في يوم الأغذية العالمي... دروس في الطعام من روايات النبيّ وأهل بيته (ع)
الشيخ مهدي المجاهد
منذ ساعتينإنّ الغذاء مما أنعم الله به على العبد منذ فطره، وهو وسيلة للحياة، وللنشاط، ولإدامة القدرة على العبادة والعمل. لكن مع هذا، فإن العلاقة بين الإنسان والطعام ليست علاقةً بلا ضوابط؛ بل هي علاقة تحتاج إلى حكمة وتدبّر. الإسلام يدعونا إلى ضبط النفس في الطعام، وإلى التوسط في الأكل، ومراعاة البعد الباطني للنفس والروح.
يوم الغذاء العالمي ليكون مناسبة لإذكاء الوعي بأن الغذاء ليس ترفاً، بل هو نعمة يجب أن تُدرك مسؤولياتها: الإشباع دون إسراف، والقِلة الحكيمة دون ضرر، وإدراك أن أحياناً القليل المقنِع يُغني عن الكثير المترفّع، خاصة عندما ينظر الإنسان إلى البُعد الروحي والنفسي والمعنوي للطعام.
في هذه المقالة، نتناول أولاً بركات قلة الطعام من البُعد الباطني ، ثم أتنبه إلى ذمّ كثرة الطعام ومضارها، مستعيناً بالروايات التي وردت عن النبي الكريم وأهل البيت عليهم السلام.
القسم الأول: بركات قلة الأكل — فوائِدُ القِلّة الباطنية
1. صفاء الفكر
عن الإمام عليّ عليه السلام: « مَن قَلَّ أكلُهُ صَفا فِكرُهُ » (1).
حين يقلّ الإنسان في أكلِه بقدرٍ معتدل، فإن ذلك يُخفّف الأعباء على الجهاز الهضمي، ويقلّل الانشغال بالجسد وبالأكل والهضم، فيزداد الفِكر صفاءً، أي خلوًّا من الضجيج الداخلي والتداخلات النفسية التي تُشتّت الذهن. فالعقل يكون أقدر على التأمل والتفكر بالمعاني الكبرى حين لا ينشغل بالجوع أو الشبع المفرط.
2. نور القلب
عن رسول الله صلى الله عليه وآله: « إذا أقَلَّ الرَّجُلُ الطُّعمَ، مُلِئَ جَوفُهُ نُورًا » (2).
النور هنا مجازيّ للرّفعة الروحية والطمأنينة التي تنعكس في القلب. عندما يقلّ الطعام، لا يثقل الإنسان بثِقَل المعدة وهضم الطعام بل يكون القلب أكثر استحالة للضياءِ من نور الإيمان والسكينة. فالمقصود: أن القلب يَنفوح بِخُلاصٍ من الشوائب، ويزداد اتّصال المرء بذكر الله وخشوعه.
3. النجاة من الشيطان
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: « مَن سَرَّهُ أن يُخَلِّصَ نَفسَهُ مِن إبليسَ فَليُذِب شَحمَهُ وَ لحمَهُ بِقِلَّةِ الطَّعامِ؛ فَإِنَّ مِن قِلَّةِ الطَّعام حُضورَ المَلائِكَةِ وَ كَثرةَ التَّفكيرِ فيما عِندَ اللهِ عزّ وجل » (3).
وعن النبي صلى الله عليه وآله: « جَاهِدوا أنفُسَكُم بِقِلَّةِ الطَّعامِ وَ الشَّرابِ، تُظِلُّكُمُ المَلائِكَةُ، ويَفِرَّ عَنكُمُ الشَّيطانُ » (4).
في هذه الرواية مرّ معنى عميق: أن قِلّة الطعام تُذيب الزوائد الجسدية كالشحم واللحم الباطل على نحو مجازيّ، بمعنى أن الإنسان يطهّر نفسه من الشهوات التي تغذّي الشيطان. ثم تُذكر وعداً بحضور الملائكة وكثرة التفكر في ما عند الله.
4. التقرب إلى الله
عن الإمام الصادق عليه السلام: « إِنَّ الْبَطْنَ لَيَطْغَى مِنْ أَكْلِهِ وَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَ عَزَّ إِذَا خَفَّ بَطْنُهُ، وَ أَبْغَضُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ إِذَا امْتَلَأَ بَطْنُهُ » (5).
حين يكون بطن العبد خفيفًا أي لا ثِقَل فيه يكون أشدّ قربًا من الله، لأنه لم يُكنْ ثِقَل في النفس يعوقه عن الذِكر والخشوع. البطن الثقيلة قد تُخمد حضور القلب، وتُلهيه بالراحة الجسدية أو الشبع المفرط، فتقلّ الحساسية الروحية.
5. جوامعُ منافع قلة الأكل
عن رسول الله صلى الله عليه وآله: « مَن قَلَّ طُعمُهُ، صَحَّ بَدَنُهُ وصَفا قَلبُهُ، ومَن كَثُرَ طُعمُهُ، سَقِمَ بَدَنُهُ وقَسا قَلبُهُ » (6).
