المنشأ الباطني للبكاء وسبب حصوله
آية الله الشيخ جعفر التستري
منذ 14 سنةاعلم ان منشأ البكاء قد يكون سببا ملحوظا للباكي، وقد يكون غير ملحوظ.
فهو نوعان:
النوع الاول: ما كان بلحاظ سبب ملحوظ واقسام البكاء بالسبب الملحوظ ثمانية:
القسم الاول: لعلقة مع صاحب العزاء، واعظم العلقات الابوة، ولذا قرن الله تعالى حق الوالدين بالتوحيد، قال تعالى " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا
إياه وبالوالدين إحساناً "، وذلك لانهما علة الايجاد الصوري لك.فهو نوعان:
النوع الاول: ما كان بلحاظ سبب ملحوظ واقسام البكاء بالسبب الملحوظ ثمانية:
القسم الاول: لعلقة مع صاحب العزاء، واعظم العلقات الابوة، ولذا قرن الله تعالى حق الوالدين بالتوحيد، قال تعالى " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا
فاذا كان حق علة الايجاد الصوري بهذه المرتبة فلعله الايجاد الصوري والمعنوي احق بهذا الحق، فالوالد الحقيقي النبي والوصي سلام الله عليهما، وقضى ربك بالاحسان اليهما، وكما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعليا المرتضى عليه السلام " يا علي انا وانت أبَوَا هذه الامة "، ولا ريب ان اقامة العزاء والبكاء على الحسين (ع) احسان الى النبي والوصي والزهراء صلوات الله عليهم، بل في بعض الروايات في تفسير قوله تعالى " وبالوالدين إحساناً "، ان الوالدين الحسـن والحسين عليهما السلام،، فالبكاء عليه احسان الى الوالد ابتداءً.
والوجه في ان البكاء احسان: ان الاحسان ايصال النفع وعمدة النفع الاعزاز والاحترام، والبكاء اعزاز للاموات والمقتولين.
ولذا سأل النبي إبراهيم عليه السلام ربه تعالى في ابنة تبكيه بعد موته، ولما سمع النبي صلى الله عليه وآله نساء الانصار يندبن قتلى اُحد قال صلوات الله عليه ووعلى آله " اما حمزة فلا بواكي له " فأمر الانصار نساءهم ان يندبن حمزة فسمع النبي محمداً المصطفى (ص) فدعا لهن.
وقد جاء ايضا: انه مرّ النبي (ص) بنسوة من الانصار يبكين ميتاً فزجرهن عمر فقال النبي (ص) دعهن يا عمر، فإن النفس مصابة، والعين دامعة، والعهد قريب، ولما بكت نساء اهل المدينة على قتلى اُحد قال النبي (ص) " لكن حمزة لا باكية له "، فسمع ذلك اهل المدينة فلم يقم لهم ماتم بعدها الى اليوم إلا ابتدأ النساء فيه بالبكاء على حمزة....... ".
نكتة: حمزة سيد الشهداء عليه السلام تحققت له بعض اجزاء تجهيز الموتى من الكفن والصلاة والدفن والتشييع وغير ذلك الا النوادب، فعظم ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولكن الامام الحسين (ع) سيد الشهداء لم يكن له شيء من ذلك الا النوادب، بل قد زيد في ابتلائه مقابل ابتلاء الحمزة عليهما السلام خلاف التمثيل بالجسد باستخراج كبد الحمزة، فقد زاد بلاء الحسين على الحمزة بالرض قبل وبعد الشهادة و تقطيع الجسد المبارك اربا اربا فكان الجرح على الجرح والطعنة فوق الطعنة وتكسير الضلوع والبدن السليب وقطع الاصبع وضرب الجبهة والغدر والموت عطشا وتقتيل اهل بيته واولاده واخوته وابناء اخوته وابناء عمومته قبل شهادته...........، حتى نادت اخته المباركة زينباً الكبرى عليها السلام بصوت حزين اخذت تنادي رسول الله صلى الله عايه وآله وسلم ليشهد الندبة، لكن قد منعوهن فيها، بل ومن البكاء، بل ومن اجراء الدمع، حتى اشبعوها ومن معها من الاطفال والنساء ضربا بالسياط حتى اسودت اجسامهم من شدة الضرب والزجر لهن وللاطفال
فهلم نبكي عليه وعلى مصاب محمداص وأهل بيته الاطياب (ع) بكاء قرابة حقيقية ان كنا من الموالين بأدنى درجات الولاء والانسجام معهم ومع خطهم القويم، فمن لا يبكي كذلك فهو عاق قاطع الرحم.
