محوريَّةُ الزهراء (عليهاالسلام) في قانون السماء
الشيخ احمد الدر العاملي
منذ 7 سنواتثلَّةٌ قليلةٌ هم الذين اختارهم الله تعالى واصطفاهم على الخلق أجمعين، ليكونوا محورًا في دستوره السماوي، وقطبًا تدور عليه رحى المعارف والطاعات، والمصالح والغايات، فوهب لكلٍ صلاحيَّاتٍ واختصّه بقُدُراتٍ، بحسب رتبتِهِ التي رتَّبه الله فيها.
ومعرفة محوريَّة هؤلاء، ثم ترتيبهم بحسب مراتبهم الواقعية، لا سبيل إليها إلا عن طريق لسان الوحي، سواءٌ أكان نصًّا قرآنيًّا أم حديثًا معصوميًّا، لأنَّ المقامات الجعلية تابعةٌ لجاعلها، وحيث إنَّ الجاعل هو الله تعالى، فهو -ومن ينطق عنه- المرجعُ في هذا الباب.
ولو تتبَّعنا النُّصوص القرآنية والروائية، بُغية التعرُّف على الذين اختارهم الله تعالى ليكونوا أدلاَّء عليه، ووجوهًا يُتوجَّه بها إليه، فسنجدُ أن المتربِّع على قمَّة ذلك العالم هو النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) ، وعلى ذلك إجماع عقلاء المسلمين(1) على اختلافِ مذاهبهم وتباينِ اعتقاداتهم.
ثم يتلوه في الرتبة من نصَّ القرآن على كونه نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ووليَّ الذين آمنوا، والمطاع بعد طاعة الله بطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله) ؛ الذي زيَّنته يد السماء بأبهى حُلَل المجد والثناء، وتوَّجته بتاج الخلافة الإلهية فكان خاتم الأوصياء، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
ويتلوه في الرتبة والمحورية الحوراء الأنسيّة، التي سادت نساء العالمين، بل كلَّ العالمين بعد أبيها وبعلها صلوات الله عليهم أجمعين، فاحتارت الألباب في فهم معناها، وانقطعت الأسباب دون علاها، وخرَّ العقلُ معترفًا بقصور إدراكه عندما تلا لسان الوحي: [إن الله يرضى لرضاها]( 2).
وفيه قلتُ:
قِيلَ امْدَحِ الزَّهرَاءَ قُلتُ: كَفَاهَا
فَضْلاً بِأنَّ رِضى الإلهِ رِضَاها
قِدِّيسةٌ قدْ حَارَ في أوصَافِها
أهلُ العَوالمِ أرضِها وسَماها
سَجَدَ الزَّمانُ عَلى تُرابِ نِعالِها
لِينَالَ فخرَ تَعَفُّرٍ بِثراهَا
هيَ سِرُّ سِرِّ النُّورِ نُورِ محمَّدٍ
هيَ غيبُ علِمِ الغَيبِ دَعْ معناهَا
فُطِمَ الخلائِقُ عَنْ تلمُّسِ ذاتِها
ولِذا الإلهُ بِفاطمٍ سمَّاها(3)
وهنا نلوي العنان ونحط الرحال، لكون الغاية من هذا البحث هي محورية الزهراء (عليها السلام) في قانون السماء.
اهتمام السماء بالزهراء (عليها السلام)
أولت العنايةُ الإلهية اهتمامًا بالغًا -لا أقول قلَّ نظيره بل انقطع نظيره- بتكوين الزهراء (عليها السلام) ونشأتها ورعايتها منذ الولادة إلى الشهادة بل إلى ما بعد الشهادة.
ولا مجال الآن لرسم المخطط الكامل لتلك العناية بتفاصيله بل ولا على نحو الإجمال، ولكن نكتفي بذكر نماذج يثبت بها العنوان، وتبرِّد غلَّة الظمآن.
عالم الأنوار: أولُّ وجودٍ لسيدة النساء (عليها السلام) كان عالم الأنوار، وبلغ من اهتمام السماء بها، ورعايتها لها، أن كان نورُها النورَ الثالث في أول عوالم الخلق، عالم الأنوار، مشتقًّا من نور محمَّد وعلي (صلى الله عليهما وآلهما)( 4).
عالم الدنيا: خلافًا لكل القوانين السابقة على ولادتها، بل والتالية لها، تمّت عمليَّةُ نقلِ نطفتها الطاهرة!!
فبدل أن تتنقل في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة إلى أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، تدخَّلت العناية الإلهية، فقنَّنت قانونًا لا ينطبق على أحدٍ غيرها من النِّساء، ميَّزها عن كل أنثى بلا استثناء، إذ كان انتقالُ نطفتها من الملكوت الأعلى إلى صلب من دنى فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، حالُها نظيرُ حالِ بقيَّة المعصومين الأربعةَ عشر، ولذلك سُمِّيَت بالحوراء الإنسيَّة.
فلقد كثرت الروايات عن النبي وآله (صلى الله عليه وآله) في حديثه عن رحلة معراجه أنه أكل ثمرةً مخصوصةً من ثِمارِ الجنة، فتحوّلت نطفةً في صلبه، وكانت فاطمة (عليها السلام)(5).
