نساء أسوات في القرآن : من حواء إلى هاجر
نساء خالدات
منذ ساعتينالمرأة ليست مجرّد شخصية ثانوية في القرآن، بل هي قلب حيّ ينبض بالعطاء والإيمان. من خلال قصص هاجر، ومريم، وآسية وغيرهنّ، يقدّم لنا القرآن صوراً خالدة لنساء أسوات، لهنّ بصمات مضيئة في تاريخ الرسالة. قراءة هذه النماذج ليست فقط للتاريخ، بل لتجد كلّ امرأة مؤمنة فيهنّ مرآةً تعكس قوّتها وكرامتها.
حواء، أمّ جميع البشر ونفي كل أشكال التمييز
حواء كانت امرأة مؤمنة وصالحة، وقد جعلها الله أمّاً لجميع البشر، ليدلّ على أنّ جميع الناس متحدون في أصل الإنسانية وحقيقة البشرية، ولا فرق في ذلك بين رجل وامرأة، صغير وكبير، ضعيف وقوي؛ ولذلك لا ينبغي أن يكون هناك أي نوع من التمييز بينكم. فجميع البشر أبناء أمّ واحدة هي حواء وأب واحد هو آدم:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ (1).
والخطاب في هذه الآية متوجه إلى الناس جميعاً، كما في قوله: ﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ (2).
وفي آية أخرى عُبّر عن آدم وحواء بـ أبويكم: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ﴾ (3).
فالآية تريد أن تقول إنّ جميع الناس، مع كثرتهم وتنوعهم، من أصل واحد، كما توضحه الجملة: ﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾.
وكما ورد أيضاً: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾ (4).
هذا يؤكد أن جميع البشر من أب وأمّ واحدين، وأنّ اختلاف العرق أو القومية أو الوطن لا ينبغي أن يكون سبباً للتفرّق والتمزّق.
حواء، مثال السكينة والطمأنينة
جعل الله من أهداف خلق حواء أن تكون سكناً وراحة لآدم وللأسرة. قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا... ﴾ (5).
وفي آية أخرى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ (6).
ومن هذه الآيات يظهر أنّ المرأة يمكن أن تكون مثالاً للمحبّة والتعاطف، وعوناً لزوجها في كل مراحل الحياة. وهكذا كانت حواء إلى جانب آدم دائماً، في الجنّة وفي الأرض، شريكةً ورفيقةً وعضداً له.
بلقيس (ملكة سبأ)
القوة المقرونة بالبحث عن الحق
عادةً ما تكون السلطة مفسدة للإنسان إلا من ثبّته الله. ومن أبرز صفات بلقيس أنّها طلبت الحق رغم قوتها وسلطانها، ولذلك عدّها القرآن امرأة نموذجية. قال تعالى: ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾(7).
وقد كانت ملكةً قوية ذات عرش عظيم. لكنها عندما وصلها كتاب سليمان لم ترفضه، بل قالت: ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ﴾ (8).
وسمّت الكتاب كريماً لأنه بدأ باسم الله الرحمن الرحيم، ولأنه جاء من ملك ونبي عزيز ومضمونه: ﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ (9).
فقالت بلقيس: ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾ (10).
وقد آمنت بسليمان قبل أن تذهب إليه، كما قالت: ﴿ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ (11).
وأعلنت تسليمها لله: ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ (12).
لقد تخلّت بلقيس عن مُلكها وقوتها عندما أدركت أنّ الدعوة من عند الله، فأصبحت قدوة في تجاوز الدنيا من أجل الحق.
سارة وهاجر
صمود سارة أمام ملك مصر
عندما نفى نمرود إبراهيم عليه السلام من بابل، خرج ومعه زوجته سارة إلى الشام وبيت المقدس. وعند الحدود طالبه الحرّاس بالضرائب. وكانت سارة ذات جمال فائق، فخبّأها إبراهيم في صندوق خشبي خوفاً عليها. لكن الحرس اكتشفوا الأمر وأخبَروا الملك.