القسم الثاني: الرقة لعلقة الالتحام التي هي من اعظم القرابة نظير العضو من الانسان اذا عرضه مرض ووجع يكون الوجع في الكل، ومن هذه الجهة بكاء الحور العين، ولطمهن على الامام الحسين (ع) في الجنان التي هي دار السرور وذلك لان لكل من المخلوقات مادة، وقد خلقت الحور العين من نور الحسين (ع)، فهي ملتحمة به (ع) ومع ذلك كيف يمكن ان يكون واقعا على الارض تحت سنابك الخيل ورأسه المبارك على الرمح ودمه الطاهر مسفوك على الارض وفؤداه مثقوب وكبده مقرح وقلبه محترق ونساءه واطفاله مسبيات قد حرقت خيامهن قبل شهادته وسبين بعد شهادته.........، وتبقى الحور في القصور بأنعم بال واحسن حال!!.
ومن جملة اقسام البكاء: بكاء الشيعة عليه هذا القسم ايضا، وذلك في رواية عن الصادق (ع) قال: " شيعتنا منا وقد خُلقوا من فاضل طينتنا، وعُجنوا بنور ولايتنا، ورضوا بنا ائمة، ورضينا بهم شيعة، يصيبهم ما اصابنا، ويبكيهم ما ابكانا، ويحزنهم حزننا، ويسّرهم سرورنا، ونحن ايضا نتألم بتألمهم، ونطلع على احوالهم، فهم معنا لا يفارقونا ونحن لا نفارقهم "، ثم قال (ع " (اللهم ان شيعتنا منا فمن ذكر مصابنا وبكى لأجلنا، استحى الله تعالى ان يعذبه بالنار ".
وفي حديث الاربعمائة عن امير المؤمنين (ع) " ان الله تبارك وتعالى اختارنا، واختار لنا شيعة ينصروننا، ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، ويبذلون انفسهم واموالهم فينا، اولئك منا والينا ".
فدّلت هذه الرواية على ان مخلصي الشيعة اختارهم الله تعالى كما اختار الشهداء، بل شهادتهم.
وفي ذلك علامات كما استدل الرسول الاكرم (ص) من المحبة الخاصة للطفل الذي رآه يلعب مع الامام الحسين (ع) على انه يكون من انصاره في واقعة كربلاء.
فلاحظ علاقة الشيعة في نفسك وهلمّ نبكي عليه لذلك فان من لا يبكيه ولا يواليه ولو بأدنى درجات الولاء، فانه يكون لا علاقة له معه، ومقطوع عنه، فهلمّ نتألم لمصابه.
فالحسين (ع) يتألم لآلامنا ايضا وكفى بذلك عزة لنا وفرجا، وانه عليه السلام يصلنا ايام تالمنا في احلك عواقب حالاتنا، اللهم صلي على محمداً حبيبك المصطفى وآله الاطهار المعصومين وعجّل في فرجهم يا الله.
القسم الثالث: الرقة على المصيبة، لكون المصاب صاحب حق عليك، والحقوق كثيرة.
منها: حق الايجاد: وهو حق الوالدين والاجداد، والحسين (ع) له علينا هذا الحق، فإن وجودنا ووجود آبائنا ببركة وجوده.
ومنها: حق الاسلام والايمان: وهو ثابت لكل مسلم على كل مسلم، فكيف يكون حق من صار سببا لهدايتنا الى الايمان.
فإن الحسين (ع) قد فدى نفسه لهذا الدين، ومعنى هذا انه لو لم يتحمل تلك المصائب والمصاعب لما كان هناك اسلام ولا مسلمين، ولا نقول الا كما قال المصطفى (ص) " الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء "، وهكذا اقتضت حكمة الله تعالى ان يكون دوام الاسلام وحفظه بالحسين عليه السلام ووكما جاء ايضا بالحديث المبارك ان الله تعالى أبى أن بجري الامور الا باسبابها " والحمد لله عز وجل.
وذلك انه لما استولت بنو امية، لعنهم الله، على البلاد، واظهروا الفساد، سعوا جاهدين في اخفاء الحق حتى شبّهوا الامر على الناس، بحيث جعلوا سبّ الامام امير المتقين علي عليه السلام من اجزاء الصلاة، وادخلوا في اذهان الناس ان بني امية ائمة الاسلام حقا، ورسخ هذا الباطل في اذهان الناس منذ طفولتهم، حيث انهم اجبروا المعلمين على ان يلقّنوا الاطفال والاجيال في مكاتبهم ومدارسهم هذا الامر فاعتقد الناس ان هؤلاء ائمة الدين، وان مخالفتهم ضلالة.
