تحليل الملاكين في ضوء القرآن الكريم
المعاد الجسماني أوالروحاني
2024 Sep 19المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج٤ ، ص ٢٧٩ ـ ٢٨٥
(٢٧٩)
تحليل الملاكين في ضوء القرآن الكريم
اذاكان الملاك في توصيف المعاد بالجسماني أو الروحاني هو كون المحشور هو
الجسم الحي وحده أوالروح وحدها ، فالقرآن الكريم يصدّق الأول وينكر
الثاني ، وذلك أنّ مَن أمعن النظر في الآيات الواردة حو ل المعاد يقف على أنّ المعاد
________________________________________
(٢٨٠)
الّذي يصر عليه القرآن هو عود البدن الذي كان الإنسان يعيش به في هذه الدنيا ،
ولا يصدّق عود الروح وحدها فقط. ويظهر ذلك من ملاحظة أصناف الآيات
الواردة حول المعاد ، ونحن نأتي فيما يلي بلفيف منها :
١ـ ماورد في قصة إبراهيم ، وبقرة بني إسرائيل ، وإحياء عزير ، وأُمّة من بني
إسرائيل ، وأصحاب الكهف (١).
٢ ـ الآيات التي تصرح بأنّ الإنسان خلق من الأرض وإليها يعاد ، ومنها
يخرج .
يقول سبحانه : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً
أُخْرَى} (٢).
ويقول سبحانه : { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} (٣).
ويقول سبحانه : { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنْ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ
تَخْرُجُونَ} (٤).
ويقول سبحانه : { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} (٥).
٣ ـ الآيات التي تدل على أنّ الحشر عبارة عن الخروج من الأجداث
والقبور ، مثل قوله سبحانه : { فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} (٦).
وقوله تعالى : { يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} (٧).
وقوله تعالى: { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(١) - لاحظ البحث الخامس من مباحث المعاد ، حيث ذكرنا نماذج من إحياء الموتى في الشرائع السابقة.
(٢) -سورة طه : الآية ٥٥ .
(٣) -سورة نوح : الآية ١٨.
(٤) -سورة الروم : الآية ٢٥.
(٥) -سورة الأعراف : الآية ٢٥ .
(٦) -سورة يس : الآية ٥١ .
(٧) - سورة القمر : الآية ٧ .
________________________________________
(٢٨١)
يُوفِضُونَ} (١).
وقوله تعالى : { وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (٢).
وقوله تعالى: { وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} (٣).
وقوله تعالى :{ أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ } (٤).
٤ ـ ما يدل على شهادة الأعضاء ، قال سبحانه: { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (٥).
وقال تعالى : { وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (٦).
وقال تعالى : { حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ
وَجُلُودُهُمْ } (٧).
٥ ـ مايدل على تبديل الجلود بعد نضجها ، وتقطّع الأمعاء.
قال سبحانه: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا
الْعَذَابَ } (٨).
وقال سبحانه : { وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} (٩).
إلى غير ذلك من الآيات الواردة في مواقف القيامة ، ومشاهدها ، ونعيم
الجنة ، وعذاب الجحيم ، التّي لا تدع لمريب ريباً في أنّ الإنسان سوف يبعث بهذا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(١) -سورة المعارج : الآية ٤٣.
(٢) - سورة الحج : الآية ٧.
(٣) -سورة الإنفطار: الآية ٤.
(٤) -سورة العاديات : الآية ٩.
(٥) -سورة النور : الآية ٢٤.
(٦) -سورة يس : الآية ٦٥.
(٧) -سورة فصلت : الآية ٢٠.
(٨) -سورة النساء : الآية ٥٦ .
(٩) - سورة محمّد : الآية ١٥ .
________________________________________
(٢٨٢)
البدن العنصري الذي تكون له الحياة بالنحو الذي كانت له في الدنيا ، وهذاممّا لا
نشكّ فيه.
هذاكله حول الملاك الأوّل ، وإليك البحث في الملاك الثاني الذي حاصله
أنّ اتصاف المعاد بالجسماني أوالروحاني ، يرجع إلى كون الثواب والعقاب
جسمانيين فقط ، أو أنّ هناك لذات وآلام روحية تلتذ بها النفس أوتتألّم ، ولا
دخالة للجسم في حصول اللّذة والألم .
