الأسرة وحقوقها
موقع الوارث
منذ 7 سنوات
يقول إمامنا السجّاد زين العابدين عليه السلام في رسالة
الحقوق: "وأمّا حقّ الزوجة فأن تعلم أنّ الله عزّ وجلّ جعلها لك سكناً وأنساً، فتعلم أنّ ذلك نعمة من الله عليك، فتكرمها وترفق بها، وإن كان حقّك عليها أوجب، فإنّ لها عليك أن ترحمها لأنّها أسيرك، وتطعمها وتكسوها، وإذا جهلت عفوت عنها.
وأمّا حقّ أخيك فأن تعلم أنّه يدك وعزّك وقوّتك، فلا تتّخذه سلاحاً على معصية الله ولا عدّة للظلم لخلق الله، ولا تدع نصرته على عدوّه، والنصيحة له، فإن أطاع الله وإلّا فليكن الله أكرم عليك منه، ولا قوّة إلّا بالله.
وأمّا حقّ أمّك فأن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً، ووقتك بجميع جوارحها، ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحي وتظلّك، وتهجر النوم لأجلك، ووقتك الحرّ والبرد، لتكون لها، فإنّك لا تطيق شكرها إلّا بعون الله وتوفيقه. وأمّا حقّ أبيك فأن تعلم أنّه أصلك، وأنّه لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ممّا يعجبك، فاعلم أنّ أباك أصل النعمة عليك فيه فاحمد الله واشكره على قدر ذلك، ولا قوّة إلّا بالله.
وأمّا حقّ ولدك فأن تعلم أنّه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشرّه، وأنّك مسؤول عمّا ولّيته به من حسن الأدب والدلالة على ربّه عزّ وجلّ والمعونة له على طاعته، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه".
هذه بعض الحقوق التي ذكرها الإمام السجّاد عليه السلام في رسالة الحقوق، وهي تختصر سلوك المرء في أسرته ومع أرحامه، وما سنسلّط الضوء عليه منها، هو ما يتعلّق بكفّ الأذى في النطاق الأسريّ.
كفّ الأذى عن الوالدين
لقد وقف الشارع موقفاً حاسماً من التعاطي بأيّ شكل من أشكال السلبيّة مع الوالدين، بل إنّ الله تعالى قرن طاعتهما بطاعته ونهى نهياً شديداً في آياته عن التعرّض لهما إذ يقول في محكم آياته: ﴿وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾1، ويقول في آية أخرى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا ْإلّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾2.
إنّ تكريم الوالدين فضلاً عن ترك أذاهما من أقلّ ما يمكن أن يقوم به الإنسان تجاه من بذل الغالي والنفيس في سبيل تربيته، وتعب في ليله ونهاره كي يقوده إلى أن يكون عنصراً ناجحا في أمّته, ولا يحتاج الإنسان ليستبين هذه الحقيقة إلى أن يقرأها في القرآن أو يستفيدها من أيّ حديث شريف، فالبرّ بالوالدين من الأمور التي تدعو إليها الفطرة السليمة النقيّة، وإنّ حقّ الوالدين هذا إنسانيّ بامتياز، قبل أن يكّون حقاً إجتماعيّاً أو شرعيّاً.
ولكن لننظر قليلاً لما أولاه الشرع من تأكيد على هذا البرّ، ولننظر كيف أشار الإمام السجاد عليه السلام في هذه الحقوق إذ يقول بعد أن يعدّد ما لفضل الأم على الولد من حيث تقديمها له على نفسها، إذ كانت تجوع ويشبع، وتسهر عليه لينام، جاعلاً مكافأة هذا الصنيع ممّا يحتاج إلى توفيق من الله تعالى يقول عليه السلام: "وأمّا حقّ أمّك فأن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداّ، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً، ووقتك بجميع جوارحها، ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحي وتظلّك، وتهجر النوم لأجلك، ووقتك الحرّ والبرد، لتكون لها، فإنّك لا تطيق شكرها إلا بعون الله وتوفيقه".
فإذا كان مقدار التأكيد على طاعتهما والبرّ بهما بهذه الدرجة من الأهميّة فما بالك بمن لا يتورّع عن جلب الأذى لهما في كبرهما، وهذا ما سنسلّط الضوء عليه وعلى عواقبه.
المجازاة بسوء الصنيع
في مقابل كلّ هذا التفاني والتضحية التي يقدّمها الوالدان للإبن، فإنّ أدنى ما يقال في أذاهما أنّه مجازاة لحسن الصنيع بعمل قبيح، على أنّ جزاء الإحسان إنمّا يكون بإحسان مقابل، يقول الله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾3.
وحينما نتحدّث عن سوء الصنيع والأذى, يكون الكلام عن كلّ أشكال الأذيّة التي يمكن أن يستشعر بها الوالدان، فالأب والأمّ يتوّقعان من الولد أن يكون:
1- معيلاً لهما في كبرهما
فيساعدهما على تخطّي العجز الجسديّ، ولا سيّما الأب الذي قد يصل لمرحلة لا يستطيع أن يعمل بها، بسبب العجز وعدم القدرة على تحمّل المشقّات. ومعيلاً لهما من الجهة المعنويّة، بحيث يشعران بوجود من يمكنهما الاعتماد عليه، والدفاع عنهما إن ألمّ بهما أيّ سوء، وهذه حاجة نفسيّة في غاية الأهميّة لكبار السنّ.