فلما قتل الحسين عليه السلام ومن معه بهذه الكيفية، وسبيّ من سبيّ بهذه الطريقة المخصوصة، تنبه الناس والتفتوا الى ان هؤلاء لو كانوا ائمة حق ما فعلوا ذلك ابدا.
ورأوا ان فعلهم هذا لا يطابق دينا ولا مذهبا ولا عدلا، بل ولا يطابق جور الجائرين على مر التاريخ.
فعدلوا عن الاعتقاد بهم، وتبرؤوا منهم، وعدل - من هداه الله - الى الحق وظهرت الشيعة بشكل جليّ وواضح بعد ان كانوا مستضعفين مظلومون.
واما السنة فعدلوا عن اعتقاد خلافتهم، وعلموا انهم حكّام جور، وجوّزوا لعنهم، والحقيقة ان الاهتداء الى الدين الحق بعد ذلك الانحراف بدأ من ثورة الحسين عليه السلام.
ومنها: حق الزاد والملح فإن به حياة كل شيء: وبه ينزل الغيث وينبت النبات، فجميع طعامك وشرابك انما هو ببركته
ومنها: حق الإحياء: اوليست حياتنا الحقيقية اعني الروحية والايمانية هي ببركة الحسين عليه السلام،؟ اوليست اعمالنا كلها بهدايته لنا؟!
ومنها: حق الاسلام: وسلامتنا الحقيقية مرجوة من الحسين عليه السلام.
ومنها: حق الوداد: فهل يودّ شخص شيعته مثل الحسين (ع)؟! الذي هو الى يمين العرش ينظر الى زواره والى الباكين عليه؟ كما جاء في الروايات المعتبرة.
ومنها: حق التعب: فلو ان شخصا اصابه صدع او جرح يسير بسببك لكنت خجلا منه ابدا، وبصدد تدارك تعبه، افلا تكون بصدد تعب الحسين عليه السلام وما اصابه؟ وليت شعري بأي شيء نتدارك تعبه لنا؟ ابهذه القطرات من الدمع؟ ام بالسير الاعتقادي والعملي على نهجه المحمدي القويم؟ وهل نحن صادقين بهذا؟
فهلّموا نبكي عليه لأداء حقوقه علينا، فمن لا يبكيه لا عهد له ولا وفاء، ولا ننسى ان البكاء عليه هو ادنى درجات الوفاء لهم.
القسم الرابع: الرقة على المصاب، لانه كبير وجليل، فان لمصاب الكبير، خصوصية توجب رقة القلوب عليه ولو كان اجنبيا بل ولو كان كافرا بل ولو كان عدوا، وبذلك جرت سيرة الملوك ايضا كما في قضية ذي القرنين مع دارابن دارا
وقد جرى حكم الشارع ايضا على ذلك، ولذا رمى النبي المصطفى (ص) ثوبه لعدي ابن حاتم زمن كفره ليجلس عليه وقال: اكرموا عزيز قوم ذل، ولأجل هذا لم يسلب علي (ع) ثياب عمرو بن عبد ود لما قتله، بل ولا نزع درعه، مع انه لم يكن له نظير، فقيل له في ذلك فقال (ع) " انه كبير في قومه وما اُحب هتك حرمته في بقائه عاريا ".
ولأجله ايضا جعل الشارع لبنات ملوك الكفار اذا اُسرن واسترققن حكما اخر من الاحترام فيخّيرن ولا يعرضن على البيع في الاسواق.
فهلمّوا نبكي عليه بكاء العبد على سيده، وبكاء له لانه جليل وكبير هتكت حرمته وسلب ثوبه ودير بحريمه واطفاله اسارى من بلد الى بلد حتى طُمِعَ فيهن كالجواري، فمن لا يبكيه كذلك لا مقام له ولا يعرف قدر احد.
القسم الخامس: " الرقة على من كان ذا صفات حميدة، فإن حسن الصفات ومحمودها توجب الرقة على المتصف بها وان لم تعرفه، بل قد ورد عن الشرع احترامه ولو كان كافرا، كما اوحى الله تعالى الى موسى النبي عليه السلام: لا تقتل السامري فانه سخي.
وكما نزل جبرئيل عليه السلام من الله تعالى بالنهي عن قتل احد اسرى الكفار لكونه يطعم الطعام.
