تبليغ الغدير: رسالة عائلية من الآباء إلى الأبناء حتى يوم القيامة
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 3 أيامكلماتٌ خالدةٌ، انطلقت من فم النبوّة لتبقى حيّةً في ضمير الأمة، تفتح أمامنا طريقًا ممتدًا من الغدير إلى يوم القيامة. هناك كلماتٌ تتجاوز حدود الزمن، كلماتٌ تُطلق لتعيش في الضمير، وتتحول إلى تكليفٍ دائم، وأمانةٍ تتناقلها الأجيال. من بين هذه الكلمات الخالدة، يسطع نداء النبي الأكرم صلى الله عليه وآله يوم الغدير: « فَلْيُبَلِّغِ الْحَاضِرُ الْغَائِبَ وَالْوَالِدُ الْوَلَدَ » (1)، هذا النداء الذي لم يكن مجرد خطابٍ في ساحةٍ صحراوية، بل إعلانَ مشروعٍ أبديٍّ للتبليغ، وتحويلٍ للغدير من مناسبةٍ تاريخية إلى رسالةٍ عائلية، ومن خطابٍ آنِيٍّ إلى عهدٍ ممتدٍ حتى قيام الساعة.
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله أن تكون واقعة الغدير حجر الأساس لبناء الأمة، وأن لا تقتصر على جيل الصحابة، بل تمتد لتكون رابطةً بين كل والدٍ وولده، وكل حاضرٍ وغائب، وكل قلبٍ واعٍ وضميرٍ حيّ. الغدير ليس محطة في الماضي، بل هو خط انطلاقٍ مستمر، ومسؤوليةٌ تربويةٌ وإيمانيةٌ تتجدد في كل بيت، وتُعاد صياغتها في كل جيل. وإذا كان النبي قد أتمّ الحجة في يوم الغدير، فإن على كل والدٍ أن يُتمّها في بيته، في قلوب أبنائه، في وعي أسرته.
في هذه المقالة، نسلّط الضوء على دور العائلة، خصوصًا الآباء والأمهات، في تبليغ رسالة الغدير، باعتبارهم الحلقات الأولى والأهم في سلسلة التبليغ التي أرادها رسول الله صلى الله عليه وآله أن تبقى حيّة، متجددة، نابضة بالولاء، حتى يسلمها جيلٌ إلى آخر، وتصل في النهاية إلى صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف، كما أُريد لها أن تكون.
الغدير؛ نقطة انطلاق مهمة دائمة عائلية
في ذلك اليوم التاريخي، وقف النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في حرّ الشمس ليعلن للعالمين ولاية الإمام علي عليه السلام ، قائلاً: « فَلْيُبَلِّغِ الْحَاضِرُ الْغَائِبَ وَالْوَالِدُ الْوَلَدَ ». لم تكن هذه الكلمات مجرد إعلانٍ لحادثة عابرة، بل كانت بداية مهمة متواصلة، تنتقل من جيلٍ إلى جيل، من الآباء إلى الأبناء، حتى قيام الساعة.
الغدير ليس ذكرى نسترجعها مرةً في السنة، بل هو عهدٌ دائم، ومسؤولية لا تنتهي. فكما حمل الحاضرون يومها رسالة الولاية إلى الغائبين، يجب على كل أبٍ اليوم أن يكون حاملًا لرسالة الغدير، مُعلّمًا إياها لأبنائه، ضامنًا استمرارها في عقولهم وقلوبهم.
« فَلْيُبَلِّغِ الْوَالِدُ الْوَلَدَ »؛ المسؤولية الأبوية في استمرار الولاية
التربية العقائدية ليست مجرد تلقينٍ للمعلومات، بل هي بناءٌ للهوية الإيمانية. وكما أن للأب دورًا في تعليم أبنائه الصلاة والصوم، فله دورٌ أعظم في ترسيخ مبدأ الولاية، الذي هو رأس الإسلام.
حيث ورد في الأحاديث الشريفة كما نرى في هذا الخبر عَنْ أَبَانٍ عَنْ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليهم السلام قَالَ : « بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ الصَّلَاةِ وَ الزَّكَاةِ وَ الصَّوْمِ وَ الْحَجِّ وَ الْوَلَايَةِ وَ لَمْ يُنَادَ بِشَيْءٍ مَا نُودِيَ بِالْوَلَايَةِ يَوْمَ الْغَدِيرِ » (2).
عندما يربّي الأبُ ولده على حبّ أهل البيت عليهم السلام وولائهم، فهو لا يمنحه ثقافةً دينية فحسب، بل يمنحه بوصلةً روحية تحميه من الضياع في عالمٍ مليء بالانحرافات. فكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « أدِّبوا أولادَكُم عَلى ثَلاثِ خِصالٍ : حُبِّ نَبِيِّكُم ، وحُبِّ أهلِ بَيتِهِ ، وقِراءَةِ القُرآنِ » (3).
