وراثة النساء
شبكة كربلاء المقدسة
منذ 8 سنواتبِسْمِ أللهِ ألرَحْمَنِ ألْرَحِيْمِ
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ
بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»(1)
مباحث ألآية الكريمة
المبحث ألأول : الجانب المدني والحضاري في حياة ألإنسان
إن الفترة التي بدأت بنزول القرآن الكريم تعتبر نقطة فاصلة بين حضارتين : حضارة ألإسلام، وحضارة الجاهلية، حيث نزل القرآن ليغير المجتمع، فجاء بقيم تختلف عن القيم الجاهلية السابقة، ومن الصعب تبديل حضارة بحضارة، مع أن من السهل تغيير المدنية كسكن ألإنسان حيث يمكن تغييره من الخيمة إلى القصر, وكذلك وسائل النقل، ولكن من الصعب تغيير عادة لإنسان كان قد درج عليها هو وآباؤه وأجداده، فنحن نحتاج إلى زمن طويل لإجراء هذا التغيير، ولذا ينشأ التخلف الحضاري . فالشق المادي من الحضارة من السهل تغييره لكن الشق الفكري يصعب تغييره، ويحتاج إلى فترة طويلة لتحقيقه، ومن هنا نشأت صعوبة معالجة القيم البدوية التي كانت سائدة آنذاك عند نزول القرآن .
النظرة إلى المرأة هي إنعكاس عن جملة من الأوضاع
وقيم الجاهلية ومواريثها لاتزال نعيشها إلى ألآن، صحيح أننا مسلمون ونصلي ونصوم، ولكن عند الرجوع إلى داخلنا نرى الجاهلية تعيش في صدورنا، ومن جملة هذه المسائل مسألة (النظرة إلى المرأة)، فنحن نعرف أن المجتمع البدوي ينظر إلى المرأة على أنها كيان ضعيف، لا يصلح أن يكون نداً للرجل . وهذه النظرة هي إنعكاس عن ألأوضاع ألإقتصادية وألإجتماعية والعقيدية :
ألإنعكاس عن ألأوضاع ألإقتصادية
إن ألأوضاع ألإقتصادية في الجزيرة العربية آنذاك كانت تقوم على أساس ألإبتزاز والسلب والنهب :
يُغار علينا واترين فيشتفى بنا وإذا غرنا نغير على وتر
بذلك نقضي الدهر شطرين بيننا فلا ينقضي إلا ونحن على شطر(2)
فهذه حضارتهم إما أن ينهبوا أو يُنهبوا، وهذه هي الصورة السائدة في المجتمع آنذاك، ولذلك نجد آثارهم طافحة بهذا المعنى . وكان لهذا الوضع ألإقتصادي إنعكاسه البين، حيث إن الذي يقوم بالسلب والنهب هو الرجل أي ـ النصف الخشن من المجتمع ـ أما النصف ألآخر فهو ضعيف غير منتج فلا يستحق الحياة، ولذلك نجد أحد شعرائهم يبرر دفن البنت بقوله :
القبر أخفى سترة للبنات ودفنها يروى من المكرمات
ألم تر الرحمن عو إسمه قد وضع النعش بجني البنات(3)
فهذه المجموعة الكوكبية في السماء نسميها بنات نعش، أي إذا وجدت البنت وجد النعش إلى جانبها، أي نقتلها وهي حية .
ألإنعكاس عن ألأوضاع الإجتماعية
أما بخصوص ألإنعكاس عن الوضع ألإجتماعي، فقد حصلت مجموعة من القضايا جعلتهم يعتبرون البنت عارا، فنتيجة الغزو بين القبائل يحصل السبي، والمرأة قد تسبى، وهي حينئذ إما أن تتزوج أو تتعلق بمن يغزوها، فيقولون : إن هذه المرأة قد أورثت القبيلة عارا، بوقوعها تحت طائلة السبي، ولذا فإن ألأفضل لها ولنا أن تموت .