فمصاب صاحب الصفات الحسنة يؤثر في القلب اياً كان هذا الشخص، خصوصا المصاب بما يقابل مقتضى هذه الصفات.
فاذا رأيت من كان يهب الألوف قد احتاج الى لقمة خبز يسأل الناس عنها لرق قلبك عليه بالخصوص، كذا من كان ذا حياء مهانا في ملأ من الناس وهكذا.
فاذا لاحظت صفات سيد الشهداء وخصوصياتها ونظرت الى التطابق بينها وبين خصوصيات مصائبه كان ذلك موجبا لرقة خاصة عليه وبكاءً مخصوصا عليه.
فهلمّوا نبكي عليه بكاء مقابلا لصفاته الحميدة العليّة، فاستمع لمصائب خاصة في مقابلة صفات خاصة:
الاولى: ان لسانه قد ذكر الله تعالى قبل خلق السموات والارض، وهلل الله فتعلمت الملائكة منه التسبيح والتحميد، ثم ذكر الله تعالى في عالم النور والاشباح والظلال، ثم في بطن امه الزهراء (ع) والتي كانت تسمع منه التسبيح والتهليل، ثم حين ولادته المباركة، ثم ايام صغره وصباه وكبره، ثم حين شهادته، ثم حين كون رأسه على الرمح، أفيحق ان يقرع وجهه الشريف بالخيزران بيد مثل يد يزيد وابن زياد في تلك الحالة ويضحكا ويشمتا به بمحضر أهله؟
الثانية: انه عليه السلام رأى اعرابيا لا يحسن الوضوء فاتفق مع اخيه الحسن المظلوم (ع) على ان يتوضا كل منهما بمحضره.
فقال الحسين (ع) للاعرابي أيُنا يحسن الوضوء؟ فقال الاعرابي: كلاكما تحسنانه، روحي لكما الفداء، ولكن انا الذي لا احسنه.
فهو (ع) قد تحرج من ان يقول للجاهل، انت جاهل، لئلا يكسر قلبه مع انه جاهل حقيقة، فكيف حاله هو حين خوطب بخطابات لا تليق الا بأعداء الله تعالى؟ فقد قال له قائل: تعجلت بنار الدنيا، وقال له الحصين بن تميم: حين اراد الصلاة: انها لا تقبل منك، لعن الله اعداء اولياءه.
الثالثة: اعطاه رجل رقعة، فقال له الامام (ع) فورا حاجتك مقضية، فقيل له: لولا قرأتها، فقال (ع):) يسألني الله تعالى يوم القيامة عن ذل مقامه بين يدي حين اقرأ رقعته.) يعني انه قد يتردد بين الخوف والرجاء حتى اقرأ الرقعة فيصيبه ذل بين يدي ولا اُحب ذلك.
فكيف كان حاله حيث وقف بين ايدي اهل الكوفة يسألهم امورا يعلم انهم لا يفعلونها، فطلب الانصات لكلامه حينما اراد ان يتكلم معهم فكانوا يتصايحون، فقال (ع) " ويلكم الا تسمعون الا تنصتون".
الرابعة: حضر عليه السلام عند اسامة بن زيد حالة احتضاره، فتأوه اسامة وقال يا غماه، فقال (ع) " يا اخي لِما تأوهت وما غمك؟ قال اسامة: عليّ دّين مقداره ستون الف درهم، قال الامام الحسين (ع) " عليّ قضاؤه "، قال: اٌحب ان يقضى وانا حي، فقضاه في مجلسه.
افيحق لمثل هذا الرحيم الرؤوف الامام المعصوم (ع) ان يتأوه ويتلهف ويلتمس في حالة احتضاره امورا هينة يسيرة، ولا يُقضى له منها حتى قطرة من الماء؟ واأسفاه وواغماه ووالهفاه وواكرباه عليك يا مولاي وسيدي الحسين.
الخامسة: وقف اعرابي عليه وهو يصلي فقال:
لم يخب الان من رجاك ومن حرّك من دون بابك الحلقة
فدخل الدار وشدّ اربعة آلاف دينار في ردائه ودفعها اليه من رواء الباب حياءً منه وقال:
خـذها فـإنـي الـيك معتذر واعلم بأني عليك ذو شفقة
لو كان في سيرنا الغداة عصا امست سمانا عليك مندفقة
لـكـن ريب الزمان ذو غِيَرٍ والكف منـي قـليلة النفقة
فبكى الاعرابي، فقال له (ع) " استقللت العطاء؟ قال: لا ولكن كيف يأكل التراب جودك.
