مصائب الإمام السجاد عليه السلام ومسيرة الكوفة
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 18 ساعةلم تكن لحظة تولّي الإمام زين العابدين عليه السلام للإمامة بداية عهدٍ هادئ أو مرحلة استقرار، بل كانت فاجعة تتقد ناراً، ومصيبة تهزّ الجبال. تسلّم الإمامة في قلب المأساة، وأول ما واجهه كان لهباً يلتهم خيام العترة الطاهرة، وصيحات العدو تصدح في الأفق: احرقوا بيوت الظالمين.
أمام ناظريه كان رأس والده الحسين عليه السلام مرفوعًا على رمح طويل، وخيول العداء تدوس صدره الشريف، وهو قد أنهكته الحمى والألم، فلا سيف بيده ولا ناصر معه، سوى الدمع والدعاء والصبر الذي ورثه عن أئمة الهدى.
وفي هذا المشهد المفجع، جاءت العقيلة زينب الكبرى عليها السلام، تلك التي تربّت في بيت الوحي، ووقفَت على جبل الطف ثابتة كالجبل، تسأله: ما نصنع الآن يا ابن رسول الله؟
فلم يأمرها بالهروب ذليلاً، بل وجّهها بوصيّة ملؤها الحكمة والإباء: « عليكنّ بِالفرارِ » ، لا فرار خوفٍ، بل تحرّك استراتيجي لصيانة ما تبقّى من الرسالة، وحفظاً لذراري النبوة من فتك الأعداء.
لقد كانت تلك اللحظة بطولة صامتة لا تقلّ عن السيوف، وثباتًا تحت الرماد لا تقدر عليه إلّا قلوب علوية قد طُبعت على الصبر والبصيرة.
حرق الخيام وسلب حرائر النبوة
وعمد المجرمون اللئام إلى حرق خيام الإمام أبي عبد الله الحسين عليهالسلام غير حافلين بمَنْ في الخيام من بنات الرسالة وعقائل النبوّة. قال الإمام زين العابدين عليه السلام : «والله ، ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلاّ وخنقتني العبرة ، وتذكّرت فرارهن يوم الطفّ من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء ، ومنادي القوم ينادي : أحرقوا بيوت الظالمين» (1).
شروع السبي بعد يوم عاشوراء
ثم ان عمر بن سعد لعنه اللّه أقام بقية يومه و اليوم الثاني إلى زوال الشمس فجمع قتلاه فصلى عليهم و دفنهم و ترك الحسين عليه السلام و أصحابه منبوذين بالعراء. ثم أمر حميد بن بكير الأحمري فأذن بالناس بالرحيل إلى الكوفة.
ثم رحل بمن تخلف من عيال الحسين عليه السلام و حمل نساءه صلوات الله عليه على أحلاس اقتاب الجمال بغير وطاء مكشفات الوجوه بين الأعداء و هن ودائع الأنبياء، و ساقوهن كما يساق سبي الترك و الروم في أشد المصائب و الهموم، و للّه در قائله:
يصلى على المبعوث من آل هاشم
و يغزى بنوه أن ذا لعجيب
و وكل جميع المشايخ و المعتمدين على الإمام زين العابدين عليه السلام و بنات أمير المؤمنين و سائر النساء و كن جميعهن عشرين نسوة، و كان لزين العابدين عليه السلام في ذلك اليوم اثنان و عشرون سنة و لمحمد الباقر عليه السلام أربع و كانا كلاهما في كربلاء فحفظهما اللّه تعالى.
