الحياة مع الأمل في كلام الإمام الحسين عليه السلام
دروس من واقعة الكربلاء
منذ 16 ساعةالحياة بلا أمل هي موت تدريجي
الأمل هو أعظم قوّة دافعة في حياة الإنسان. الإنسان الذي يعيش بلا أمل، وإن امتلك الإمكانيات والمواهب، يُصاب بشلل نفسي وخمول روحي. وكما أنّ الجسد لا يعيش بلا أكسجين، فإنّ الروح لا تستمر بلا أمل.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: « كُلَّ رَاجٍ طَالِبٌ وَ كُلَّ خَائِفٍ هَارِبٌ » (1) أي أنّ كلّ من يرجو شيئاً يسعى إليه، وكلّ من يخاف من شيء يفرّ منه.
وقد أشارت الكثير من الدراسات النفسية والعلاجية إلى أنّ اليأس يُعدّ من أبرز أسباب الاكتئاب، والانتحار، واضطرابات النوم، وحتى بعض الأمراض الجسدية.
لكن يبقى السؤال الجوهري:
من أين يأتي الأمل الحقيقي والدائم؟
الجواب واضح:
من الإيمان بالله تعالى، وبمعنى الحياة، وبالعدالة الإلهية، وبالآخرة، وبحكمة الله سبحانه.
قال الله تعالى في كتابه: « ألا بذكرِ اللهِ تطمئنُّ القلوب » (2).
إنّ هذه الآية الكريمة تفتح لنا بابًا واسعًا لفهم أعمق للسكينة الداخليّة التي يبحث عنها كلّ إنسان.
فالقلب البشريّ، بطبعه، قلق، متقلّب، يعيش بين آلام الماضي ومخاوف المستقبل، ولا يجد الراحة الحقيقيّة في مالٍ ولا في جاهٍ ولا حتى في صحبة البشر، مهما طابت.
ولكنّ الله جلّ جلاله يخبرنا بكلمة جامعة:
ألا (أي انتبهوا!) بذكر الله تطمئن القلوب.
أي لا سكون، لا راحة، لا طمأنينة دائمة، إلّا حين يكون الله في قلبك، وفي فكرك، وفي لسانك.
فالإيمان هو المصدر الأصيل والأقوى لصناعة الأمل.
حين تعلم أنّ دموعك محسوبة عند الله، وأنّ فشلك قد يكون مقدّمة لانتصارك، وأنّ لا صرخة تذهب سدى، فإنّك لن تيأس أبداً.
الإنسان الكامل؛ قدوة الحياة ذات المعنى
لا يمكننا أن نتعرّف على طريق الأمل والمعنى في الحياة من خلال الاستشارات والنصائح السطحية فقط. بل علينا أن نتوجّه إلى أولئك الذين ثبتوا في ميدان العمل، في قلب الابتلاء، وفي لحظات الظلام، وحافظوا على وهج الأمل حيّاً.
ومن أفضل هؤلاء هم الأنبياء والأولياء.
قال الامام علي بن الحسين عليه السلام: « إِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ مَنْ يَقْتَدِي بِسُنَّةِ إِمَامٍ وَ لَا يَقْتَدِي بِأَعْمَالِهِ » (3).
ومن أعظم هذه النماذج الخالدة: الإمام الحسين عليه السلام.
نظرة الإمام الحسين عليه السلام إلى الحياة والمصير
ففي رواية جميلة ومعبّرة، أجاب فيها من سأله:
كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: « أَصْبَحْتُ وَ لِيَ رَبٌّ فَوْقِي وَ النَّارُ أَمَامِي وَ الْمَوْتُ يَطْلُبُنِي وَ الْحِسَابُ مُحْدِقٌ بِي وَ أَنَا مُرْتَهَنٌ بِعَمَلِي، لَا أَجِدُ مَا أُحِبُّ وَ لَا أَدْفَعُ مَا أَكْرَهُ وَ الْأُمُورُ بِيَدِ غَيْرِي فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَنِي وَ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنِّي فَأَيُّ فَقِيرٍ أَفْقَرُ مِنِّي» (4).
التحليل المفهومي والنفسي للرواية
في هذا الكلام الشريف، يُبيّن الإمام الحسين عليه السلام عدّة حقائق أساسية بكلّ وضوح، وهي بمثابة أنوار تهدي من ضلّ عن طريق الأمل في الحياة:
1. «ربّي فوقي» ← حضور دائم لله، وطمأنينة مستقرة
الشرح:
أوّل ما يذكره الإمام هو الله، أي أنّ أوّل دافع لبداية كلّ يوم هو شعور بمرافقة الله ومراقبته الدائمة.
تطبيق عملي:
ابدأ يومك بذكر بسيط أو دعاء قصير.