إنّ القرآن الكريم يصدّق كلا المعادين بهذا الملاك حيث يثبت اللذات
والآلام الجسمانية والروحانية ، ولا يخص الثواب والعقاب بما يعرض للنفس عن
طريق البدن ، وبواسطته . وإليك مايدل على ذلك:
أمّا ما يدل على الثواب والعقاب الجسمانيين ، فحدّث عنه ولا حرج ، فالجنة
والنار ومافيهما من النعم والنقم يرجعان إلى اللذات والآلام الجسمانية . وإنّما
الكلام فيما يدل من الآيات على اللذات والآلام الروحية فقط ، وفيما يلي نذكر
بعضاً منها:
١ـ لذة رضاء المعبود
يقول سبحانه : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (١).
فترى أنهّ سبحانه يجعل رضوان الله في مقابل سائر اللّذات الجسمانية ،
ويصفه بكونه أكبر من الأولى ، وأنّه هو الفوز العظيم.
ومن المعلوم أنّ هذا النوع من اللذّة لا يرجع إلى الجسم ، بل هي لذّة تدرك
بالعقل ، والروح في درجتها القصوى .
وهنا كلمة مروية عن الإمام الطاهر علي بن الحسين قال : إذا صار أهل
ــــــــــــــــــــــــــــ
(١) - سورة التوبة : الآية ٧٢.
________________________________________
(٢٨٣)
الجنة ، ودخل ولىّ الله إلى جنانه ومساكنه ، واتكأ كل مؤمن منهم على أريكته ،
حفته خدّامه ، وتهدلت عليه الثمار ، وتفجرت حوله العيون ، وجرت من تحته
الأنهار ، وبسطت له الزرابي ، وصففت له النمارق ، وأتته الخدام بما شاءت شهوته
من قبل أن يسألهم ذلك ، قال : ويخرجون عليهم الحور العين من الجنان فيمكثون
بذلك ماشاءالله.
ثمّ إنّ الجبار يشرف عليهم فيقول لهم : أوليائي وأهل طاعتي وسكان جنتي في
جواري ، هل أنبئكم بخير ممّا أنتم فيه ، فيقولون ربنا وأي شيء خير ممّا نحن
فيه ، نحن فيما اشتهت أنفسنا ، ولذّت أعيننا من النعم في جوار الكريم ، قال
فيعود عليهم بالقول ، فيقولوا : ربّنا نعم ، فائتنا بخير ممّا نحن فيه ، فيقول لهم
تبارك وتعالى : رضائي عنكم ومحبتي لكم خير وأعظم ممّا أنتم فيه ، قال : فيقولون
نعم ياربنا ، رضاك عنا ومحبتك لنا خير لنا وأطيب لأنفسنا. ثمّ قرأ علي بن
الحسين هذه الآية : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (١).
٢ ـ ألم الابتعاد عن رحمة الله
إذاكان إدراك رضوان المعبود أعظم اللذات العقلية ، فإدراك الابتعاد عن
رحمة الله التي وسعت كلّ شيء ، من أعظم الآلام العقلية ؛ ولأجل ذلك نرى أنّه
سبحانه يوعد المنافقين والكفار بالنّار ، ويعقبه بلعنهم . فكأنّ هناك ألمينْ : جسمي
هو التعذيب بالنار ، وعقلي ، و هو إدراكهم ألم الابتعاد عن رحمته.
يقول سبحانه: { وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ
فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (٢).
ويظهر عظم هذا الألم ، بوقوع هذه الآية قبل آية الرضوان فكأنّ الآيتين
ــــــــــــــــــــــــــــ
(١) - بحار الأنوار : ج ٨ ، ص ١٤٠، كتاب العدل والمعاد ، الحديث ٥٧.
(٢) - سورة التوبة : الآية ٦٨.
________________________________________
(٢٨٤)
تُعْربان عن اللذات والآلام العقلية التّي تدركها الروح بلا حاجة إلى الجسم
والبدن.
٣ ـ الحسرة يوم القيامة
يقول سبحانه: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا
مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ
النَّارِ } (١).