و قال الأزدي: حدثني أبو زهير العبسي عن قرة بن قيس التميمي قال: نظرت إلى تلك النسوة لما مررن بالحسين عليه السلام و أهله و ولده عليهم السلام صحن و لطمن وجوههن. و قال: فما نسيت من الأشياء لا أنسى قول زينب ابنة فاطمة صلوات الله عليها حين مرت بأخيها الحسين عليه السلام صريعا و هي تقول: يا محمداه، يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء، هذا حسين بالعراء مرمل بالدماء مقطع الأعضاء، يا محمداه و بناتك سبايا و ذريتك مقتلة تسفى عليها الصبا. قال:
فأبكت و اللّه كل عدو و صديق.(2)
السيدة زينب تصبّر الإمام السجاد عليهما السلام
و في الحديث المشهور المروي عن زائدة عن علي بن الحسين عليه السلام قال: إنه لما أصابنا بالطف ما أصابنا و قتل أبي عليه السلام و قتل من كان معه من ولده و إخوته و سائر أهله و حملت حرمه و نساؤه على الأقتاب يراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى و لم يواروا فيعظم ذلك في صدري و يشتد لما أرى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج و تبينت ذلك مني عمتي زينب بنت علي الكبرى فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي و أبي و إخوتي؟
فقلت: و كيف لا أجزع و أهلع و قد أرى سيدي و إخوتي و عمومتي و ولد عمي و أهلي مصرعين بدمائهم مرملين بالعراء مسلبين لا يكفنون و لا يوارون و لا يعرج عليهم أحد و لا يقربهم بشر كأنهم أهل بيت من الديلم و الخزر.
فقالت: لا يجزعنك ما ترى، فو اللّه إن ذلك لعهد من رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى جدك و أبيك و عمك عليهم السلام، و لقد أخذ اللّه ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض و هم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها و هذه الجسوم المضرجة و ينصبون لهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء عليه السلام لا يدرس أثره و لا يعفو رسمه على كرور الليالي و الأيام، و ليجتهدن أئمة الكفر و أشياع الضلالة في محوه و تطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهورا و أمره إلا علوا.(3)
الإمام السجاد في مجلس ابن زياد
وعُرِضَ عليه عليُّ بنُ الحسينِ عليهما السلام فقالَ له : مَنْ أنْتَ؟
فقالَ : « أنا عليُّ بنُ الحسينِ ».
فقالَ : أليسَ قد قَتَلَ الله عليَّ بنَ الحسينِ ؟.
فقالَ له عليّ عليه السلام : « قد كان لي أخٌ يسمّى عليّاً قتلَه النّاسُ ».
فقالَ له ابنُ زيادٍ :بلِ اللهُ قتلَه.
فقالَ عليُّ بنُ الحسين عليهما السلام : ﴿ اللهُ يَتَوَفّىَ الأنفُسَ حيْنَ مَوْتِهَا ﴾ (4).
فغضبَ ابنُ زيادٍ وقالَ : وبكَ جُرأةُ لجوابي وفيكَ بقيّةْ للرّدَ علي؟! اذهبوا به فاضربوا عُنقَه. فَتعلّقتْ به زينبُ عمتُه وقالتْ : يا ابنَ زيادٍ ، حَسْبُكَ من دمائنا؟ واعْتَنَقَتْه وقالتْ : واللهِ لا أُفارِقُه فإنْ قتلتَه فاقتلْني معَه ؛ فنظرَ ابنُ زيادٍ إليها واليه ساعة ثمّ قالَ : عجباً للرّحمِ! واللهِّ إِنِّي لأظنُّها ودّتْ أنِّي قتلتُها معَه ، دَعُوه فإِنِّي أراه لمِا به.(5)
احتجاج علي بن الحسين عليهما السلام على أهل الكوفة
قال حذيم بن شريك الأسدي: خرج زين العابدين عليه السلام إلى الناس وأومئ إليهم أن اسكتوا فسكتوا، وهو قائم، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم قال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني! ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين، المذبوح بشط الفرات من غير دخل ولا تراث، أنا ابن من انتهك حريمه، وسلب نعيمه، وانتهب ماله، وسبي عياله، أنا ابن من قتل صبرا، فكفى بذلك فخرا.
أيها الناس ناشدتكم بالله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة؟ قاتلتموه وخذلتموه فتبا لكم ما قدمتم لأنفسكم وسوء لرأيكم، بأية عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمتي.