اسأل نفسك دائماً: "الله يراني الآن، هل أتصرف بشكل صحيح؟" واذكر هذه الفقرة من دعاء الكميل: ولا يمكن الفرار من حكومتك (5).
هذا التمرين البسيط يُبعد التشتّت، ويمنحك شعوراً بالأمان الداخلي.
2. «النار أمامي» ← تحمّل المسؤولية
الشرح:
يُذكّر الإمام بأنّ لكلّ عمل نتيجة، ولا شيء يمرّ بلا أثر، ونحن مسؤولون عن أفعالنا.
قال الله تعالى في القرآن الكريم: ( إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (6).
تطبيق عملي:
فكّر جيداً قبل كلّ قرار، واسأل: "هل يستحق أن أتحمّل مسؤوليته؟"
بدلاً من لوم الآخرين، تحمّل نصيبك من الخطأ.
الإنسان المسؤول هو إنسانٌ قادر على صناعة مستقبله، ولا يسمح لليأس أن يسيطر عليه.
قال الامام الكاظم عليه السلام: ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل حسنا استزاد الله وإن عمل سيئا استغفر الله منه وتاب إليه. (7)
3. «الموت يطلبني» ← الوقت محدود، والفرصة عظيمة
الشرح:
الإمام لا يقصد إخافتنا من الموت، بل يُنبّه إلى أنّ الوقت قصير، والفرص يجب أن تُغتنم.
إنّ ذكر الموت لا يعني التشاؤم أو الحزن الدائم، بل هو مفتاح للوعي، وتنبيه للقلب، ودعوة للاستعداد قبل فوات الأوان. حين يتذكّر الإنسان أنّه قد يُغادر الدنيا في أيّ لحظة، فإنّه يُسارع إلى الخير، ويترك المعاصي، ويُحسن إلى الناس، ويغتنم كلّ لحظة من عمره كأنّها الأخيرة. فالحياة قصيرة، ولكنّها فرصة عظيمة، والذكيّ هو من جعل ذكر الموت سببًا للرجاء والعمل، لا للخوف والكسل.
تطبيق عملي:
لا تضيّع وقتك على الندم على الماضي أو الخوف من المستقبل.
اكتب كلّ صباح: "ما هو أهمّ عمل أستطيع إنجازه اليوم؟"
هذا التمرين يساعدك على التركيز، ويُزيد من طاقتك.
4. «أنا مرتهن بعملي» ← نحن أسرى أعمالنا، لا أسرى القدر
الشرح:
الإمام يُوضح أن لا شيء يحدث صدفة، وما نواجهه هو نتيجة أفعالنا.
عندما يقول الإمام الحسين عليه السلام: "أنا مرتهنٌ بعملي"، فهو يذكّرنا بأنّ الإنسان مسؤول عن أفعاله، وأنّ ما نواجهه من مصائب في حياتنا قد يكون نتيجةً لما فعلناه بأيدينا، كما قال الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (8).
هذه الفكرة لا تدعونا إلى جلد النفس أو الحزن، بل إلى اليقظة، والمحاسبة، وتصحيح الطريق. فإنّ الله لا يظلم أحدًا، وإنّما يُرينا نتائج أعمالنا لنرجع إليه، ومع ذلك فهو الكريم الذي "يعفو عن كثير"، فلا يقبضنا بكلّ خطايانا، بل يفتح لنا باب التوبة في كلّ لحظة. فهل نغتنم الفرصة ونتغيّر قبل أن يُغلق هذا الباب؟
تطبيق عملي:
راقب سلوكك، وأقوالك، ونيّاتك.
إذا فشلت، لا تسأل: "لماذا أنا؟" بل اسأل: "ما الذي يجب أن أُصلحه؟"
هذا المنهج يُنقذك من الوقوع في اليأس واللامعنى.
5. «الأمور بيد غيري» ← التوكّل على الله
الشرح:
نحن نسعى ونعمل، لكن النتيجة ليست بيدنا. واجبنا هو أداء التكليف، لا التحكّم في النتائج.
قال أميرالمؤمنين عليه السلام: « والتوكل على الله نجاة من كل سوء وحرز من كل عدو » (9).
التوكل الحقيقي لا يعني الكسل أو ترك العمل، بل هو الجمع بين بذل الجهد والثقة بالله. لذلك، عندما رأى النبيّ صلى الله عليه وآله قومًا لا يزرعون، وسأَلهم: "ما أنتم؟"، فقالوا: "نحن المتوكلون"، قال لهم: "لا، بل أنتم المتكلون" (10). فالنبيّ صلى الله عليه وآله فرّق بوضوح بين المتوكل الذي يعمل ويعتمد على الله، وبين المتكل الذي يترك الأسباب ويدّعي التوكل. فالإسلام يدعونا أن نزرع ونسعى ونتحرّك، ثم نُسلِّم النتائج لله، لا أن نتكاسل وننتظر دون عمل.
