الآباء ثلاثة... مقام الأب في ضوء أحاديث النبي وأهل بيته عليهم السلام
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 11 ساعةالأب هو الجذر الأول في شجرة الإنسان، والظل الذي يمنح الحياة بعض استقرارها في أيام العاصفة. في ثقافتنا الإسلامية، لا يُنظر إلى الأب على أنه مجرد والد بيولوجي، بل يُنظر إليه كرمزٍ للتربية والعطاء والهداية. وقد بيَّنت الروايات الشريفة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام عظمة مقام الأب، لا سيما حين تتعدد معاني الأبوة، وتتشعب في الإنسان آثار من سقى روحه بالفكر، أو من زوّجه، أو من حمله في صلبه.
الآباء ثلاثة
يروي النبي الأعظم صلى الله عليه وآله حديثًا عظيمًا يلقي الضوء على أنواع الأبوة التي تحيط بالإنسان وتؤثر في مساره، إذ يقول : « الآباء ثلاثة : أبٌ ولَدَك ، وأبٌ زوّجك ، وأبٌ علَّمك » (1).
هذا الحديث الشريف لا يقدّم فقط تعريفًا بالأبوة، بل يرسّخ مبدأ الوفاء والتقدير لمن لهم فضل علينا في مجالات الحياة الثلاث: الخَلق، والبناء الأسري، والتكوين العلمي والفكري.
1. الأب الذي ولدَك :
هذا هو المعنى المعروف للأبوة، وهو أول من يفتح للإنسان أبواب الدنيا. فمنه خرج إلى الحياة، وتحت جناحه تربى، وقد سُئل الإمام زين العابدين عليه السلام في رسالة الحقوق عن حقّ الوالد فقال : « وأما حق أبيك ، فأن تعلم أنه أصلك ، وأنك لولاه لم تكن ، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه ، فاحمد الله واشكره على قدر ذلك ، ولا قوة إلا بالله » (2).
فالأب الجسدي هو من أوجب الله برَّه، ونهى عن العقوق في آيات كثيرة، كقوله تعالى : ﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُواْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًا ﴾ (3).
بالرغم من أنّ العاطفة الإنسانية و معرفة الحقائق، يكفيان لوحدهما لاحترام و رعاية حقوق الوالدين، إلّا أنّ الإسلام لا يلتزم الصمت في القضايا التي يمكن للعقل أن يتوصل فيها بشكل مستقل، أو أن تدلّ عليها العاطفة الإنسانية المحضة، لذلك تراه يعطي التعليمات اللازمة إزاء قضية احترام الوالدين و رعاية حقوقهما، بحيث لا يمكن لنا أن نلمس مثل هذه التأكيدات في الإسلام إلّا في قضايا نادرة أخرى.
2. الأب الذي زوّجك:
قد تبدو هذه الأبوة غريبة في ظاهرها، لكنها عميقة في مضمونها، حيث إن الرجل الذي يمنح ابنته لشخص، إنما يُدخله في دائرة الأسرة، ويمنحه شرف المسؤولية والأبوة الجديدة. هذه الأبوة تُحاط عادة بالحياء والتقدير، لأنها تفتح للإنسان باب تأسيس أسرته الخاصة، وتحمّله مسؤولية جديدة.
3. الأب الذي علمك:
وهذا هو الأب المعنوي الذي يُوقظ في الإنسان وعيه، وينقل له ميراث الأنبياء. وقد عظّم الإسلام شأن المعلم إلى درجة أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله اعتبره أبًا، له حق التقدير والطاعة.
ومن حقوق الأساتذة على الطلاب: تقدير جهودهم ومكافأتهم عليها بالشكر الجزيل، وجميل الحفاوة والتكريم، واتباع نصائحهم العلمية، كاستيعاب الدروس وإنجاز الواجبات المدرسية.
ومن حقوقهم كذلك: التسامح والإغضاء عما يبدر منهم من صرامة أو غلظة تأديبية، تهدف الى تثقيف الطالب وتهذيب أخلاقه. وأبلغ وأجمع ما أثر في حقوق الأساتذة المربين، قول الامام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام : « وحق سايسك بالعلم: التعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع اليه، والاقبال عليه، وان لا ترفع عليه صوتك، ولا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يجيب. ولا تحدّث في مجلسه أحداً، ولا تغتاب عنده أحداً، وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء، وان تستر عيوبه، وتظهر مناقبه ولا تجالس له عدواً، ولا تعاد له وليّاً. فاذا فعلت ذلك، شهد لك ملائكة اللّه بأنك قصدته، وتعلّمت علمه للّه جل اسمه، لا للناس » (4)، و علی هذا ینبغی ان یکون حب النبي صلى الله عليه وآله و اوصیائه الراشدین علیهم السّلام اوکد من جمیع اقسام الحب بعد محبة اللّه سبحانه وتعالى، لأنه المعلم الحقیقی و المکمل الأول، و لذا قال صلى الله عليه وآله : « لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَ أَهْلِهِ وَ مَالِهِ وَ وَلَدِهِ » (5).
في هذه الأبوة تكمن مسؤولية التوجيه والهداية، فالجهل موتٌ، والعلم حياة، ومن أحياك بالعلم فقد منحك حياة جديدة.
أنا وعلي أبوا هذه الأمة
ثمّة حديث شريف آخر يُضيء لنا زاويةً مهمة من مفهوم الأبوة، فقد قال النبي الأعظم صلى الله عليه وآله : « أنا وعلي أبوا هذه الأمة « (6)، بهذا الحديث يُعلَن الإمام علي عليه السلام شريكًا للنبي صلى الله عليه وآله في مقام الأبوة والهداية ، لا من حيث النسب، بل من حيث الهداية والرعاية. فالنبي صلى الله عليه وآله هو الأب الذي أخرج الناس من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، والإمام علي عليه السلام هو امتداد هذا النور، وحامل الرسالة بعده، وسيف الحق والعدل.