ألإنعكاس عن ألأوضاع العقيدية
أما ألإنعكاس عن الوضع العقيدي فقد جاؤوا بأمور من وضعهم ما أنزل ألله بها من سلطان، منها أن المرأة لا تساوي الرجل بل هي أقل منه، فلذا كانوا يحتقرونها ويستخدمون أبشع الوسائل في معاملتها . وحتى عندما كانوا يريدون أن يعبّروا عنها فإنهم يستخدمون عبارات تناسب كونها منحطة عن الرجل كما هو السائد في نظرهم . وهذا شيء غير طبيعي وغير فطري، ويؤدي إلى تدهور المجتمع بضياع ودمار نصفه حيث إن المرأة تمثل نصف المجتمع، بل المجتمع كله إن تجوزنا، لأن ما ينعكس على المرأة ينعكس على ألاسرة، إذ أنها عماد ألاسرة . وكانت هذه عادتهم الدائبة إلا نادرا .
تقول ألآية : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ» ، اي يا من آمنتم برسالة السماء، بعد أن أصبحتم مؤمنين لا تظلوا متمسكين بالقيم التي كانت سائدة عندكم في الجاهلية، ولا تبقوا عليها، فإنها قد إنتهت وينبغي قطع الحبال منها، فلا يجتمع ألإسلام مع الجاهلية ابدا . غير أن المصيبة أنهم يجمعون بينهما، يقول القرآن الكريم : «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ»(4)، فمع أنه يشهد الشهادتين تجد محتواه ومضمونه يعيشان قيم الجاهلية بكل أبعادها، فهو يؤمن بألله ويعبد عشرين إلها في داخله، حيث يعبد إله العصبية (5) والهوى(6) وإله الميراث ألإجتماعي . فينبغي التفريق بين هذا وذاك وأن يجرد ألإنسان نفسه من المحتويات التي تقابل الاسلام وتجعله يتخذ منها ندا للإسلام .
المبحث الثاني : نظرة ألإسلام إلى المرأة
« لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْها» قبل الدخول للمقطع، قد يسأل سائل : أنتم تنتقدون الجاهليين بمعاملتهم المرأة، والحال أن معاملتها عندكم لا تختلف عما في الجاهلية، فأنتم تروون عن ألإمام علي عليه السلام «المرأة شر كلها، وشر ما فيها أنها لابد منها»(7) ، وأنهن نواقص الحظوظ والعقول وألإيمان (8). وهذه غالبا تثار بإعتبار أن ألإمام عليه السلام يؤخذ على ألإسلام وعلى القرآن . ففي الرواية : «المرأة شر» فالام في « المرأة» إما للجنس ـ أي لجنس المرأة ـ أو للعهد أي لأمرأة معهودة معروفة، فإذا كانت للجنس فكيف يعقل أن يعبر عليه السلام عن المرأة أن كل جنسها شر ؟ فخديجة إمرأة وهي من قام نصف ألإسلام على كتفها وبمالها (9)، وآسية بنت مزاحم إمرأة وهي من خيرة المؤمنات، ومريم بنت عمران من خيرة النساء أيضا، وفاطمة إمرأة وهي من خيرة النساء، وكذلك المؤمنات الصالحات ممن نعتز إلى ألآن بمواقفهن كخولة بنت ألأزور وأم عمارة التي لا زالت موقفها تهز ألأعماق .
فهؤلاء النساء المؤمنات هل يعقل أن يعبر عنهن ألإمام عليه السلام بكونهن شرا ؟ هذا لا يصدر من ألإنسان العادي . وعليه فتكون (أل) هنا للعهد، أي أن المقصود بهذا إمرأة بعينها معروفة وضعيفة، كما لو كان ألإمام عليه السلام جالسا على دكة القضاء وإشتكى إليه رجل زوجته، فقال له ألإمام عليه السلام : «المرأة شر كلها، وشر ما فيها أنه لا بد منها ». فكأنه عليه السلام يخبره بأن اللابدية من حيث أنه لا يستطيع تركها لأن أطفاله سيضيعون . فهذه حادثة خاصة فلا تنسحب على الجميع .