استُدعي إبراهيم وسُئل عن سارة، فخاف أن يصرّح بأنها زوجته، فقال: إنها أختي. فظن الملك أنها بلا زوج، وأمر بإحضارها إلى قصره. حاول الملك أن يغويها، لكنها ثبتت وصبرت، فداخله الرعب، ورأى في المنام ما أوضح له أنّه لا ينبغي أن يمسّها. فأطلق سراحها باحترام، وأهدى لها جاريته هاجر، وأعادها إلى إبراهيم (13).
وعي هاجر بواجبها
أسكن النبي إبراهيم عليه السلام زوجته هاجر مع ولده إسماعيل في أرض الحجاز بجوار الكعبة؛ مع أنّه في ذلك الوقت لم تكن هناك كعبة قائمة، ولا عمران، ولا ماء، ولا نبات، ولم يكن يُرى أي كائن حي. والقرآن الكريم يذكر جانباً من دعاء إبراهيم على هذا النحو:
﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ (14).
أصرت سارة على إبراهيم أن يأخذ المرأة والطفل إلى مكان ما ثم يرجع من دون أن ينزل عن راحلته. فترك إبراهيم زوجته وولده في الصحراء تحت لهيب الشمس وعاد. لكن هاجر، عندما أدركت أنّ قرار إبراهيم ليس قراراً شخصياً بل هو أمرٌ من الله، سلّمت أمرها لله، وخضعت بإيمان، وأطلقت زمام راحلته، واطمأنت أنّ الله تعالى لن يُهينها. لقد فهمت هاجر أنّ ذلك تكليف إلهي يجب تنفيذه، وفي هذا الموقف أدّت دورها كامرأة مؤمنة ومثالية، وساندت إبراهيم حتى يتمكّن فيما بعد مع ابنه من إعادة بناء بيت الله، ليصبح موضع طواف المؤمنين الموحّدين.
في هذه الحادثة عرفت هاجر الواجب وأدّته بأفضل وجه، فأصبحت قدوة في معرفة الواجب والعمل به.
صبر هاجر وتضحيتها
كل أم مستعدة للتضحية من أجل ولدها مهما كانت التضحيات. ودور الأم في الصبر والتضحية من أجل ولدها يتجلّى بوضوح في قصة هاجر مع إسماعيل. فقد ارتفع شمس الحجاز شيئاً فشيئاً حتى توسط السماء، وأحرق الصخور الملتهبة كالتنور، ونفد ما كان عندهم من ماء قليل.
لقد حان وقت لم يبق فيه ماء، ولا زاد، ولا قطرة حليب في صدرها. وكان الطفل يتلوّى من الجوع والعطش، يبكي ويتأوّه، وهاجر تكاد صبرها ينفد. فقامت مضطرة تبحث عن الماء. أولاً توجهت نحو الصفا وصعدت الجبل، فأشرفت على ما حولها، فلم تر شيئاً سوى الجبال والقفر والصحراء. فنزلت منه مسرعة، وركضت نحو جبل المروة، وصعدت إلى قمته المتوسطة، لكنها لم تجد شيئاً. فنزلت مسرعة، وهرولت نحو الصفا، ثم إلى المروة، وكررت ذلك سبع مرات. وأخيراً أيقنت أن الأسباب المادية عقيمة هنا، وأنّ القدرة الغيبية وحدها قادرة على إنقاذها من العطش والهلاك.
كان سبب ذهابها وإيابها أنها كلما صعدت على الصفا أو المروة ترى سراباً تظنه ماءً، فإذا وصلت لم تجد شيئاً.
اقترب نفس الطفل من الانقطاع، وظلّ الموت يخيّم لا على الطفل فحسب بل عليها أيضاً، حتى سلّمت نفسها للموت. لكن في هذه اللحظة التي أُغلقت فيها كل الأبواب، أشرق نجم الأمل، فإذا بالماء يتفجّر من تحت قدمي الطفل. ورأت هاجر الماء تجري، فاطمأنت وارتاحت من همّ العطش.
هذا الماء هو نفسه الذي عُرف فيما بعد ببئر زمزم. جمعت هاجر بعض الحصى والرمال، فسدت به مجرى الماء وحافظت عليه، ثم سقت الطفل وشربت هي أيضاً. ومنذ ذلك الحين وإلى اليوم، يقبل الحجاج بعد الطواف والسعي بين الصفا والمروة إلى زمزم ليشربوا منه ويرووا عطشهم.
