هاجر.. أمّ الحجّ الإبراهيمي
ياسر شريعتي
منذ يومالنساء قدوة للرجال: الحقيقة المغفولة
لِمَ نظنّ أنّ القدوة لا تكون إلا من الرجال؟ القرآن الكريم يعطينا أربعة نماذج حيّة للإنسان القدوة: امرأتان في درك السوء (امرأة نوح ولوط)، وامرأتان في ذروة الطهر والولاء (مريم وآسية). وهذه إشارات قرآنية واضحة بأنّ المرأة ليست تابعة في الكمال، بل قائدة فيه.
هاجر أمّ الحَجّ ومَعلم السعي الخالد
حين نذكرُ الحجّ، لا يسعُنا إلا أن نستحضرَ اسمَ هاجر، تلك المرأة العظيمة التي اندمجت سيرتُها بروحِ هذه الفريضة الإلهية، حتى صار سعيُها وركضُها بين الصفا والمروة جزءًا لا يتجزأ من مناسك الحجّ. لم تكن هرولتها بين الجبلين مجرد لحظة بحث عن ماء لطفلها إسماعيل، بل كانت تجليًا عظيمًا لمعاني التوكل، والصبر، والمواساة، والفداء الأمومي. ولهذا، فإن الله تعالى شاء أن يجعلَ هذا السعي المفعم بالحبّ والاضطراب، ركنًا من أركانِ الحجّ، يؤديه الرجال والنساء، الأنبياء والأولياء، في تعبيرٍ خالدٍ عن مشاركتهم لها في الألم والرجاء. فإن كان إبراهيم عليه السلام يُدعى "أبا الحَجّ"، فلا شك أن لقب "أمّ الحَجّ" يليق بهاجر، تلك المرأة التي أصبحت رمزًا للثبات في لحظةِ الهجر، وللرجاء في زمنِ العطش، وللإيمان في ميدانِ التوحيد.
مكة (بكة) وشهادة المكان للنساء
من العجيب أن يكون لاسم مكة - بكة - دلالة على اجتماع الرجال والنساء في عبادةٍ مشتركة. فقد رُوي عن الإمام الباقر عليه السلام:
إِنَّمَا سُمِّيَتْ مَكَّةُ بَكَّةَ لِأَنَّهُ يَبُكُّ بِهَا الرِّجَالُ وَ النِّسَاءُ وَ الْمَرْأَةُ تُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْكَ وَ عَنْ يَمِينِكَ وَ عَنْ شِمَالِكَ وَ عَنْ يَسَارِكَ وَ مَعَكَ وَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِنَّمَا يُكْرَهُ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ (1)
فحتى تسمية الأرض التي بُني فيها بيت الله، لم تُغفل ذكر المرأة ووجودها المؤثر. وهذا يدلّ على أن وجود المرأة في الحجّ لم يكن طارئًا، بل هو متجذر في أصول العقيدة والعبادة.
هاجر والحجّ: عندما تصبح الأم مدرسة الخلود
حين نقرأ قصة هاجر، لا نقرأ مجرد أمّ هاجرت مع رضيعها إلى صحراء قاحلة. بل نقرأ مشروعًا إلهيًا لبناء حضارة، لتخليد امرأة جعلت من الطاعة والتسليم طريقًا إلى الخلود.
كلنا نعرف القصة: سارة تقلق من وجود هاجر، فيُؤمر إبراهيم أن يأخذها مع إسماعيل إلى وادٍ غير ذي زرع. هناك، في ذاك المكان المهجور، ينقطع كل شيء، ويبقى فقط الأمل بالله.
ومع عطش الطفل، تبدأ رحلة السعي: هاجر تصعد الصفا، ثم المروة، سبع مرات. بتعبير أبي الفتوح الرازي، المفسر للقرآن:
«جعلَ الحقّ تعالى هرولةَ تلك المرأة ركنًا من أركانِ الحجّ، لكي يسعى كلُّ من يحجُّ ذلك البيت، سبعَ مرّاتٍ بين الصفا والمروة، موافقةً لسعي هاجر وركضها »(2).
ذلك الركض، جعل الله منه ركنًا من أركان الحجّ، لتخلد حركة امرأةٍ خائفة على ابنها، راضية بأمر ربّها، مطيعةٌ بلا نقاش. وها نحن، ملايين الحجيج، نعيد مشهدها كلّ عام، ونسعى كما سعت، وندعو كما دعت.
زمزم: بركة امرأة
الماء الذي أنقذ مكة، وأسس لعمرانها، لم يأتِ من يد نبي، بل من أقدام طفل ودعاء أمّ. هاجر، التي كانت تجمع التراب حول زمزم خوفًا أن يسيح، لم تكن تعرف أنها تبني أعظم رموز البركة في الأرض.
رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام:
« إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا خَلَّفَ إِسْمَاعِيلَ بِمَكَّةَ عَطِشَ الصَّبِيُّ فَكَانَ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَا وَ الْمَرْوَةِ شَجَرٌ فَخَرَجَتْ أُمُّهُ حَتَّى قَامَتْ عَلَى الصَّفَا فَقَالَتْ هَلْ بِالْبَوَادِي مِنْ أَنِيسٍ فَلَمْ تُجِبْهَا أَحَدٌ فَمَضَتْ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى الْمَرْوَةِ فَقَالَتْ هَلْ بِالْبَوَادِي مِنْ أَنِيسٍ فَلَمْ تُجَبْ ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى الصَّفَا وَ قَالَتْ ذَلِكَ حَتَّى صَنَعَتْ ذَلِكَ سَبْعاً فَأَجْرَى اللَّهُ ذَلِكَ سُنَّةً وَ أَتَاهَا جَبْرَئِيلُ فَقَالَ لَهَا مَنْ أَنْتِ فَقَالَتْ أَنَا أُمُّ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لَهَا إِلَى مَنْ تَرَكَكُمْ فَقَالَتْ أَمَا لَئِنْ قُلْتَ ذَاكَ لَقَدْ قُلْتُ لَهُ حَيْثُ أَرَادَ الذَّهَابَ يَا إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَنْ تَرَكْتَنَا فَقَالَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَقَالَ جَبْرَئِيلُ عليه السلام لَقَدْ وَكَلَكُمْ إِلَى كَافٍ قَالَ وَ كَانَ النَّاسُ يَجْتَنِبُونَ الْمَمَرَّ إِلَى مَكَّةَ لِمَكَانِ الْمَاءِ فَفَحَصَ الصَّبِيُّ بِرِجْلِهِ فَنَبَعَتْ زَمْزَمُ قَالَ فَرَجَعَتْ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّبِيِّ وَ قَدْ نَبَعَ الْمَاءُ فَأَقْبَلَتْ تَجْمَعُ التُّرَابَ حَوْلَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَسِيحَ الْمَاءُ وَ لَوْ تَرَكَتْهُ لَكَانَ سَيْحاً قَالَ فَلَمَّا رَأَتِ الطَّيْرُ الْمَاءَ حَلَّقَتْ عَلَيْهِ فَمَرَّ رَكْبٌ مِنَ الْيَمَنِ يُرِيدُ السَّفَرَ فَلَمَّا رَأَوُا الطَّيْرَ قَالُوا مَا حَلَّقَتِ الطَّيْرُ إِلَّا عَلَى مَاءٍ فَأَتَوْهُمْ فَسَقَوْهُمْ مِنَ الْمَاءِ فَأَطْعَمُوهُمُ الرَّكْبُ مِنَ الطَّعَامِ وَ أَجْرَى اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لَهُمْ بِذَلِكَ رِزْقاً وَ كَانَ النَّاسُ يَمُرُّونَ بِمَكَّةَ فَيُطْعِمُونَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ وَ يَسْقُونَهُمْ مِنَ الْمَاءِ » (3).
فماء زمزم، رمز البركة والضيافة، بدأ بدموع أمّ، ومخاوف قلب، وثقة بالله لا تهتز.
قبرها في حضن الكعبة
ليس عبثًا أن تُدفن هاجر في «حِجر إسماعيل»، بجوار البيت العتيق، ويُفرض على الطائفين أن يطوفوا حولها. مَن تستحق أن تُدفن في حضن الكعبة، إلا مَن وهبت نفسها لله، ورضيت بقضائه، وقالت في فم الخوف: « رَضِيتُ بِقَضاء الله وامتثلتُ لأمر الله »؟
بجوار الكعبة، توجد نصف دائرة تُسمى "حِجر إسماعيل"، حيث يقع قبر هاجر وإسماعيل وبعض الأنبياء. ومن يقوم بالطواف يجب أن يطوف بقسم الحَجَر كما يطوف حول الكعبة.
تلك المرأة الشابة، التي تُركت وحيدة في صحاري مكة في سبيل الله، مستسلمة للأمر الإلهي، كانت تجسيدًا حيًّا للتوكل. حينما سألت إبراهيم: «إلى من تُوكِّلنا؟»، فأجابها قائلاً: "إلى الله الذي أمَرَني أن آتيكم وأترككم..."، ورضاها الذي تجلّى في قولها: "رَضِيتُ بِقَضاءِ اللهِ وَامْتثَلْتُ لأمرِ اللهِ"، (4) هو بمثابة شهادة خالدة على إيمانها واستسلامها. ولا بد أن يُحتفظ بمقامها إلى جانب بقية الأنبياء والأولياء، ليظلّ مزارها لسنوات طويلة محلّ طواف ملايين الناس وهم يعبرون عن عبادتهم، وتبقى ذكرى هذه المرأة، التي استجابت لأمر الله برضا وتوكل، حية وأبدية في تاريخ وقلوب عشّاق الحق. وهنا نجد أنه من خلال قصة هاجر نستمد إلهامًا وتوصيةً بمشاركة المرأة الفعالة والروحانية في مناسك الحج.
