قُطام بنت شجنة: الحاقدة القاتلة
الشيخ مهدي المجاهد
منذ يومينمن هي قُطام؟
تزخر صفحات التاريخ الإسلامي بشخصيات لعبت أدوارًا محورية في الأحداث الكبرى، بعضها اشتهر بالفضيلة، وبعضها عُرف بالخداع والمكائد. ومن بين الشخصيات التي ارتبط اسمها بإحدى أعظم المآسي في الإسلام، تأتي قُطام بنت شجنة التميمية، المرأة التي تحولت إلى رمز للانتقام والكراهية، حتى أصبحت واحدة من الشخصيات المؤثرة في التحريض على قتل أمير المؤمين علي بن أبي طالب عليه السلام.
لم تكن قُطام شخصية عادية، بل كانت امرأة استثنائية من حيث الدور الذي لعبته، حيث استغلت نفوذها وجمالها لتحقيق أهدافها الانتقامية. لقد كانت من بين المحرضين الرئيسيين الذين دفعوا عبد الرحمن بن ملجم إلى ارتكاب جريمة اغتيال الإمام علي عليه السلام، بحجة الانتقام لذويها الذين قُتلوا في معركة النهروان. لفهم دوافعها الحقيقية، وتأثيرها في هذه الحادثة التاريخية، لا بد من العودة إلى أصولها العائلية، ومعتقداتها، ودورها في التخطيط لهذه الجريمة البشعة.
حسب ونسب قُطام: الجذور العائلية والقبلية
تنتمي قُطام إلى قبيلة تميم، إحدى كبريات القبائل العربية التي لعبت أدوارًا مؤثرة في التاريخ الإسلامي، سواء في السياسة أو في الحروب الداخلية. ورغم أن التميميين لم يكونوا جميعًا من معارضي الإمام علي عليه السلام، إلا أن بعض الفصائل داخل القبيلة، خاصة أولئك الذين انضموا إلى الخوارج، كانوا من أشد خصومه.
المشهور أنها بنت شجنة بن عدي بن عامر ، وقيل بنت الأخضر ، وقيل بنت الأصبغ التميمي الحنظلي . والظاهر أنها من تيم الرباب ، وقيل إنها من بني عجل بن لجيم . ومعنى قَطَام : القوية المشتهية للرجال . قال ابن فارس ( 5 / 103 ) : ( قطم يدل على قطع الشئ وعلى شهوة . يقولون قطم الفصيل الحشيش بأدنى فمه يقطمه . والرجل الشهوان اللحم قطم . وفَحْلٌ قَطِم : مشته للضراب ) .
كان والد قُطام وأفراد من عائلتها من بين الذين حاربوا في صفوف الخوارج خلال معركة النهروان ضد جيش الإمام علي عليه السلام، وحين انتصر جيش الإمام، لقي العديد من رجال قبيلتها حتفهم، مما جعلها تحمل في قلبها حقدًا دفينًا على الإمام. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت ترى في علي بن أبي طالب عليه السلام العدو الأول لها، وسعت بكل ما أوتيت من حيلة ومكر إلى الانتقام منه.
لم تكن هذه العداوة نابعة فقط من خسارة عائلتها في المعركة، بل أيضًا من انتمائها إلى بيئة مشبعة بالأفكار المتطرفة التي يروج لها الخوارج، الذين رفضوا سياسة الإمام علي عليه السلام واعتبروه منحرفًا عن النهج الذي يؤمنون به.
معتقدات قُطام: تأثير الفكر الخارجي على موقفها
كانت قُطام متأثرة بأفكار الخوارج، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم الحماة الحقيقيين للإسلام، ويرون أن أي حاكم لا يطبق فهمهم المتشدد للشريعة يستحق العزل أو القتل. رفضوا التحكيم بين الإمام علي عليه السلام ومعاوية بن أبي سفيان بعد معركة صفين، واعتبروا ذلك خيانة لمبادئ الدين، مما أدى إلى انشقاقهم وخروجهم عن طاعة الإمام.
في ظل هذه العقيدة المتشددة، رأت قُطام أن قتل الإمام علي عليه السلام ليس مجرد انتقام شخصي، بل هو "واجب ديني" وفق تفسيرها المتطرف. وهكذا، أصبحت رغبتها في الثأر مغلفة بطابع ديني زائف، مما دفعها إلى دعم القتلة والتحريض ضد الإمام، ليس فقط كخصم سياسي، بل كعدو ينبغي التخلص منه بأي وسيلة.