إن الأبوة في هذا السياق لا تعني سلطةً فوقية، بل رحمة وقيادة وعناية. وهذا ما نراه في سيرة النبي صلى الله عليه وآله، الذي كان يقول لأصحابه : « إنَّما أنَا لَكُم مِثلُ الوالِدِ اُعَلِّمُكُم « (7)، وهذه الأبوة ليست خاصة بالذكور، بل تشمل النساء أيضًا، فالجميع أبناء لهذه الهداية، أبناء لهذا النور.
الربط بحديث الغدير
حين وقف رسول الله صلى الله عليه وآله في يوم الغدير، بعد حجة الوداع، ورفع يد الإمام علي عليه السلام، قال للناس : « مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ... « (8).
في ذلك اليوم، أعلن النبي صلى الله عليه وآله الأب الثاني للأمة، بعده مباشرة، وجعل له من الولاية ما له، لأنه الأب الذي يُكمّل المسيرة ويواصل الرعاية. فالمولى في حديث الغدير ليس مجرد صديق أو محبوب، بل هو القائد والولي والمربي، أي الأب في الهداية والتكليف.
ومن خلال هذا الربط، نفهم أن الأبوة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وآله بقوله : «أنا وعلي أبوا هذه الأمة « ليست دعوة عاطفية، بل هي تأسيس فكري وروحي واجتماعي لحركة الأمة بعده. فكما أن الأب لا يترك أبناءه بلا راعٍ، كذلك لم يترك النبي أمته دون من يتولى أمرها.
كيف نراعي مقام الأب؟
بعد أن عرضنا هذه الأحاديث العظيمة، ينبغي أن نسأل أنفسنا: كيف نرعى مقام الأب في حياتنا؟
أولاً: طاعة الوالد البيولوجي وبرّه
وهذا من أوضح مصاديق البرّ التي أكّدت عليها الشريعة، بل اعتبرت عقوق الوالدين من الكبائر. ولا يُشترط أن يكون الوالد كامل الإيمان أو خاليًا من الأخطاء، فحقه محفوظ.
ثانيًا: شكر المعلّم واحترامه
في زمن تتراجع فيه القيم، ينبغي إعادة الاعتبار للمعلم، وعدم النظر إليه كمجرّد موظف. المعلم يزرع في الأرواح بذور الخير، ويجب أن نُعامله كما نُعامل والدًا علّمنا كيف نقرأ الحياة.
ثالثًا: حفظ العلاقة مع أسرة الزوج أو الزوجة
في مجتمعاتنا، كثيرًا ما تنشأ التوترات بين الزوجين وأهليهما، لكن حين نتذكر أن أبا الزوج أو الزوجة له مقام الأبوة، نُحسن التعامل ونُخفف من التنافر.
رابعًا: معرفة حق النبي وأهل بيته عليهم السلام
إذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله هو الأب الأول في الهداية، فعلينا أن نلتزم بنهجه، ونسير على هدي وصيه أمير المؤمنين علي عليه السلام، فطاعتهما ليست خيارًا بل دين وإيمان.
خاتمة
الآباء في حياة الإنسان ليسوا فقط من أنجبوه، بل من ربّوه وعلّموه ووجهوه. والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله حين قسّم الأبوة إلى ثلاثة، كان يُعلّمنا كيف ننظر بعين الوفاء إلى كل من كان له فضل علينا. كما أن الحديث الشريف "أنا وعلي أبوا هذه الأمة" يكشف عن موقع القيادة والرحمة في حياة الأمة.
ومن خلال ربط هذه الأحاديث بحديث الغدير، يتضح لنا أن الإسلام لا يترك القيادة فراغًا، بل يملأها بأبوة من نوع آخر، أبوة روحية تمتد من رسول الله إلى علي، ثم إلى بقية الأئمة عليهم السلام.
فحريٌّ بنا أن نحفظ حرمة كل من كانوا لنا آباءً في النسب، أو في العلم، أو في الهداية، فإن برّهم مفتاح رضا الله، ووسيلة لنورٍ لا ينطفئ.
وأنت، هل تودّ أن توجّه كلمة لأبيك؟ أو أن تبعث تحيةً لأبٍ في مقام المعلم؟ أو ربما نداء محبة ووفاء لأمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام، أبِ هذه الأمة بعد نبيها؟ أو كلمة حانية إلى من كان لك والدًا في القلب والمعنى؟ شاركنا صوتك وعبّر عمّا في وجدانك.
1. مفاد حديث الغدير / العلامة الأميني / المجلّد : 1 / الصفحة : 30.
2. الأمالي / الشيخ الصدوق / المجلّد : 1 / الصفحة : 453 ـ 454.
3. سورة الإسراء : الآية 23.
4. الأمالي / الشيخ الصدوق / المجلّد : 1 / الصفحة : 452.
5. الطرائف في معرفة مذهب الطوائف / السيد بن طاووس / المجلّد : 2 / الصفحة : 506.
6. عيون أخبار الرضا عليه السلام / الشيخ الصدوق / المجلّد : 1 / الصفحة : 91.
7. موسوعة ميزان الحکمة / الشيخ محمد الري شهري / المجلّد : 4 / الصفحة : 163.
8. الخصال نویسنده / الشيخ الصدوق / المجلّد : 1 / الصفحة : 219.
التعلیقات