والارحام المطهَّرة، التي تفرّع منها.
فالأب: هو سيد الساجدين وزين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام؛
والأم: هي السيدة الزكية الطاهرة فاطمة بنت الإمام الحسن سيد شباب أهل الجنة، وتكنى أم عبد الله، وكانت من سيدات نساء بني هاشم، وكان الإمام زين العابدين عليه السلام يسميها الصديقة، ويقول فيها الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام: «كَانَتْ صِدِّيقَةً لَمْ تُدْرَكْ فِي آلِ الْحَسَنِ امْرَأَةٌ مِثْلُهَا».(1) وحسبها سموّاً أنها بضعة من ريحانة رسول الله، وأنها نشأت في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ففي حجرها الطاهر تربى الإمام الباقر عليه السلام .
عاصر الإمام الباقر عليه السلام في حياته الانحرافَ الفكريَ الذي تسبب الاُمويّون في إيجاده مثل بثّهم للعقائد الباطلة كالجبر والتفويض والإرجاء خدمةً لسلطانهم؛ لأن هذه المفاهيم تستطيع أن تجعل الاُمة مستسلمة للحكام الطغاة ما دامت تبررّ طغيانهم وعصيانهم لأوامر الله ورسوله .
وانتشرت في هذه الفترة ظاهرة وضع الحديث المؤلمة فقد ركّز الاُمويون على هذه الأداة لخدمة سلطانهم، أما الانحراف الأخلاقي والاجتماعي فقد استشرى في أوساط الاُمة حيث اشتهر يزيد بن معاوية بفسقه؛ إذ كان يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب والقرود، ويقضي أوقاته بين المغنّين والمغنّيات وشاع عنه ذلك وعرفه عامّة الناس. وكان مروان بن الحكم أيضاً فاحشاً بذيئاً، كما كان أولاده وأحفاده على شاكلته.
وبناء عليه، ركز الإمام الباقر عليه السلام على حفظ كرامة الإنسان في كل أموره، ومن هنا نريد أن نشير إلى رواية في غاية الأهمية في حياتنا الاجتماعية حيث جعلها الإمام دستور للخلاص في تلك الحقبة الزمينة القاسية، بل جعلها دستوراً ومشعلاً لهداية جميع البشرية إلى أبد الدهر بشرط العمل به.
فقال الإمام الباقرُ عليه السلام:«ما عُبِدَ اللّهُ بِشَيءٍ أفضَلَ مِن عِفَّةِ بَطنٍ وفَرجٍ»،(2) وجاء في الخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام: «أفضَلُ العِبادَةِ العَفافُ».(3)
العفة والعفاف في اللغة: الكف، وعف الرجل عفة: كف عما لا يحل ولا يجمل، والعفيف والمتعفف: من يترك الحرام بضرب من الممارسة.
وفي اصطلاح الشرع: حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة، وتكف البطن والفرج عن المشتهيات المحرمة بل المشتبهة، والمكروهة من المآكل والمشارب والمناكح، وأي شيء يعد من مقدماتها ولوازمها.
وقال الإمام الباقر عليه السلام في جواب رجل وصف حاله بأنه: قَليلُ الصَّلاةِ قَليلُ الصَّـومِ ولكِن أرجو أن لا آكُلَ إلاّ حَلالاً، ولا أنكَحَ إلاّ حَلالاً، فقالَ: «وأيُّ جِهادٍ أفضَلُ مِن عِفَّةِ بَطنٍ وفَرجٍ؟!».(4)
تأثير شهوة البطن والفرج
فهنا نرى الإمام الباقر عليه السلام يؤكد على أن الإنسان إذا عفَّ بطنه، وعفَّ فرجه، فإنّه يصان ويكفى عن نفسه أكثر مصادر الذنوب. لو يُبحث عن مصادر الذنب عند الإنسان لوجدت أنَّ أكثر هذه المصادر تعود إلى أحد الأمرين التاليين: شهوة البطن، وشهوة الفرج. فشهوة البطن تحتال على الناس، فتجعله يغشّ، ويمكر، ويُرابي، ويكذب؛ ليحصَّل على الأموال. ويترتَّب على ذلك الجشع، والطمع والشراهة، كلها ذنوب جوارحيَّة، وأمراض قلبية، تنشأ عن شهوة البطن.
أما شهوة الفرج فهي كذلك مصدر لكثير من الذنوب، ولا سيما في بداية مرحلة الشباب، ونعوذ بالله من غلبة الهوى والشهوة على عقل الإنسان ودينه.
وقد ورد في الكتاب الكريم: ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (5)، وكرر تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾،(6) فهولاء هم المفلحون، وأنهم في جنات مكرمون.
إذن فشهوة البطن، والفرج، هما مصدران للكثير من الذنوب؛ لذلك كان العفاف أحبّ إلى الله عزّ وجل من الكثير من الملكات. وعبَّر عنها الإمام الباقر عليه السلام بأنَّها من أعلى مراتب العبادة، ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: «ما المجاهدُ الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممن قدر فعفّ، يكاد العفيف أن يكون ملَكا من الملائكة»،(7) فالعفة ليست أمراً ميسوراً فهي بحاجة إلى مجاهدة، وهي بحاجة إلى قلبٍ قويّ، وإرادة صلبة، حينها يتمكَّن من تجاوز المُغريات، فإذا تجاوزها كاد أن يكون ملَكاً من الملائكة.
1ـ الكافي: ج 1، ص 469.
2ـ الكافي: ج ۲، ص ۷۹.
3ـ الكافي: ج ۲، ص ۷۹.
4ـ المحاسن: ج ۱، ص ۴۵۵.
5ـ الأحزاب: 35.
6ـ المؤمنون: 5 – 7.
7ـ نهج البلاغة: ص 559.
التعلیقات