فالسامع تصور أن كل إمرأة شر، فيكون قد أخذ نصف الواقعة وترك النصف ألآخر، ومما يروى في هذا المجال كما في مسند أحمد(10) وغيره (11) أن أبا هريرة دخل على عائشة، فقالت له : «يا أبا هريرة أنت الذي تحدّث أن إمرأة عُذّبت في هرة لها ربطتها لم تطعمها ولم تسقها ؟ فقال أبو هريرة : سمعته منه ـ يعني النبي صلى ألله عليه وآله وسلم ـ فقالت عائشة : أتدري ما كانت المرأة ؟ قال : لا . قالت : إن المرأة مع ما فعلت كانت كافرة، إن المؤمن أكرم على ألله من أن يعذبه في هرة، فإذا حدّثت عن رسول الله صلى ألله عليه وآله وسلم فأنظر كيف تحدّث » .
فهذا قد أخذ نصف الحديث وترك النصف ألآخر المهم الذي بسببه عذبت المرأة .
وكثير من النساء قد قمن بدور كبير وفعال في الحركات ألإصلاحية لا يقل عن دور مجموعة من الرجال، كما يقول الشاعر :
فلو كان النساء كمثل هذي لفضّلت النساء على الرجال(12)
فالمشرع ألإسلامي أعطى للمرأة دورا كما للرجل، غاية ألأمر أنه يختلف بإختلاف الميادين، وفي الحديث الشريف : « النساء شقائق الرجال»(13)أي انهن يمثلن شطر المجتمع، فإذا كان للرجل دور خارج الدار فإن المرأة لها دورها داخل الدار(14).
أما معنى «ناقصات حظ»، فهو أن البيئة الإقتصادية لا تنيط بالمرأة شيئا من التكاليف، بل إن الرجل هو المسؤول عن تكاليف الحياة، والمرأة مكفولة، ولذلك فإن ألإسلام يعطيها نصف الميراث بهذا ألإعتبار، في حين أن الرجل ينفق ما يحصل عليه من نصيبه في الميراث .
وأما معنى «ناقصات إيمان» ، فالصلاة من ألإيمان، فأنا حينما أصلي ركعتين فإن إيماني يزداد، والمرأة تضطر في أيام عادتها الشهرية لأن تترك الصلاة، وكذلك في النفاس، فتكون من هذه الجهة أقل حظا في ألإيمان من الرجل . لكن هذا لا يعتبر نقصا، فلو رجعنا للروايات الواردة لرأينا فيها نوعا من توزيع ألأدوار وتحديدها، وليست المسألة مسألة تفضيل أبدا .
ولذلك عالج القرآن هذه المسألة بالنص وبسيرة حملة القرآن، فهم نوافذ على القرآن، ولذلك فإن جملة من المذاهب ألإسلامية تعتبر رأي الصحابي مصدرا من مصادر التشريع، وتعتبر رأي الصحابي رأي ألإسلام، لأنه عاصر الشريعة وعاش مع الرسول صلى ألله عليه وآله وسلم، ورأى سيرته .
وعليه فألإسلام لا يعاملها معاملة الجاهلية، بل يعتبر الجنة تحت أقدامها (15)، ويكرمها غاية التكريم . لكن بعض الناس يقول : ينبغي توفير متطلبات الحياة المعاصرة للمرأة، فألإسلام لا يوفر ذلك لها . فما هي متطلبات الحياة المعاصرة ؟ إن متطلبات الحياة المعاصرة حولت المرأة إلى غريزة، وألإسلام ينشئ المرأة كموقف وليس كغريزة، وهي في ذلك سواء مع الرجل . وهناك فرق بين الموقف والغريزة .
أما الحضارة المعاصرة فالمرأة في نظرها مجرد غريزة، فهي تراها دمية جميلة يتلهى بها الرجل، وويأخذ منها وطره ثم يرميها . في حين أن ألإسلام ينظر إليها نظرة الند للند مع الرجل، ويتعامل معها بالمعاملة نفسها معه، ويرى أن الغريزة لإمتداد النوع لا أكثر . فلا يُتصور أنها تمارس حريتها في الحضارة المعاصرة، لا بل هي فيها عبارة عن قطعة تبدل كل حين مع أها هي الوسيلة لخلق المجتمع الطيب وألأولاد الصالحين فيه .