ذَبحُ إسماعيل... امتحانٌ لقلْبِ هاجَر
في قصة الذبيح، يصف الجميع اضطراب الأب والابن إبراهيم واسماعيل علیهما السلام، ولكن في خضمّ ذلك، لا يفكّر أحدٌ في حال الأمّ (هاجر) وقلقها.
من أبرز المواقف في حياة السيدة هاجر عليها السلام، ذاك الامتحان الإلهي العظيم المتمثّل بأمر الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام أن يذبح ابنه إسماعيل، ذاك الولد الوحيد، ثمرة قلب هاجر، الذي ربّته في صحراء موحشة، واحتضنته وحدها في سنوات العناء والبُعد، لتُفاجَأ في لحظةٍ بأمرٍ يفوق التصوّر.
ومن بين المشاهد المؤثرة في مناسك الحجّ، والتي تُلهب مشاعر كل امرأة، بل كل إنسان، ردّة فعل هاجر حين علمت بعزم إبراهيم على ذبح ابنهما إسماعيل، امتثالًا لأمر ربّه.
ومع كل هذا، كان على هاجر أن تصبر وتُسلِّم، وأن تُواجه فتنة إبليس الذي جاءها كما جاء إلى إبراهيم وإسماعيل، يُحاول أن يثنيهم عن الطاعة، فخاب وفشل.
وقد ورد في تفسير روح الجنان عن هذه الحادثة:
فلما قرُب إبراهيم بابنه من موضع الذبح، أخبر هاجر بالأمر، فبكت وقالت:
"يا خليل الله! أردت أن تذبح ولدي دون أن تخبرني؟!"
لما أمر الله تعالى إبراهيم بذبح إسماعيل وأخذه معه، قال إبليس:
"إن لم أظفر بآل إبراهيم في هذه اللحظة، فلن أظفر بهم أبدًا."
فأتى إلى أمّه وقال لها:
"يا مسكينة، ألا تدرين ما سيفعله والد الصبي؟! إنه يأخذه ليذبحه!"
فقالت: "ما هذا الكلام السخيف؟! إنّه أرحم من أن يذبح ابنه، وهل في الناس من يذبح ولده؟!"
فقال: "يَدّعي أنّ الله أمره بذلك."
فقالت: "إذا كان الله قد أمره، فلا بُدّ من تنفيذ أمر الله، وقد رضينا وتسليمنا لله."
فآيس منه إبليس وولّى خائبًا. (5)
الأمُّ التي قُدِّمَت ولدُها قربانًا
هاجر وفاطمة الزهراء عليهما السلام... امرأتان في ظاهر الزمن متباعدتان، لكنّ قلبيهما التقيا على درب البلاء والطاعة، وتوحّدت مشاعرهما عند رؤية فلذة الكبد يُساق إلى المذبح.
هاجر، تلك المرأة المؤمنة، نظرت إلى ولدها إسماعيل يُقاد نحو الذبح بأمر من الله، وقلبها يكاد ينفطر حزناً، لكنّها سلّمت لقضاء الله، ورضيت بحكمه. فسُبحان من افتداه بكبشٍ عظيم، وردّ الأمل إلى صدر أمّه المرتجفة.
هاجر بكت على إمكان الذبح، وفاطمة بكت على تحقق الذبح:
لما أخبر النبي ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسين وما يجري عليه من المحن بكت فاطمة بكاء شديدا ، وقالت : « يا أبت متى يكون ذلك؟ قال : في زمان خال مني ومنك ومن علي ، فاشتد بكاؤها وقالت : يا أبت فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم باقامة العزاء له؟.
فقال النبي : يا فاطمة إن نساء امتي يبكون على نساء أهل بيتي ، رجالهم يبكون على رجال أهل بيتي ، ويجددون العزاء جيلا ، بعد جيل ، في كل سنة فإذا كان القيامة تشفعين أنت للنساء وأنا أشفع للرجال وكل من بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنة.
يا فاطمة! كل عين باكية يوم القيامة ، إلا عين بكت على مصاب الحسين فانها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة » (6).
1. علل الشرائع للشيخ الصدوق/ المجلد : 2 / الصفحة : 398.
2. روض الجنان و روح الجنان في تفسير القرآن للرازي، ابوالفتوح / المجلد : 2 / الصفحة : 155.
3. الكافي للشيخ الكليني / الطبعة الاسلامية / المجلد : 4 / الصفحة : 202
4. روض الجنان و روح الجنان في تفسير القرآن للرازي، ابوالفتوح / المجلد : 2 / الصفحة : 154.
5. روض الجنان و روح الجنان في تفسير القرآن للرازي، ابوالفتوح / المجلد : 16 / الصفحة : 219.
6. بحار الأنوار للعلامة المجلسي / الطبعة: مؤسسةالوفاء / المجلد : 44 / الصحفة : 292.
التعلیقات