في هذهِ المرحلة تنمو المشاعر والعواطف والاحاسيس عند الطفل ، من حب وبغض وانجذاب ونفور ، واندفاع وانكماش ، فيجب علىٰ الوالدين استثمار حالات الاستعداد العاطفي عند الطفل وتنمية مشاعره وعواطفه ، وتوجيهها نحو الارتباط بأرقىٰ النماذج البشرية والمبادرة إلىٰ تركيز حبّ النبي صلى الله عليه وآله ، وحبّ أهل البيت عليهم السلام في خلجات نفسه ، والطريقة الافضل في تركيز الحبّ هو إبراز مواقفهم وسلوكهم في المجتمع وخصوصاً ما يتعلق برحمتهم وعطفهم وكرمهم ، ومعاناتهم وما تعرضوا له من حرمان واعتداء ، يجعل الطفل متعاطفاً معهم محباً لهم ، مبغضاً لمن آذاهم من مشركين ومنحرفين.
والتركيز علىٰ قراءة القرآن في الصغر يجعل الطفل منشدّاً إلىٰ كتاب الله ، متطلعاً علىٰ ما جاء فيه وخصوصاً الايات والسور التي يفهم الطفل معانيها ، وقد أثبت الواقع قدرة الطفل في هذه المرحلة علىٰ ترديد ما يسمعه ، وقدرته علىٰ الحفظ ، فينشأ الطفل وله جاذبية وشوق للقرآن الكريم ، وينعكس ما في القرآن من مفاهيم وقيم علىٰ عقله وسلوكه.
من جيلٍ إلى جيلٍ حتى القيامة؛ لماذا لا ينتهي تبليغ الغدير؟
التاريخ الشيعي هو تاريخ "التذكير بالغدير". فمنذ أن قال النبي صلى الله عليه وآله تلك الكلمات، بدأت مسيرة النقل والتبليغ. الأئمة عليهم السلام ذكّروا بالأمر، العلماء دوّنوه، والآباء نقلوه إلى أبنائهم.
دور العلماء في حفظ رسالة الغدير
لقد كان لعلماء الشيعة دور محوري في حفظ رسالة الغدير ونقلها عبر الأجيال. من خلال التأليف والتدريس والخطابة، حافظوا على هذه الرسالة حية في ضمير الأمة. فمئات الكتب التي ألفت حول الغدير، وآلاف الخطب التي ألقيت في مناسباته، تشكل سجلاً حياً لاستمرارية هذه الرسالة.
العائلة كحلقة وصل في سلسلة التبليغ
إن العائلة الشيعية الواعية تمثل الحلقة الأهم في سلسلة التبليغ. فمن خلال:
المناسبات العائلية: كإحياء عيد الغدير في المحافل العائلية
الحوارات اليومية: من خلال ربط أحداث الحياة اليومية بقيم الغدير
البرامج التربوية: كالقصص الهادفة التي تحكي قصة الغدير بأسلوب مناسب للأعمار المختلفة
لكن السؤال: لماذا هذا الاستمرار؟ لأن الغدير ليس مجرد حادثة، بل هو خطّ تمييز بين الإيمان والردّة، كما ورد في الروايات. فلو توقف التبليغ، ضاع المعنى الحقيقي للإسلام، وضاعت هوية الأمة.
عن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول : « لما نزلت الولاية لعلي عليه السلام قام رجل من جانب الناس فقال : لقد عقد هذا الرسول لهذا الرجل عقدة لا يحلها بعده إلا كافر، فجاءه الثاني فقال له: يا عبد الله من أنت؟ قال: فسكت، فرجع الثاني إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله إني رأيت رجلا في جانب الناس وهو يقول: لقد عقد هذا الرسول لهذا الرجل عقدة لا يحلها إلا كافر، فقال: يا فلان ذلك جبرئيل، فإياك أن تكون ممن يحل العقدة فينكص » (4).
الغدير وتربية الجيل المهدوي؛ كيف يجب أن يلعب الآباء دورهم؟
نحن نعيش في عصر الانتظار، عصر التمهيد لظهور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف. وإذا أردنا لأبنائنا أن يكونوا جنودًا للإمام مهدي، فلا بد أن نربطهم منذ الصغر بولاية أمير المؤمنين عليه السلام، التي هي نفسها ولاية جميع الأئمة عليهم السلام، بما فيهم الإمام المنتظر.
التربية المهدوية تبدأ بغرس مفهوم الغدير في قلوب الصغار: أن الإسلام الحقيقي هو إسلام الولاية، وأن محبة الإمام علي عليه السلام هي محبة لرسول الله صلى الله عليه وآله، وهي المحبة التي نرجو بها شفاعة يوم القيامة.
مبلّغ الغدير في بيتي! دور كل أبٍ في إحياء رسالة الولاية
ليس التبليغ حكرًا على العلماء والخطباء. فكل أبٍ هو "مبلّغ للغدير" في محيط عائلته. كيف؟
بالقدوة: عندما يظهر الأب حبّه لأهل البيت عليهم السلام في سلوكه، يتعلّم الأبناء أن الولاية ليست شعارًا، بل منهج حياة.