فمعطيات الحضارة المعاصرة لم تكرم المرأة كما كرمها ألإسلام، فها نحن نلاحظها تكدح صباحا ومساءً لغرض الحصول على رغيف الخبز في حين أن الإسلام يعتبرها مكفولة، وينيط الكدح والعبء بالرجل، ويفرغ المراة لتربية ألأسرة والقيام بأعمال لا تنافي فطرتها وأنوثتها ولم يحتقرها . يقول أحد شعراء الإسلام :
نحن كالماء والهواء لحي بنية الحي ماؤه والهواء
إن نأى بعضنا عن البعض فألأر ض على كل ما بها صحراء
فالمرأة شقيقة الرجل لتستمر الحياة الكريمة .
المبحث الثالث : معنى وراثة النساء
نرجع للآية ، فقوله :« لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء» ، فهنا صورتان :
الصورة ألأولى : أن العرب كانوا إذا مات الرجل منهم فإن أولياءه (وهم أخوة الرجل أو أبناء عمه أو أبناؤه من زوجة أخرى) يأخذون ميراثه ومن جملة الميراث المرأة . ولو كان عنده إبن من زوجة ثانية فإنه يلقي رداءه على المرأة فيمنعها . وهو هنا له معها أحد ثلاثة أمور :
إما أن يتزوجها وهذا يعبر عنه بنكاح المقت الذي ورد فيه النهي : «وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ»(16) . وإنما حرّمه الشارع المقدس لما يترتب عليه من مفاسد كبيرة منها عدم إحترام ألأب، وتحول ألأسرة إلى بؤرة من بؤر ألأنحلال ألخلقي، لذلك فإن ألإسلام كرم موطوءة ألأب بألا يدنو منها الولد . فكانوا يرثون المرأة وفق هذه الظاهرة كما يرثون المتاع .
وإما أن يزوّجها من يحب وإن لم ترغب هي فيه، ويأخذ هو مهرها المجعول لها مقابل نكاحها، ولا حق لأحد غيره فيه .
وأما أن يمنعهامن الزواج نهائيا .
فجاء ألإسلام وخاطبهم بأنهم أصبحوا مؤمنين، فلا يحل لهم أن يرثوا النساء كرها .
الصورة الثانية : لو أن إمرأة يموت ابوها ويورثها ميراثا ضخما، فإنهم يمنعونها من الزواج بحجة أنها لو تزوجت فستنقل ثروتها إلى زوجها، وهذا معناه إخراج الثروة إلى نطاق آخر . فكانوا يحجرون عليها ويعضلونها ويمنعونها من الزواج ثم يأخذون أموالها . وهذا كان منتشرا بينهم، فلما جاء ألإسلام نهاهم عنه « لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء». والقرآن الكريم يُشعّ منه جانب خلقي، فإنه يريد أن يقول لهم : إن المرأة ليست من جملة الميراث، بل هي آدمي ولا تقيّـّم بالمال، بل كمايراه بعض المذاهب ألإجتماعية المعاصرة التي إذا مرت بألإنسان فإنها تعبر عنه بأنه (ثمن + رأس مال) . وهذا يعتبر أمرا غليظا ليس فيه شفافية ولا تكريم للإنسان، وألله قد كرم بني آدم (17). وألإنسان إذا قتل تؤخذ لوليه الدية، فالدية عملية تأديب وعقاب، وهي ليست تثمينا للإنسان . وهذا هو مضمون الوثيقة التي أعلنها النبي صلى ألله عليه وآله وسلم حول حقوق ألانسان عندما حج حجة الوداع، حيث قال وهو على المنبر : «يا أيها الناس، أي يوم هذا؟». قالوا : يوم حرام . ثم قال : «يا أيها الناس، فأي شهر هذا ؟ ». قالوا : شهر حرام . ثم قال : «أيها الناس، أي بلد هذا ؟» . قالوا : بلد حرام . قال : «فإن ألله عز وجل حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه . ألا فليبلغ شاهدكم غائبكم : لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم »(18).
وقيل لأبي عبدألله عليه السلام : حديث يُروى عنك ؟ قال : «وما هو؟» > rdg : «إن حرمة المؤمن أعظم من حرمة هذه البنية». قال : «قلت ذلك، إن المؤمن لو قال لهذه الجبال : أقبلي أقبلت»(19).
وهكذا نرى أن حرمة المؤمن أعظم من حرمة الكعبة، فألإنسان ثمرة الوجود وسيد الكائنات، ولا يقّيّم بالمادة.