تطبيق عملي:
إذا بذلت جهدك، فاترك النتيجة لله.
لا تكرّر: "ما نفع؟ ما نفع؟" بل قل: "أنا قمت بواجبي، والله أعلم بالأفضل."
6. «إن عذّبني فبحق، وإن عفا عني فبفضل» ← توازن بين الخوف والرجاء
الشرح:
الإنسان بحاجة إلى معرفة عدالة الله، ولكن أيضاً إلى الأمل برحمته.
الدين يعلّمنا أن نعيش بين الخوف من الله والرجاء برحمته، فلا نغترّ بأعمالنا فنطمئن، ولا نيأس من الذنوب فنهلك. قال الله تعالى في القرآن: ﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ (11)، أي أنّ المؤمن يدعو ربّه وهو خائف من تقصيره، وطامع في عفو ربّه. وكذلك قال الإمام علي عليه السلام: «خيرُ الأعمالِ اعتدالُ الرجاءِ والخوفِ» (12)، أي أن الأفضل أن يكون قلب المؤمن معتدلاً: لا يغلب عليه الخوف فييأس، ولا يغلب عليه الرجاء فيتساهل. فالمؤمن يمشي إلى الله بقلبين: قلبٍ يرجو الجنة، وقلبٍ يخاف النار، وهكذا تستقيم النفس وتثبت على طريق الهداية.
تطبيق عملي:
إذا أخطأت، استغفر وتُب، ولكن لا تغرق في الشعور بالذنب.
اجعل دائماً في قلبك "أملًا بالفضل"، كما كان عند الإمام الحسين عليه السلام.
7. «أيّ فقير أفقر منّي؟» ← قمة التواضع والافتقار إلى الله
الشرح:
رغم عظمة الإمام ومقامه، يقرّ بأنّه محتاج. هذا التواضع هو مصدر الطمأنينة والأمل.
عندما قال الإمام الحسين عليه السلام: «أيّ فقيرٍ أفقرُ منّي»، لم يكن يقصد الفقر المالي فقط، بل كان يُعبّر عن شعور الإنسان بحاجته الدائمة إلى الله، في كلّ لحظة من حياته. وهذا المعنى نجده واضحًا في دعائه يوم عرفة حين قال: «إلهي! أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيراً في فقري!» (12)، أي حتى لو ظننتُ أنني أملك شيئًا، فأنا في الحقيقة محتاج إليك، يا ربّ، فكيف بي حين أكون فعلاً في ضيقٍ وضعف؟! هذا يعلّمنا التواضع، ويُذكّرنا أن الغِنى الحقيقي ليس في المال، بل في قربنا من الله، وأنّنا مهما بلغنا من قوّة أو علم، فإننا نحتاج إلى رحمة الله في كلّ آن.
تطبيق عملي:
اعترف دوماً بأنك لا تعلم كلّ شيء، ولا تملك السيطرة على كلّ شيء.
اطلب العون من الله، لا في الشدائد فقط، بل في كلّ قراراتك.
الخلاصة: الأمل هو التوكّل المقرون بالعمل
يرسم الإمام الحسين عليه السلام في هذا البيان الربّاني خارطة الحياة الإيمانية:
وعي بالموت والحساب
تحمّل مسؤولية العمل
رجاء بفضل الله
تواضع أمام عظمة الله
الحياة التي تقوم على هذه الركائز الأربع ليست عبثية، ولا باردة، ولا مظلمة، بل هي مليئة بالنور، والحركة، والمعنى.
1. أصول الكافي للشيخ الكليني / المجلد : 2 / الصفحة : 343 / الطبعة: الاسلامية
2. الرعد: 28
3. أصول الكافي للشيخ الكليني / المجلد : 8 / الصفحة : 234/ الطبعة: الاسلامية
4. روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه للمجلسي، محمد تقي / المجلد : 13 / الصفحة : 163 / الطبعة القديمة.
5. مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي
6. الإسراء : 7.
7. الكافي للشيخ الكليني / المجلد: ٢ / الصفحة : ٤٥٣.
8. الشورى : 30.
9. بحار الأنوار للعلامة المجلسي / المجلد : 78 / الصفحة : 79 / الطبعة: مؤسسةالوفاء.
10. مستدرك الوسائل للمحدّث النوري / المجلد : 11 / الصفحة : 217
11. السجدة : 16.
12. غرر الحكم و درر الكلم للتميمي الآمدي، عبد الواحد بن محمد / المجلد : 1 / الصفحة : 361.
13. مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي / دعاء الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام يوم العرفة.
التعلیقات