فبكاء الاعرابي كان على دفن يده في التراب، ولا ننسى ان تلك اليد في حينها لم تكن مدماة قطيعة الاصبع حمراء تشخب دماً زاكيا.
ولكن نحن نبكي على الذي كان حياؤه بمرتبة يخجل معها حتى عند عطائه لمبلغ كثير من المال لسائل غير مضطر.
فكيف يكون خجله اذا سأله احد المضطرين شيئا ولم يعطه لعدم تمكنه وهو الكريم الرحيم على عباد الله تعالى وعلى خلقه، أم كيف كان حاله حين سالته ابنته الصغيرة شربة ماء، وهو يرى حالها من العطش، وسالته زوجته قطرة ماء لولده الرضيع، بل ولرضيع ثانٍ، واعظم من ذلك انه طلب منه ابن اخيه ان يحضر على جسده حال وقوعه فجاء ولم يدركه حياً.
فلذا قال (ع) " يعز على عمك ان تدعوه فلا يجيبك او يجيبك فلا ينفعك ".
السادسة: وُجد يوم الطف في ظهره اثرا، فسألوا السجاد عليه السلام عن سببه، فقال (ع) " ذلك مما كان ينقل على ظهره من الطعام قي الليالي للارامل والايتام والفقراء والمساكين ".
فهل من الانصاف ان يمنع من سقي طفل له رضيع قطرة من الماء؟
السابعة: مرّ يوما على مساكين وقد اخرجوا كسرات من الخبز ليأكلوا فدعوه الى طعامهم فثّنى وركه وجلس يأكل معهم، وهو يقول: ان الله لا يحب المستكبرين، ثم قال: قد اجبتكم فاجيبوني، فقالوا: نعم، فأتوا منزله فقال للجارية: اخرجي ما كنت تدخرين، فجاءت بأطيب الطعام، فجلس يأكل معهم سلام الله عليه ليطيّب قلوبهم.
وقد سعى (ع) كثيرا في ان يطيب قلوب نساء واطفال عطاشى بشربة من الماء فلم يمكنوه من ذلك.
القسم السادس: البكاء للتبعية، فانه قد يتحقق البكاء تبعا للباكين مع قطع النظر عن المبكى عليه، فابك تبعا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلكم فيه اسوة حسنة، لا بل تبعا للانبياء والاوصياء، لا بل تبعا للسموات والارضين او الوحوش او الطيور او الجنة او النار او ما يُرى وما لا يُرى او الجن او الملائكة، او ابك تبعا للاشجار او تبعا للحجار.
فأي قلب هو اقسى من الحجر، او تبعا للحديد فقد بكى مسمار سفينة نوح النبي عليه السلام دماً كما جاء دليل ذلك كله في الاحاديث والروايات، فابك دماً تبعا له.
القسم السابع: الترحم للجنس، فإنه يوجب الرقة مع قطع النظر عن كل صفة وحق وعلاقة، مثلا اذا سمعت ان رجلا بلا تقصير اتى الى برية ومعه اولاد اطفال ونساء وشباب واخوان واصحاب واقارب فجرى عليه ما جرى لاحترق قلبك اسىً وألما عليه.
بل لو سمعت ان رجلا مقصرا، او محللا للحرام او محرما للحلال، او عدوا لك، او كافرا بالله تعالى، صُنع به ما صُنع مع امامنا الحسين عليه السلام لرحمته ورأفت بحاله، وقد كان يقول (ع) " هل تطالبوني بقتيل قتلته؟ او بمال لكم استملكته؟ او شريعة بدلتها؟ "
اقول: فدتك نفسي لو كنت كذلك لما كنت مستحقا لما وقع عليك، فليست هناك جناية هذه عقوبتها، بل انه ليس متعارفا لدى القساة الفسقة المنافقون في طول تاريخ البشرية جريمة كما فـُعل بك يا حسين يا حسين.
فهلمّوا نبك عليه بكاء ترحم عليه فمن لا يبكيه كذلك لا مروّة له ولا انسانية سوية.
القسم الثامن: البكاء لهذه الصفات بأجمعها، بل ولغيرها من صفات حسنة للامام لم نذكرها بل لم يكتبها التاريخ من الصفات والمواقف الحسنة النورانية.