إنّ السعي بين الصفا والمروة، المفروض على الحجاج منذ قرون، سبع مرات لا أكثر ولا أقل، إنما هو إحياء لذكرى هذه الأم البطلة الصابرة، وتكريم لدور الأم المضحية. وهل هناك تكريم أعظم من أن يُفرض على كل مؤمن أن يحجّ، ويعيد هذا السعي بنفس صورة هرولة هاجر، تخليداً لموقفها العظيم؟
إيمان هاجر في الامتحان العظيم
هاجر، مثل زوجها إبراهيم وابنها إسماعيل، انتصرت على وساوس الشيطان. ومن هذا الوجه يمكن أن تكون قدوة للنساء والرجال على السواء.
فالشيطان، بعد أن يئس من إقناع إبراهيم بالعدول عن ذبح إسماعيل، توجّه إلى إسماعيل عسى أن يجد عنده ضعفاً، لكن إسماعيل ردّ عليه بقوة ولم يلتفت إليه. ثم ذهب الشيطان إلى بيت هاجر، لعله ينجح في تحريك عاطفتها الأمومية ليجعل دورها في هذا الاختبار الكبير ضعيفاً أو معدوماً. غير أنّ هاجر قالت له: إنّ إبراهيم إنما يفعل ذلك بأمر الله، ونحن جميعاً خاضعون لله ومطيعون له (15). فطردت هاجر الشيطان عنها، وخضعت لأمر الله.
وبهذا الإيمان والخضوع لله، شاء الله أن يكون قبرها بجوار بيته، حيث يُعرف اليوم بـ «حِجر إسماعيل»، وهو مدفن طاهر لجماعة من الأنبياء والأوصياء. ومن اللافت أنّ حِجر إسماعيل داخل نطاق الطواف حول الكعبة، مما يشير إلى أنّ قبر هذه الأم المؤمنة أصبح جزءاً من الكعبة المقدسة من وجه، فيطوف المؤمنون حول هذا الثرى الطاهر أيضاً، ويعظمون مقام هذه الأم القدوة أثناء طاعتهم لأمر الله.
الخاتمة
القرآن الكريم لم يذكر هؤلاء النسوة عبثاً، بل جعل منهنّ أسوات ونماذج عملية للصبر، الثقة بالله، وحسن العاقبة. فكما كانت هاجر باباً للبركة، ومريم مثلاً للطهر، وآسية صورةً للثبات، كذلك تستطيع نساء اليوم أن يجدن فيهنّ طريق الهداية والعزّة.
فلنأخذ من قصص هؤلاء النسوة غذاءً لأرواحنا، ولنعلّم بناتنا وأخواتنا أنّ القرآن قدّم لهنّ أعظم مدرسة في الحياة. لنبدأ من اليوم بخطوة صغيرة: قراءة هذه الآيات بتأمّل، وتطبيق دروسها في بيوتنا وعلاقاتنا.
أسئلة وأجوبة
1. ما هي أبرز رسالة من قصة هاجر في القرآن؟
الثقة الكاملة بالله تعالى، التي جلبت بركة زمزم وعمارة مكة.
2. ماذا نتعلّم من آسيا زوجة فرعون؟
أن الإيمان الحقيقي يُمكن أن يزدهر حتى في قلب قصر ظالم، مع الثبات والصبر.
3. ما هو القاسم المشترك بين جميع النساء اللواتي ذُكرن في القرآن؟
الإيمان العميق، الصبر على الابتلاء، والقدوة للأجيال القادمة.
1. النساء: ١.
2. الزمر: ٦.
3. الأعراف: ٢٧.
4. النحل: ٧٢.
5. الأعراف: ١٨٩.
6. الروم: ٢١.
7. النمل: ٢٣.
8. النمل: ٢٩.
9. النمل: ٣٠ و٣١.
10. النمل: ٣٢.
11. النمل: ٤٢.
12. النمل: ٤٤.
13. للمزيد اقرأ: الكافي / محمد الكليني / المجلد ٨ / الصفحة ٣٧٠ ـ ٣٧٣.
14. إبراهيم: ٣٧.
15. النساء البارزات في القرآن والحديث والتاريخ / أحمد بهشتي / المجلد ٣/ الصفحة ٢٥.
التعلیقات