قال أهل السير: منهم محمد بن اسحاق و هشام بن محمد و السدي و غيرهم اجتمع ثلاثة من الخوارج عبد الرحمن بن ملجم المرادي و هو من حمير و قيل من مضر و البرك ابن عبد اللّه التميمي الصريمي و قيل اسمه الحجاج و عمرو بن بكر السهمي السعدي و كان اجتماعهم بمكة عند انقضاء الحج فتذكروا قتلى النهروان الذين قتلهم علي عليه السلام و بكوا و ترحموا عليهم و قالوا ما نصنع بالبقاء بعدهم فانهم اخواننا لم يأخذهم في اللّه لومة لائم ثم تذكروا ما لقي الناس يوم الجمل و صفين بين علي عليه السلام و معاوية و عمرو ابن العاص و قالوا لو شرينا انفسنا و قتلنا أئمة الضلالة و ارحنا المسلمين منهم و البلاد و العباد و ثأرنا بهم اخواننا فقال ابن ملجم أنا أكفيكم ابن أبي طالب و قال البرك و أنا أكفيكم معاوية و قال عمرو و أنا لعمرو بن العاص فدخلوا الكعبة و تحالفوا فيها و تعاهدوا و تعاقدوا ان لا ينكص أحد منهم على صاحبه الذي توجه اليه حتى يقتله أو يقتل دونه ثم أخذوا سيوفهم فسموها و تعاهدوا أن يكون الاجتماع في سابع و عشرين شهر رمضان و قصد كل واحد منهم الجهة التي يريدها.
فاما ابن ملجم فقصد الكوفة فتلقاه أصحابه من الخوارج فكاتمهم ما يريد أو كان يزورهم و يزورونه و هو ساكت مخافة ان يظهر شيء مما قدم له و انه زار يوما أصحابا له من بني تيم الرباب و كان علي عليه السلام قتل منهم يوم النهروان عدة فرأى منهم امرأة يقال لها قطام بنت شجنة بن عدي بن عامر و كان أمير المؤمنين قتل أباها و أخاها يوم النهروان و كانت فائقة الجمال فعشقها و اخذت بمجامع قلبه و عقله و نسي الأمر الذي قدم لأجله فخطبها فقالت لا اتزوجك حتى تعطيني ثلاثة آلاف درهم و عبدا و قينة و تقتل علي بن أبي طالب فقال لك الدراهم و العبد و القينة و أما قتل ابن أبي طالب فما أراك ذكرتيه لي و أنت تريدينني فكيف اصنع به قالت التمس غرته فان اصبته شفيت نفسي و نفسك و نفعك العيش معي و أخذت بثار الأحبة و ان قتلت فما عند اللّه خير و أبقى؛ فقال و اللّه ما جاء بي إلا هذا. قال وهب بن منبه: فقال الشاعر فيها:
و لم أر مهرا ساقه ذو سماحة
كمهر قطام بيننا غير معجم
ثلاثة آلاف و عبد و قينة
و قتل علي بالحسام المصمم
فلا مهر أغلى من علي و ان غلا
و لا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
و روي: ان ابن ملجم دخل بها فلما فرغ منها ازداد عشقا لها فقالت له و اللّه لا تساكني حتى تقتل عليا ثم قالت اني سأطلب لك رجلا يساعدك على امرك فبعثت الى رجل من قومها من تيم الرباب يقال له وردان بن مجالد فكلمته في ذلك فاجابها ثم أتى ابن ملجم رجلا من اشجع من الخوارج فقال له هل لك في شرف الدنيا و الآخرة و اسم الرجل شبيب بن بجرة فقال له و ما هو؟ قال قتل ابن أبي طالب فقال له ثكلتك أمك لقد جئت شيئا نكرا قال كيف تصل اليه قال أكمن له في المسجد فاذا خرج لصلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه و ان نجونا شفينا أنفسنا و ادركنا ثارنا و ان قتلنا فما عند اللّه خير و ابقى (1).
دور قُطام في التخطيط لاغتيال الإمام علي عليه السلام
لم يكن دور قُطام هامشيًا في هذه المؤامرة، بل كانت شخصية فعالة في التخطيط والتنسيق. التقت بعبد الرحمن بن ملجم في الكوفة، حيث استغلّت جمالها وذكاءها في التأثير عليه، حتى أصبح أداة بيدها لتحقيق هدفها.
عندما تقدم ابن ملجم لخطبتها، اشترطت عليه مهرًا غريبًا: قتل الإمام علي عليه السلام. لم يكن هذا الطلب مجرد شرط تعجيزي، بل كان وسيلة ذكية لضمان تنفيذ مخططها، حيث استغلّت اندفاع ابن ملجم ورغبته في الزواج منها لتحفيزه على تنفيذ الجريمة.
لم يكن ابن ملجم وحيدًا في هذه المؤامرة، فقد كان هناك أشخاص آخرون من الخوارج يعملون سرًا لاغتيال الإمام علي عليه السلام، ويُعتقد أن قُطام كانت على اتصال ببعضهم، وساهمت في تنظيم وتنفيذ هذه الخطة.
يمكن تحليل عداء قُطام للإمام علي عليه السلام من عدة زوايا:
الدافع العائلي : قتل والدها وأقاربها في معركة النهروان جعلها ترى في الإمام علي عليه السلام المسؤول الأول عن هذه الخسائر، وأصبح هدفها الأساسي هو الثأر بأي طريقة ممكنة.