إنّ أصحاب الجحيم عندما يقفون على درجات الجنة ، ومقامات أصحابها ،
وما حلّ بهم من السعادة و الكرامة والراحة و الاستظلال برحمة اللّه تبارك وتعالى ،
وتفرغهم عن كل همّ و حزن ، ثمّ ينظرون إلى ما حلّ بهم من عذاب أليم ، وطعام
من غسلين (٢) ، وضريع (٣) ، وشراب من حميم (٤) ، يتحسرون على ما ضيّعوا من
الفرض ، ويندمون على ما فوّتوا في الدنيا ، و فرطوا في حياتهم ، ولكنها الحسرة في
وقت لا تنفع فيه.
وهذا النوع من العذاب ـ أعني : الحسرة ـ أشد على النفس ممّا يحل بها من
عذاب البدن ، ولأجل ذلك يسمّى يوم القيامة بيوم الحسرة ، قال سبحانه :
{ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (٥).
روى أبوسعيد الخدري ، قال : قال رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : إذا
دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النارَ : قيل يا أهل الجنة ، فيشرئبون
وينظرون ، و قيل يا أهل النار ، فيشرئبون وينظرون ، فيجاء بالموت ، كأنّه كبش
أمْلَح ، فيقال لهم : تعرفون الموت ، فيقولون : « هذا ، هذا » وكلّ قد عرفه ،
ــــــــــــــــــــــــــــ
(١) - سورة البقرة : الآيتان ١٦٦ ـ ١٦٧ .
(٢) - سورة الحاقة : الآية ٣٦ .
(٣) - سورة الغاشية : الآية ٦ .
(٤) - سورة الأنعام : الآية ٧٠.
(٥) - سورة مريم : الآية ٣٩ .
________________________________________
(٢٨٥)
قال : فيقدم فيُذبَح ، ثمّ يقال : يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ، ويا أهل النار
خلود فلا موت . قال : و ذلك قوله: { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ } .
و رُوي هذا الحديث عن الإمامين الصادقين ـ عليهما السَّلام ـ ، بزيادة :
« فيفْرحُ أهل الجنة فرحاً ، لو كان أحد يومئذٍ ميتاً ، لماتوا فرحاً ، و يشهق أهل
النار شهقة ، لو كان أحد ميّتاً ، لماتوا » (١).
٤ ـ لقاء اللّه و مشاهدته العقلية
إنّ هناك لفيفاً من الآيات تعرب عن تمكن المؤمن من لقائه سبحانه يوم
القيامة ، يقول سبحانه : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ
يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (٢).
وهذه الآيات الوافرة تشير إلى لقائه سبحانه ، و لكن المفسرين ـ تنزيهاً له
سبحانه عن الجسم و الجسمانيات ـ أوّلوها إلى لقاء جزائه سبحانه و ثوابه وعقابه ،
و رضاه و سخطه ، و هذا المعنى مع صحته في نفسه ، و مع التركيز على تنزيهه سبحانه
عن المشاهدة بالعيون المادية ، لا يمكن أن يكون معرباً عن كلّ ما تهدف إليه الآية ،
فإنّ لهذه الآيات معنى دقيقاً يدركه العارفون الراسخون في معرفته سبحانه ،
القائلين بأنّ المعرفة ، بذر المشاهدة ، لكن لا مشاهدة جسمانية ، بل مشاهدة قلبية
وعقلية ، و لمّا كان بيان هذا النوع من اللّذة العقلية ، خارجاً عن موضوع الكتاب
نقتصر على هذا المقدار . ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محله (٣).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(١) - مجمع البيان : ج ٣، ص ٥١٥ .
(٢) - سورة الكهف : الآية ١١٠، ورد هذا المضمون في الذكر الحكيم في سور كثيرة منها :
الأنعام : ٣١ ، و ١٥٤، يونس : ٧ و ١١ و ١٥ و ٤٥، العنكبوت : ٥ و ٢٣، السجدة :
١٠ و ٢٣، فصلت : الآية ٥٤.
(٣) - ما ذكرناه نماذج من اللذات والآلام الروحية الدالة على أنّ الثواب والعقاب ليسا محصورين في
الجسماني منهما ، و من أراد التوسع فليلاحظ كتاب « لقاء اللّه » ، للعارف الكبير ، الشيخ جواد
الملكي ، ( م ١٣٤٤ هـ ) ، و هناك روايات وردت حول الموضوع ، فمَن أراد الوقوف عليها ، فليرجع إلى
توحيد الصدوق، و إلى الموسوعة القرآنية : « مفاهيم القرآن ».
التعلیقات