فالحسين (ع) والدك حقيقة وانت ملتحم به، وهو كبير في السموات والارض، صاحب كل الحقوق عليك، صاحب الصفات الحميدة، بكى عليه جميع الخلق، وهو من البشر ولا ذنب له ولا جرم، وقد وقع عليه كل ذلك، فمن لا يبكيه كذلك فهو عاق شاق بلا وفاء وبلا عهود، ولا يعرف قدرا ولا مروة له، وهو خارج عن الحقيقة الانسانية.
النوع الثاني: البكاء من غير سبب ملحوظ وله افراد:
الاول: كل خضوع وانكسار وخشوع وهم وغم يعرض للناس فإن مرجع الكل الى الحسين (ع) ولهذا المطلب مقدمات ليس هنا محل بيانها.
الثاني: الرقة عليه بالفطرة التي فـُطر الناس عليها من غير اختيار، مع التفات الباكين الى انه رقة على المبكي عليهم، ويكون ذلك في احبائهم وفي اعدائهم، مع الغفلة عن بغضهم فيغلب جانب الرقة بحيث يوجب الغفلة عن البغض.
وذلك كبكاء يزيد حين رأته هند، وبكاء معاوية على علي عليه السلام، وهذا القسم لا نحتاج فيه الى ان نقول: هلمّ وابك على اي شيء، بل نقول: اقطع النظر عن كل شيء، فافرض انك لا تعرف الحسين الشهيد عليه السلام، ولا تعرف قرابة ولا حقوقا ولا صفات ولا جلالة، وافرض انه لا ثواب للبكاء عليه ولا اجر ولا تبعية لاحد، فلاحظ هل يجري الدمع بلا اختيار ام لا؟
الثالث: فطرة توجب الرقة بلا اختيار مع الالتفات الى جهة البغض ومنع النفس عن الرقة وتشجيعها على التصبر، فمع ذلك يغلب البكاء كبكاء ابن سعد، وبكاء اخنس ابن زيد، وبكاء خولي وبكاء السالب لحلي فاطمة بنت الحسين عليهما السلام، وبكاء العسكر كله حين عرضت عليهم حالات ابكتهم مع منع انفسهم عن البكاء، والتفاتهم الى جهة بغضهم، وعدم رغبتهم في البكاء، ومنافاته لما هم فيه وبصدده من مواجهة امام زمانهم ومعاداته وقتاله.
ولكنه غلب على كل حالاتهم، حتى على شقاوتهم وخبث طينتهم، وفيهم ما فيهم من اولاد زنا وكفر ونفاق وشقاق وكفر.
فاذا اردت ان تعرف هذه الحالة المبكية لمن كان عدوا له مع التفاته لعداوته ومنع نفسه عن البكاء، فاستمع ثم امنع نفسك عن البكاء تجد انه يغلب عليك البكاء تلو البكاء بلا اختيار.
فلنذكر الان بعضها ولا نقول: هلمّوا لنبكي، بل نقول: امنعوا انفسكم عن البكاء واضبطوها وتجلدوا فانظروا هل تقدرون حقا على ذلك حينا ما؟
فمن تلك الحالات، ما كان فيها واقفا في الميدان وفي بدنه ألف وخمسمائة اصابة، الضربة فوق الضربة والجرح على الجرح والرض على الرض والضرب على الضرب.......، والرأس مشقوق والقلب مقسوم ظاهرا من السهم، وباطنا من ملاحظة العيال والنساء والاهل ومن معهم من الارامل والمواليات واليتامى، بل وابناه الرضيعان.
ومحترق ظاهرا من العطش وباطنا من الفراق وضياع الاسلام، بل ومن هلاك مقاتليه بأن يكون مصيرهم الى النار بسببه، وهذه رحمة لا تتوفر عادة الا لدى الانبياء واوصياء الانبياء عليهم السلام وما هذا إلا لنعلم عظم قدرهم وحكمة الله تعالى في خلقهم.
نعم وباطنا من الفراق، وفي هذه الحالة يُضرب بالسيف على مذبحه، وهو يستسقي ماء، فامنع نفسك عن البكاء فقد بكى ابن سعد على هذه الحالة وسالت دموعه على لحيته.
ومنها حالة ادخال النساء والعيال والرؤوس المنصوبة على الرماح على يزيد، اذ وضعت الرؤوس، ووقفت البنات والنساء والارامل والعليـل الامام المعصوم (ع) مقيدون، فحصلت هيئة فظيعة اوجبت غلبة الرقة على يزيد لعنه الله حتى قال: قبّح الله ابن مرجانة.
التعلیقات