قال: فارتفعت أصوات الناس بالبكاء، ويدعو بعضهم بعضا: هلكتم وما تعلمون.
فقال علي بن الحسين، رحم الله امرءا قبل نصيحتي، وحفظ وصيتي في الله وفي رسوله، وفي أهل بيته، فإن لنا في رسول الله أسوة حسنة.
فقالوا بأجمعهم؟ نحن كلنا يا بن رسول الله سامعون مطيعون حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك رحمك الله فإنا حرب لحربك، سلم لسلمك، لنأخذن ترتك وترتنا، عمن ظلمك وظلمنا.
فقال علي بن الحسين عليه السلام: هيهات هيهات!! أيها الغدرة المكرة، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم إلى آبائي من قبل كلا ورب الراقصات إلى منى، فإن الجرح لما يندمل!! قتل أبي بالأمس، وأهل بيته معه، فلم ينسني ثكل رسول الله صلى الله عليه وآله، وثكل أبي وبني أبي و جدي شق لهازمي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه تجري في فراش صدري.
و مسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا:
ثم قال عليه السلام:
لا غرو أن قتل الحسين وشيخه
قد كان خيرا من حسين وأكرما
فلا تفرحوا يا أهل كوفة بالذي
أصيب حسين كان ذلك أعظما
قتيل بشط النهر نفسي فداؤه
جزاء الذي أرداه نار جهنما (6)
الخاتمة
وهكذا تُختتم صفحات دامية من التاريخ، تسطّرت فيها بطولات الإمام زين العابدين عليه السلام بالحزن والدموع، لا بالسيف والرماح، لكنها لم تكن أقل شرفًا وجهادًا. لقد كان عليه السلام الإمام الذي وقف على أنقاض كربلاء، يحمل في قلبه نار الفقد، وفي جسده آثار المرض والسبي، لكنه نهض بمسؤوليته الكبرى، فحفظ النساء، وصان العقيدة، وواجه الطغاة بكلمة الحق التي لا تخشى الموت.
لم يكن الإمام السجاد عليه السلام أسيرًا ضعيفًا في أيدي بني أمية، بل كان صوت الحقّ بين صمت السيوف، ونورًا منيرًا وسط ظلام الظلم. من صبره في كربلاء، إلى خطبته المدوّية في الكوفة، إلى احتجاجه الجريء في مجلس يزيد، رسم عليه السلام خريطة البصيرة والصبر والثبات لكل الأجيال القادمة، وأثبت أن الإمامة ليست في القتال فقط، بل في الصبر على البلاء، وحفظ كرامة الرسالة.
إن سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام بعد كربلاء هي الشاهد الأعظم على أن فاجعة الطف لم تكن نهاية، بل كانت بداية لمرحلة جديدة من الجهاد الروحي والنهضة الفكرية، حيث تحوّل الألم إلى وعي، والدمعة إلى دعاء، والأسْر إلى مدرسة في مقاومة الطغيان.
فسلامٌ على الإمام السجاد يوم وُلد، ويوم عاين فاجعة كربلاء، ويوم صبر وسار في مسيرة السبي، ويوم توفّي شهيداً مسموماً مظلوماً، ويوم يُبعث حيّاً مع الشهداء والصالحين.
1. أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء / المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام / المجلّد : 1 الصفحة : 204.
2. نفس المهموم في مصيبة سيدنا الحسين المظلوم / الشيخ عباس القمي / المجلّد : 1 / الصفحة :351 ـ 352.
3. كامل الزيارات / ابن قولويه القمي / المجلّد : 1 / الصفحة : 260 ـ 262 / ط دار المرتضوية.
4. سورة الزمر : الآية ٤٢.
5. الإرشاد / الشيخ المفيد / المجلّد : 2 / الصفحة : 117.
6. الإحتجاج / أبو منصور الطبرسي / المجلّد : 2 / الصفحة : 32.
التعلیقات