زواجها: في عقدِ قرانها كان لله تعالى شأنٌ لم يُعرف قبلها ولا بعدها لأحد أبدًا، إذ تولَّى الله تعالى تزويجها لأمير المؤمنين عليِّ (عليهما السلام) في الجنة، بحضور سكّان ملكوته، ثم أمر نبيَّه محمَّدًا (صلى الله عليه وآله) أنْ يُجريَ العقد على الأرض، فكان زواجًا لم يُسبق ولم يُلحق، وفي طيّاته انطوت أسرار تحار بها الأفهام والأفكار.
وفي ذلك قلتُ مخاطبًا أميرَ المؤمنين (عليه السلام):
وَيَا كُفْأَ البَتُولِ وَذَاكَ شَأنٌ
لِغيرِكُما مَحَالٌ أن يُوفَّى
سَيحْسِبُ جَاهِلٌ أنِّي مُغَالٍ
إذا أبدَيتُهُ فَالكَفُّ أكْفَى(6)
الذريَّة: هنا يُعذرُ إنْ لَكِنَ اللسان، وقصُر البيان، ولا يسعني سوى القولُ أنها (عليها السلام) أنجبت خيرَ من خلقَ الله تعالى، وصفوةَ من أوجد، لولا جدُّهم وأبوهم وأمُّهم، أحدَ عشرَ إمامًا، بهم عُرف الله، وعليهم دارت رحى رضاه، وإليهم يتوجُه من ابتغى لقاه، وعنهم يصدر هديُهُ وهُداه، صلوات الله عليهم أجمعين.
المهمة الأخيرة: ما كانت العناية الإلهية -التي رافقت سيَّدة النساء (عليها السلام) في كل أدوار وجودها- لتتخلى عنها في الفصل الأخير من قصة حياتها، بل أولَتها أعلى مستويات الرعاية والعناية، فكانت مهمَّتها الأخيرة تقديم كلِّ كيانها قربانًا لله، لتمضي شهيدةَ الوفاء لخط النبوة، والفداء لنهج الإمامة، فأسدت للدين والمتديِّنين خدمةً لا يُقدِّرُ ثمنَها إلا الذي لا إله إلا هو سبحانه وتعالى.
وفي ذلك قلتُ:
لا تعجبنْ لعظيمِ ما خُصَّت به
أمُّ الخلودِ من المقام الأمجدِ
جُلْ في رياضِ التضحياتِ لكي ترى
أنَّ الذي ضحَّت به لم يُعهدِ
ضحَّتْ بكلِّ وجودِها لإلهها
بجَنانها بالقولِ حتَّى باليَدِ
أتظُنُّها مذ طالبت بحقوقِها
طَمِعت بمالٍ؟! ذلكَ الظنُّ الردي
ما طالبت إلا لتثبتَ واقعًا
أنَّ الذي غصبَ الخلافةَ معتدي
ويُقالُ كسرُ الضِّلعِ أمرٌ عابرٌ
حدَثٌ مضى! كلا وربِّ المسجدِ
سأقولٌ قولاً لا يروقُ لناصبٍ
الدِّينُ لولا ضلعُها لم يصمُدِ(7)
إلى غير ذلك من العنايات الإلهية الخاصَّة بها، والتي تضيق القراطيس بتسطير إجمالها فضلاً عن تفصيلها.
رابط الوضوع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) فبالرغم من كونِ أفضليَّته (ص) على جميع الخلق أمرًا ضروريًّا من ضروريَّات الدين، نجدُ أن بعض المسلمين قد أنكر هذه الأفضليَّة، مدَّعيًا أنَّ الملائكة أفضل منه (ص) -راجع تفسير الرازي ج2 ص216-، وقد وفَّى علماؤنا البحث حقَّه في ردِّ هذه الدعوى وغيرها، أمثال الشريف المرتضى في شافيه وشيخ الطائفة في تلخيصه وغيرهما رضوان الله عليهم أجمعين.
وآخر نسبَ إلى النبيِّ (ص) أنه قال: (ولا أقول إنّ أحدًا أفضل من يونس بن متى) المسمى: صحيح البخاري ج4 ص 133، وفيه أيضًا: (من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب) ج5 ص185!! فاقرأ وتعجَّب!! وانظر إلى شرَّاحه كيف تخبَّطوا في محاولات تبرئته من هذه الكبوة المشينة.
([2]) أمالي الشيخ الصدوق ص467 ح622/1، الاعتقادات في دين الإمامية ص105، دلائل الامامة للطبري ص146 ح53/53، وغيرها من مصادر الخاصَّة. والمستدرك للحاكم النيسابوري ج3 ص154، منصِّصًا على صحته، وراجع غيره من مصادر العامة.
([3]) ديوان مرآة الشعور ص119 من قصيدة: قطب الوجود.
([4]) دلائل الامامة للطبري الشيعي ص448، ومقتضب الأثر لابن عياش ص6، وغيرهما.
([5]) علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص184، ومناقب الإمام أمير المؤمنين (ع) للكوفي ج2 ص206، وغيرها الكثير من مصادر الخاصة.
والمستدرك للحاكم النيسابوري ج3 ص156، ومجمع الزوائد للهيثمي ج9 ص202، وغيرها من مصادر العامة.
([6]) ديوان مرآة الشعور ص71 من قصيدة: شممتُ هواك...
([7]) من قصيدة: أمّ العلى، نظمتُها ليلةَ ميلادها (ع) 20 جمادى الآخرة 1432 هجرية، بجوار سَمِيِّتها أختِ الرِّضا (ع).
التعلیقات