«كَرْهاً» أي أن فيه نوعا من ألإكراه وألإجبار وألإبتزاز، من حيث إنهم يعتبرونها كائنا ضعيفا لا حول ولا قوة . وفي الحديث الشريف : «ما أكرمهن إلا كريم ولا أهانهن إلا لئيم »(20).
ويقول ألإمام علي عليه السلام في وصيته للإمام الحسن عليه السلام : «وظلم الضعيف أفحش الظلم»(21).
فأفحش الظلم أن تظلم ضعيفا . والحال أن المرأة غير ضعيفة، لكنها كان ينظر إليها كذلك .
المبحث الرابع : ما معنى العضل في ألآية ؟ ومن المخاطب بها ؟
ولنا أن نسأل ك ما هو المقصود بالعضل في قوله جل وعلا : «ولا تَعْضِلُوهُنَّ» ؟ وهل الخطاب موجه فيها للأولياء أم للأزواج ؟ العضل هو المنع والمفسرون حول هذا فريقان : ألأول يقول : إن الخطاب للأولياء، حيث إن بعض ألأولياء يعضلهن بدون قصد، فمثلا ينتظر شخصا يحمل صفة الملائكة من وجهة نظره حتى يزوجه إبنته، بحيث يكون له رصيد مالي وثقافي، ومن أسرة محترمة، إضافة إلى مجموعة كبيرة من المقترحات وألإمتيازات. صحيح أنه لابد من الرجل المناسب «إبنتك كريمتك» ويجب أن تخطب لها مثلما تخطب لإبنك، لكن مع مراعاة ألأصول، وهي أنه إذا توفرت حدود الكرامة فهي كافية في الموافقة على هذا القادم : « ومن جاءكم ممن ترضون دينه فزوجوه» (22).
وهذه نقطة الكفاءة، أما أن يضع ألإنسان شروطا خيالية فإنه سيؤدي بذلك إلى فساد المجتمع .
وهذا نوع من أنواع العضل حيث إنك تعضلها أن تتزوج بالكفء، لأن تصورك أن هذا الكفء لا يناسبك ولا يصل إلى مستواك هو تصور خاطء، ثم إنه ما مستواك أنت؟ كان مالك بن دينار من ألأولياء المعروفين المتدينين، فرأى شخصا من أسرة إستقراطية محترمة ـ وهو آل المهلب ـ يمشي مشية غير طبيعية، فقال له : لو تركت هذه المشية لكان أليق بك. قال له : أو لست تعرف من أنا ؟ قال : بلى . قال : كيف تعرفني ؟ قال : أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت ما بينها تحمل العذرة(23) .
فوراءك الموت والقبر، وماذا سيحصل لجثتك بعد ذلك : «ألَمْ نَخْلُقُكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ»(24)؟
فنهايتك هي القبر، وستذهب المحاسن والعيون، وستعبث بالجسم ديدان ألأرض والهوامّ، ويحولك التراب إلى نوع مؤلم :
أعفر الثرى يا الف برج مكوكب يضم الوجو الزهر فضل نقابه
يقول الخيام في إحدى رباعياته ما معناه : إن تجلُ يد الربيع وكف السحب خد ألأزهار فإبتدر للشرب فإنها ستزدهي غدا بالعشب من جسمك .
فهذه الخضرة التي تجلوها يد الربيع هي عبارة عن أجزاء من جسمك قد تحولت إلى خضرة، فهو خدود وسواعد وعيون، فلماذا هذه الغطرسة والخيلاء ؟ فألإنسان أخو ألإنسان . فألآية تهيب بألأولياء ألا يكونوا سببا في الفساد بحيث يكثر العوانس والعزاب .
الثاني ويقول : إنه خطاب للأزواج، فالزوج يعضل الزوجة ـ أي يُكرهها ـ ويستخدم معها المضارة، بحيث ينغص لها عيشها، فلا يطلقها ولا يعاملها بإحسان . فهذا نوع من أنواع العضل .
فالقرآن يقول لهم : إن كنتم تؤمنون بألله فإن هذا الفعل منكم جاهلي : «وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ» فالبعض عنده زيادة في الخسة، فيستخدم هذه القسوة حتى تتخلى عن المال الذي أعطاه إياها، وتتنازل له عن حقها دون أن يعرف أن هذه العلاقة وهذه العشرة يجب أن تنحو منحى كريما، وإنما يتصور أنها تقوم على النفع المتبادل .
« إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ »، ففي الوقت الذي أكد القرآن على حفظ حقوق المرأة، اراد أن يحفظ المعادلة فقال : إذا جاءت المرأة بفاحشة مبينة فيحق لك أن تعاملها معاملة غير طبيعية .
المبحث الخامس : معنى الفاحشة المبينة
والفاحشة المبينة فيها ثلاثة آراء :
ألأول : أنها الزنا(25)، والحِجر الذي ينزل لهذا المستوى حِجر غير نظيف . فالمرأة في هذه الحالة تفارق وتطلق ويُضيق عليها زوجها حتى يأخذ منها ما أعطاها . ويوجد رأي للإمام مالك بأن يأخذ منها جميع ما عندها (26) ، ورأي آخر أنه يأخذ منها بعض ما أعطاها(27).
الثاني : أنها سوء العشرة (28)، اي تنغص عيشه دائما، فليس عندها أخلاق تجامله بها، ولا تقضي اموره، وتظهر عدم الطاعة . وبهذا تصيِّر جو البيت جحيما، ولذلك شرع ألله الطلاق . والطلاق ليس سهلا فهو يهتز له العرش (29)، لكن إذا تعذرت الحياة الكريمة فمن حق ألإنسان أن يأخذ بطريق الطلاق (30).
الثالث : أنها البذاء (31)، اي اللفظة النابية والكلمة التي تجرح الزوج، سواء كان بوجهه أو من وراء ظهره . وهذا ليس أفق أسرة محترمة، فالمفروض أن يكون ألإحترام متبادلا بين الزوجين، كي ينشأ ألأطفال على ألأخلاق الكريمة (32).
ثم إنتقلت ألآية «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»، فإذا كانت أجواء ألإنسجام مخيّمة على ألاسرة فبوسعك أن تعاملها بمعروف .
دخل رجل على رسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : يا رسول ألله، أخطب المرأة الجميلة أو ذات الدين أو ذات المال ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «إظفر بذات الدين تربت يداك»(33) .
وكذلك بالمقابل علينا بصاحب الدين، فإنه إذا أحب المرأة اسعدها، وإذا كرهها لم يظلمها، ذلك أن الذي عنده دين سيخضع لضوابطه ويتبناه، ولا يسيء العشرة . فالقرآن الكريم يأمر بالعشرة الكريمة، لأن الطفل بحاجة إلى أجواء كريمة ليعيش فيها . هذا مفاد ألاية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النساء : 19 .
(2) بحار ألأنوار 42 : 170 ، مقاتل الطالبيين : 200 ، شرح نهج البلاغة 3 : 310 ، 3016 .
(3) فيض القدير شرح الجامع الصغير 3 : 555 ، كشف الخفاء 1 : 407 / 1308 ، ذيل تاريخ بغداد 3 : 194 .
(4) يوسف : 106 .
(5) وقد قال رسول الله صلى ألله عليه وآله وسلم : «ليس منا من دعا إلى عصبية» . سنن أبي داود 2 : 503 / 5121 ، الجامع الصغير 2 : 466 : 7648 ، النهاية في غريب الحديث 3 : 246 ـ عصب ، كنز العمال 3 : 510 / 7657 .
(6) وقد قال تعالى : «وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»ألأعراف : 176 .
وقال : «وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً»الكهف 28 .
وقال : «فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى»طه : 16 .
وقال : «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً »الفرقان : 43 .
وقال :«فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»القصص : 50 .
وقال :«أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ»الجاثية : 23 .
(7) نهج البلاغة / الحكمة : 238 . قال إبن أبي الحديد في شرحه :
ألأصل : «المرأة شر كلها ، وشر ما فيها أنه لا بد منها».