بالتعليم: بشرح واقعة الغدير بلغةٍ تناسب أعمارهم، وربطها بقيم العدل والإيمان.
بالمناسبات: بإحياء عيد الغدير في البيت، ولو ببساطة، ليبقى الحدث حيًا في ذاكرتهم.
إن صمت الآباء، نُسِيَ الغدير!
التاريخ يُحذّرنا: الأمم التي تنسى هويتها، تزول. وإذا توقف الآباء عن نقل رسالة الغدير، فستصبح الولاية مجرد تراث يُقرأ في الكتب، لا عقيدةً حيةً في النفوس.
فليكن كل أبٍ شيعيٍ واعيًا لمسؤوليته، وليُدرك أن كلمة "فَلْيُبَلِّغِ" موجهةٌ إليه شخصيًا. فكما حفظ آباؤنا لنا هذا الإرث، علينا أن نحفظه لأبنائنا، حتى يصل إلى الإمام المهدي الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف، فيكون أتباعه هم أبناء الغدير الحقيقيين.
دور المرأة في التبليغ
لا يمكن إغفال الدور المحوري للمرأة في تبليغ رسالة الغدير. فهي: المدرسة الأولى التي تغرس حب أهل البيت عليهم السلام في قلوب الأبناء ، وهي النموذج العملي للولاية في سلوكها اليومي ، والرابط العاطفي الذي يقوي أواصر المحبة لأهل البيت عليهم السلام
خاتمة
الغدير ليس مجرد حدثٍ تاريخي، بل هو رسالةٌ حيّةٌ تسري في عروق كل مؤمنٍ مخلص، وعهدٌ ممتدٌ من الآباء إلى الأبناء، لا تنقطع حتى قيام الساعة. إنها مسؤوليةٌ دينيةٌ واجتماعيةٌ تحملها العائلة بصدقٍ وإيمان، لتبقى رسالة الولاية نبراسًا يهدي الأجيال في ظلمات الزمن.
عندما يبلّغ الوالد ولده، لا يُسلّم فقط معلومةً، بل يزرع في قلبه بذرة الولاء التي تنمو وتثمر حبًّا للنبي وأهل بيته عليهم السلام، وتصبح حصنًا متينًا في وجه الضياعات والضلالات. إن استمرار هذا التبليغ هو ضمان لاستمرار الهوية الإسلامية الحقة، وهو صمام أمان يحفظ الأمة من التفكك والضياع.
فلنحرص جميعًا، آباءً وأمهاتٍ، أن نجعل من بيوتنا مناراتٍ للولاية، ومراكزٍ لنقل رسالة الغدير بكل حبّ وصدق، فنكون بذلك أوفياءً للعهود، حُماةً للوصايا، وسبّاقين في صناعة جيلٍ مهدوي يحمل الراية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وفي الختام، نستلهم من قول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ (5). فليكن تبليغ الغدير رسالة كل قلبٍ مؤمنٍ وضميرٍ حي، إلى أن تحين ساعة اللقاء.
والآن دورك أيها القارئ الكريم...
هل لك تجربة خاصة في إحياء عيد الغدير داخل أسرتك؟
هل مرّت بك لحظة شعرت فيها بأنك بلّغت رسالة الولاية لأحد أبنائك أو أحبّتك؟
شاركنا ذكرياتك أو طريقتك المميزة في إحياء هذه المناسبة المباركة، فقد تكون كلمتك إلهامًا لغيرك، وسنة حسنة يُقتدى بها.
1ـ ذكر العلامة الأميني في موسوعة الغدير أن الحديث: رواه أحمد بن حنبل من خلال أربعين طريقاً، ومحمد بن جرير الطبري من نيف وسبعين طريقاً، والجزري المقري من خلال ثمانين طريقاً، وابن عقدة من مائة وخمس طريقا، وأبو سعيد السجستاني من مائة وعشرين طريقاً، وأبو بكر الجعابي من خلال مائة وخمس وعشرين طريقاً. والحافظ أبو العلاء العطار الهمداني من خلال 250 طريقاً.
وقد أقرّ الكثير من أعلام العامّة ومحدثيهم بكثرة أسانيد الحديث وأن الكثير من رواياته من الصحاح والحسان. ومن بين رواة الحديث تسعون صحابياً و84 تابعياً.
2ـ الكافي / الشيخ الكليني / المجلّد : 2 / الصفحة : 21 / ط الاسلامية.
3ـ منتخب حكم النبيّ الأعظم صلّي الله عليه وآله: الشيخ محمد الري شهري / المجلّد : 1 / الصفحة : 179.
4ـ بحار الأنوار / العلامة المجلسي / المجلّد : ٣٧ / الصفحة : 120 ـ ١٢١.
5ـ سورة الأحزاب : الآية 39.
التعلیقات