مقارنة بين المنهج الإسلامي والمنهج المادي في بناء الاُسرة (رابعاً : الشمول والكمال)
عبّاس الذهبي
منذ 9 سنواترابعاً : الشمول والكمال :
لاشكّ بأنّ المنهج الإسلامي أتمّ وأكمل المناهج السماوية فضلاً عن المناهج الوضعية
، لقوله تعالى : ( .. اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً .. ) (1).
ولا نبالغ إذا ما قلنا بأن البشرية لم تعرف في تاريخها كلّه نظاماً للاُسرة بهذه السعة وهذا الشمول ، وقد رأينا في الفصلين السابقين كيف أولى الإسلام عناية فائقة بالاُسرة قبل التكوين وأثنائه ومن بعده ، فبيّن طريقة اختيار الزوجين وكيفية إنشاء عقد الزواج ، وطريق المعاشرة الحسنة ، وأرشد كلاًّ من الزوجين إلى ما له من حقوق وما عليه من واجبات ، ولم ينس أنه قد يثور النزاع بينهما لسبب أو آخر فوضع العلاج المتدرّج المناسب لكلِّ حالة ثم وضع الطريقة المثلى لإنهاء عقد الزواج إذا ما استحكم الخلاف ، وباءت الحياة الزوجية بالفشل.
ومما يسترعي الانتباه أن منهج الإسلام الاُسري لم يقتصر على النواحي التشريعية والاجرائية كما هو الحال في النظم الوضعية التي تعين المادة القانونية وتفرض الجزاء المناسب عند خرقها وعدم الالتزام بها ، بل إنه يتضمن مجموعة كبيرة من التعاليم الوقائية التي تساهم في تدعيم نظام الاُسرة وتحول دون انهياره.
ومن ذلك اختيار الزوج والزوجة وما يتعلق به من تعاليم وقائية رائعة لها بالغ الأثر في بناء الاُسرة وتشييد مقوماتها ، كقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للشباب : « إيّاكم وخضراء الدمن. قيل : يا رسول الله وما خضراء الدمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء » (2).
وفي هذا الصدد نصح الإمام الرضا عليه السلام أحد الآباء بقوله : « ... إيّاك أن تزوج شارب الخمر فان زوّجته فكأنّما قدت إلى الزنا » (3).
من جهة ثانية يتصف منهج الإسلام الاُسري بالثبات وعدم التغير وبالصلاحية لكلِّ زمان ومكان ، وبالمقابل إذا نظرنا إلى القوانين الوضعية في أصل نشأتها نجدها على الإطلاق ضيقة بحسب الجماعة التي وضعت من أجلها ثم أخذت تنمو مع الزمن ، فهي عرضة للتغير والتبديل ، ما تغير الزمن وتبدّل ، وهي تختلف باختلاف البيئة أيضاً ، فلكلّ دولةٍ الحق في وضع القانون الملائم لها ، ومن أجل ذلك لا تجد قانون دولة يصلح لدولة اُخرى.
خذ مثالاً على ذلك القانون الفرنسي : فقد قامت الثورة الفرنسية سنة ( 1789م ) لتقرير حقوق الأفراد ، نتائجها أن صدر القانون في سنة ( 1804م ) مقدراً حقوق الفرد باعتباره أهم عنصر في الحياة ، ولا يلاحظ أنه جزء من الجماعة ، فكان قانوناً فردياً ترد للفرد فيه الحرية التامة في استعماله ، وعرفت هذه الحقوق إذ ذاك بالحقوق الطبيعية للأفراد ، ولم يخالفه غيره من القوانين الغربية كثيراً في هذا المبدأ ، ولكن الذي حدث أن الفرد أساء استعمال حقوقه فألحق الأضرار بغيره.
ثم جاءت القوانين بعد ذلك تقيده شيئاً فشيئاً حتى انتهى التقييد إلى ظهور نظرية : ( التعسّف في استعمال الحقوق ) ولمّا وصلوا إليها ظنّوها جديدة ولكنّها كانت مقررة في شريعة الله سبحانه قبل أكثر من أحد عشر قرناً من الزمن (4).
أما المتتبع للمنهج الإسلامي فإنّه يلاحظ شموله لمصالح الفرد والجماعة التي تشاركه في العيش وخاصة أُسرته أقرب المقربين إليه ، فالتشريع الإسلامي يُوقف كل فرد عند حدّه إذا أساء استعمال حقوقه وألحق الضرر بغيره ، قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : « .. ألا وإنّ الله عزَّ وجلّ ورسوله بريئان ممّن أضرَّ بامرأة حتى تختلع منه .. » (5).
_____________________
1) سورة المائدة : 5 / 3.
2) معاني الاخبار : 316.
3) فقه الرضا : 38.
4) التشريع الإسلامي والقانون الوضعي / الدكتور شوكت محمد عليّان : 200.
5) عقاب الاعمال : 249 ـ 262 / جوامع مناهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
التعلیقات