2- مطيعاً لهما
بمعنى أن يستفيد من تجربتهما في الحياة، وهي تجربة طويلة، وحينما يقدّمها الأهل للولد مجّاناً، فإنّها تكون قد حدثت لهما بعد تحمّل الكثير من الشقاء والتعب.
3- مكرماً لهما
بمعنى أن يحافظ على مكانتهما التي احتلّوها بما بذلاً لأجله، فيرفع من قدرهما, ويبيّن بين الناس محاسنهما, ويحفظ لهما حسن صنيعهما معه.
4- خلفاً صالحاً
لأنّ من سعادة المرء في الدارين أن يخلفه ولد صالح، بحيث يكرمه في حياته، ولا يهينه في مرحلة الشيخوخة والكبر، ويجرّ إليه الذكر الطيّب والرحمات بعد وفاته، من خلال الأعمال التي يرسلها الحيّ إلى أهل البرزخ، ومن خلال عمله الذي يذكّر الناس بطيب أصله وحسن تربيته.
فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "ثلاثة من السعادة: الزوجة المؤاتية، والأولاد البارّون، والرجل يرزق معيشته ببلده، يغدو إلى أهله و يروح"4.
وعن عليّ بن الحسين عليهما السلام أنّه قال: "من سعادة المرء أن يكون متجره في بلده، ويكون خلطاؤه صالحين، ويكون له ولد يستعين بهم"5.
إنّ أيّ تخلّف عن تحقيق هذه الآمال التي ذكرناها، يعتبر نوعاً من العقوق المنهيّ عنه في الشريعة، وهو أيضاً سلوكٌ لا يتناسب والفطرة السليمة، الداعية لشكر المنعم والمحسن، وسلوكاً منحرفاً في نظر الضمير الإنسانيّ العامّ.
العقوق من الكبائر
عدّ العلماء العظام والفقهاء المجتهدون العقوق من كبائر الذنوب، بناءً على ما جاء في روايات أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وأمّا الكبائر فهي كلّ معصية ورد التوعيد عليها بالنار أو بالعقاب، أو شدّد عليها تشديداً عظيماً، أو دلّ دليل على كونها أكبر من بعض الكبائر أو مثلها، أو حكم العقل على أنّها كبيرة، أو كان في ارتكاز المتشرّعة كذلك، أو ورد النصّ بكونها كبيرة، وهي كثيرة: "منها اليأس من روح الله، والأمن من مكره والكذب عليه أو على رسوله وأوصيائه عليهم السلام، وقتل النفس التي حرّمها الله إلّا بالحقّ، وعقوق الوالدين"6.
وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ من الكبائر عقوق الوالدين، واليأس من رَوح الله، والأمن من مكر الله"7.
وفي رواية أخرى عنه عليه السلام: "الكبائر: القنوط من رحمة الله، واليأس من رَوح الله، والأمن من مكر الله، وقتل النفس التي حرّم الله، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا بعد البيّنة، والتعرّب بعد الهجرة، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، فقيل له: أرأيت المرتكب للكبيرة يموت عليها، أتخرجه من الإيمان، وإن عذّب بها فيكون عذابه كعذاب المشركين، أو له انقطاع؟ قال: يخرج من الإسلام إذا زعم أنّها حلال، ولذلك يعذّب أشدّ العذاب، وإن كان معترفاً بأنّها كبيرة وهي عليه حرام، وأنّه يعذّب عليها وأنّها غير حلال، فإنّه معذّب عليها، وهو أهون عذاباً من الأوّل، ويخرجه من الإيمان، ولا يخرجه من الإسلام"8.
عاقبة العقوق العاجلة
إنّ هنالك نوعاً من الذنوب يعجّل به العذاب في الدنيا قبل الآخرة، وذلك لشدّة عظمة الذنب وقبحه الشديد، ومن تلك الذنوب عقوق الوالدين، فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاثة من الذنوب تعجّل عقوبتها، ولا تؤخّر إلى الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الإحسان"9.
ومن عقوبات العقوق في الدنيا زوال النعم التي منّ الله تعالى بها على العبد، والتي أشير إليها في دعاء كميل بن زياد رحمه الله: "اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تغيِّر النعم"، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الذنوب التي تغيرّ النعم: البغي، والذنوب التي تورث الندم: القتل، والتي تنزل النقم: الظلم، والتي تهتك الستور: شرب الخمر، والتي تحبس الرزق: الزنى، والتي تعجّل الفناء: قطيعة الرحم، والتي ترّد الدعاء وتظلم الهواء: عقوق الوالدين"10.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
1- النساء: 36.
2- الإسراء: 23.
3- الرحمن: 60.
4- الكافي-الكليني- ج 5 ص258.
5- م. ن. ج 5 ص258.
6- تحرير الوسيلة - السيد الخميني - ج 1 ص 274.
7- الكافي- الكليني- ج 2 ص278.
8- م. ن. - ج 2 ص280.
9- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 70 ص 373.
10- م. ن، ص 374.
التعلیقات