الشرح : حلف إنسان عند بعض الحكماء أنه ما دخل باب شر قط . فقال الحكيم : فمن أين دخلت إمرأتك ؟
وكان يقال : أسباب فتنة النساء ثلاثة : عين ناظرة ، وصورة مستحسنة ، وشهوة قادرة . فالحكيم من لا يردد النظرة حتى يعرف حقائق الصورة ، ولو أن رجلا رأة إمرأة فأعجبته ثم طالبها فإمتنعت . هل كان إلا تاركها ؟ فإن تأبّى عقله عليه في مطالبتها كتأبّيها عليه في مساعفتها قدع نفسه عن لذته قدع الغيور إياه عن حرمة مسلم .
وكان يقال : من أتعب نفسه في الحلال من النساء لم يتق إلى الحرام منهن ، كالطليح مناه أن يستريح .
قدع نفسه : منعها وحدّ من شهوتها . والطليح : المتعب . شرح نهج البلاغة 19 : 69 .
(8) أنظر : الفقيه 3 : 39 / 3471 ، مسند أحمد 2 : 67 ، صحيح البخاري 1 : 78 .
(9) مناقب آل أبي طالب 1 : 345 ، بحار ألأنوار 41 : 25 .
(10) مسند أحمد 6 : 299 .
(11) المستدرك على الصحيحين 3 : 513 ، تحفة ألأحوذي 1 : 261 .
(12) شجرة طوبى 1 : 249 .
(13) مسند أحمد 6 : 256 ، سنن أبي داود 1 : 59 / 236 .
(14) قال أمير المؤمنين عليه السلام : «جهاد المرأة حسن التبعل» . الكافي 5 : 9 /1 ، الفقيه 3 : 389 / 4518 ، شرح نهج البلاغة 18 : 332 ، ونسبه في كنز العمال 16 : 141 / 44173 ، لرسول ألله صلى الله عليه وآله وسلم .
(15) مستدرك وسائل الشيعة 15 : 180 / 17933 ، مسند الشهاب 1 : 102 / 118 ، 1 : 103 / 119 ، كنز العمال 16 : 461 / 45439 ، ميزان ألإعتدال 4 : 220 .لا (16) النساء : 22 .
(17) قال تعالى : «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً» ألإسراء : 70 .
(18) الخصال : 487 ، عوالي أللآلي 1 : 161 / 151 ، بحار ألأنوار 21 : 381 ، مجمع الزوائد 3 : 20 ، صحيح إبن خزيمة 4 : 299 ، المنتقى من السنن المسندة (إبن الجارود النيسابوري) : 212 . (19) أنظر : ألإختصاص : 325 ، بحار ألأنوار 47 : 90 .
(20) الجامع الصغير 1 : 632 / 4102 ، كنز العمال 16 : 371 / 44944 .
(21) نهج البلاغة / الوصية : 31 .
(22) الكافي 5 : 347 / 2 ـ 3 ، الفقيه 3 : 293 / 4381 ، كنز العمال 6 : 495 / 45427 .
(23) وهو كلام مقتبس من حكم أمير المؤمنين عليه السلام ، يقول فيه : « ما لإبن آدم والعجب . وأوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة ، وهو بين ذلك يحمل العذرة ؟» . عيون الحكم والمواعظ (علي بن محمد الليثي الواسطي( : 479 .
(24) المرسلات : 30 .
(25) الفقيه 3 : 322 / 10 ، إكمال الدين : 254 ، صحيح مسلم بشرح النووي 10 : 102 .
(26) الجامع لأحكام القرآن 5 : 95 ، تفسير الثعالبي 2 : 195 ، فتح القدير 1 : 441 .
(27) تفسير القرآن العظيم 1 : 477 .
(28) التفسير الصافي 1 : 424 ، الحدائق الناضرة 25 : 527 .
(29) مكارم ألأخلاق : 197 ، مجمع البيان 5 : 304 ، وسائل الشيعة 22 : 8 ـ 9 / 27880 .
(30) وما حيلة المضظر إلا بكوبها . بحار ألأنوار 46 : 369 .
(31) مجمع البيان 10 : 304 ، ألأم 5 : 252 ، المجموع 18 : 178 .
(32) وإختار إبن جرير أنه يعم كله من الزنا والعصيان والنشوز وبذاء اللسان وغير ذلك فهذا رأي رابع . أنظر تفسير القرآن العظيم 1 : 477 .
(33) الكافي 5 : 332 / 1 ، مسند أحمد 2 : 428 .
التعلیقات