الدافع الأيديولوجي : تأثرها بأفكار الخوارج جعلها تؤمن بأن قتل الإمام عمل شرعي، وهو ما عزز لديها دافع الانتقام ليأخذ طابعًا دينيًا، وليس مجرد تصفية حسابات شخصية.
الدافع السياسي : رأت في استمرار حكم الإمام علي عليه السلام تهديدًا لمشروع الخوارج، وكانت مقتنعة بأن التخلص منه سيفتح المجال لتغيير الأوضاع لصالح التيار الذي تنتمي إليه.
لقد تميز الإمام علي عليه السلام بالعديد من الصفات الفريدة التي جعلته يبرز عن باقي الصحابة، وذلك نتيجة لتقواه وقربه من الله سبحانه وتعالى. فقد عُرف بأنه قسيم الجنة والنار، وكان يُعتبر الفاصل بين المؤمن والمنافق؛ فمن يحب عليًا فهو مؤمن، ومن يبغضه فهو منافق. كما وُصف بأنه العلامة التي تُميز بين أبناء الحلال وأبناء الزنا، حيث يُعتبر الطفل الذي يبغض عليًا ابنًا غير شرعي، في حين أن الطفل الذي يحب عليًا يُعتبر ابنًا طاهرًا وحلالًا.
ولم تقتصر الروايات حول هذه المواضيع على الشيعة الإمامية فحسب، بل هناك أيضًا العديد من الروايات الواردة في كتب علماء أهل السنة والجماعة التي تتناول هذه الأمور، وقد جاءت هذه الروايات بسند صحيح، مما يدل على مكانة الإمام علي عليه السلام وأهميته في تاريخ الإسلام.
هذا المزيج من المشاعر الشخصية والدوافع الأيديولوجية جعل من قُطام شخصية شديدة الخطورة، لا تتردد في استخدام أي وسيلة، بما في ذلك استغلال العواطف والإغراءات، لتحقيق هدفها.
علاقة قُطام بقتلة الإمام علي عليه السلام
كان عبد الرحمن بن ملجم هو المنفذ الرئيسي لعملية الاغتيال، لكنه لم يكن الوحيد المتورط في هذه المؤامرة. فقد كان هناك آخرون ممن بايعوه على تنفيذ الجريمة،كالأشعث بن قيس و وردان وشبيب بن بجرة، الذين ساعدوا في تنفيذ الهجوم داخل مسجد الكوفة.
أما قُطام، فقد لعبت دورًا مركزيًا في دعم هذا المخطط، حيث قدمت المأوى والمساندة لابن ملجم، وربما كانت حلقة الوصل بينه وبين بقية أفراد المجموعة. كانت تدرك تمامًا عواقب هذا الفعل، لكنها لم تتردد في تحريضه ودفعه نحو تنفيذ الاغتيال، بحجة أنه "جهاد ضد الظلم"، وفق رؤيتها المنحرفة.
ويقول سماحة الشيخ علي الكوراني في كتابه سيرة أمير المؤمنين عليه السلام: ( تضاربت روايتهم في كيفية تعرف ابن ملجم عليها ، ووضع العوام فيها قصصاً . والمرجح أن الأشعث عرفه عليها وزوجه بها ليشحذ همته في جريمته ! فقطام من أدوات الأشعث ) (2).
الخاتمة: دروس من عداء قُطام للإمام علي عليه السلام
تعد قصة قُطام مثالًا حيًا على كيف يمكن للكراهية أن تتحول إلى قوة مدمرة، وكيف يمكن للأفكار المتطرفة أن تقود الإنسان إلى ارتكاب أبشع الجرائم. لم تكن دوافع قُطام مجرد رغبة شخصية في الانتقام، بل كانت خليطًا من المشاعر العائلية والسياسية والدينية، مما جعلها أداة خطيرة في واحدة من أعظم المآسي في الإسلام.
تعلمنا هذه القصة أن الحقد، عندما يتجذر في النفس ويغلف بأوهام دينية أو سياسية، يمكن أن يصبح قوة هدامة تدفع الإنسان إلى ارتكاب أفعال لا يمكن تبريرها. كما أنها تسلط الضوء على خطورة الفكر المتطرف، الذي يحول الخصومات العادية إلى مواجهات دموية، ويجعل الإنسان مستعدًا لفعل أي شيء باسم "الحق".
لكن رغم كل هذه المكائد، بقي الإمام علي عليه السلام رمزًا للعدل والشجاعة والتضحية، ولم تستطع قُطام ولا غيرها محو أثره العظيم في قلوب محبيه وتاريخ الإسلام.
1ـ تذكرة الخواص / سبط بن الجوزي / المجلّد : 1 / الصفحة : 161.
2ـ سيره أمير المؤمنين / على الكوراني العاملي / المجلّد : 5 / الصفحة : 314.
التعلیقات