عن الإمام عليّ عليه السلام: « عَلَيكُم بِالقَصدِ في المَطاعِمِ؛ فإِنَّهُ أبعَدُ مِنَ السَّرَفِ، وأصَحُّ لِلبَدَنِ، وأعوَنُ عَلَى العِبادَةِ » (7).
وقال الصادق عليه السلام في مصباح الشريعة: « قِلَّةُ الأَكلِ مَحمُودٌ في كُلِّ قومٍ؛ لِأَنَّ فيهِ مَصلَحَةَ الباطِنِ وَ الظَّاهرِ» (8).
تجمع هذه الروايات بين البعد الجسدي والروحي للإنسان؛ فمَن قلَّ طعامه كان جسده أصحَّ، لأن قلة الأكل تُخفف عن الجهاز الهضمي وتقي من الأضرار الصحية، وكان قلبه أنقى وأصفى نورًا. أما من أكثر من الطعام، أرهق بدنه بالأمراض، وقسا قلبه حتى ضعف عن التأمل والرحمة والسكينة.
القسم الثاني: ذمّ كثرة الطعام ومضارها
إلى جانب ما ورد من ترغيب وضبط للطعام، نجد في الروايات إشارات وتحذيرات لِمَنْ يغرق في كثرة الأكل:
عن النبي صلى الله عليه وآله: « سَيَكونُ مِن بَعدي سُنَّةٌ؛ يَأكُلُ المُؤمِنُ في مِعاءٍ واحِدٍ، ويَأكُلُ الكافِرُ في سَبعَةِ أمعاءٍ » (9).
وقال الإمام عليّ عليه السلام: «كَثرةُ الأَكلِ مِنَ الشَرَهِ، وَالشَّرَهُ شَرُّ العُيوبِ» (10).
هذان الحديثان يعبّران عن خلاف جوهري بين المؤمن والكافر في تصرّفهم الغذائي: فالمؤمن يأكل باعتدال في معاء واحد، والكافر في سبعة أمعاء بمعنى: في شراهة لا تُحدّ. هذا التشبيه لا يعني الحصر الميكانيكي بل يرمز إلى أن المؤمن يضبط نفسه، ولا يفرط. أما الإمام عليّ عليه السلام فيذمّ كثرة الأكل باعتبارها من الشره، والشره عيب من العيوب القبيحة التي تشوّه النفس وتفتح باب الانزلاق إلى البذخ والنرجسية.
القسم الثالث: معنى الحمية والحث عليها في الروايات
عن الإمام الكاظم عليه السلام: «لَيْسَ الْحِمْيَةَ أَنْ تَدَعَ الشَّيْءَ أَصْلًا لَا تَأْكُلَهُ وَ لَكِنَّ الْحِمْيَةَ أَنْ تَأْكُلَ مِنَ الشَّيْءِ وَ تُخَفِّفَ» (11).
الحمية ليست حرمانًا مطلقًا أو الامتناع الكامل عن البِدع أو الطعام جيّد النوع، بل هي أن يأخذ الإنسان مما يحتاج إليه ويتخفف. بمعنى أن يُقلّل الكمية أو النسب المكررة من الأكلات، أو يميل إلى الأفضل منها، لكنه لا يمتنع تمامًا بحيث يضر بجسمه أو يضعف. وهذا التوازن هو الذي أشار إليه أهل البيت عليهم السلام بالاعتدال فليس المطلوب أن يترك الإنسان الغذاء حقه، بل أن يضبّط عليه.
وعن الإمام الكاظم عليه السلام: « لَيْسَ مِنْ دَوَاءٍ إِلَّا وَ هُوَ يُهَيِّجُ دَاءً وَ لَيْسَ شَيْءٌ فِي الْبَدَنِ أَنْفَعَ مِنْ إِمْسَاكِ الْيَدِ إِلَّا عَمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ» (12).
هذا الحديث يشير إلى أن الكثير من الأدوية أو التدابير الفوضوية تُثير من الداء بقدر ما تشفي، لكن ما أعظمه من قوله إن أقل الأشياء أي الإمساك عن المبالغة قد يكون أنفع علاج إذا التزم به الإنسان. الإمساك هنا بمعنى المنع عن الإفراط أو التقليل المعقول، وليس الحرمان الشديد. هذا يدلّ على أن الحمية (ضبط الأكل وتقليله) قد تكون دواء للنفس والجسد إذا فُهمت بالحد المعقول.
القسم الرابع: جمع بين البُعدين كيف نعيشه عملياً في يوم الغذاء العالمي؟
إذًا، هذه الروايات تُشير إلى أن قِلّة الأكل ليست بمعنى الجوع المؤذي، بل باعتدال وضبط هي باب لنور القلب وراحة الذهن، وسبيل لمقاومة الشهوات، وتقوية القدرة على العبادة والخشوع، وصيانة البدن من الأمراض. بالمقابل، كثرة الأكل تجرّ العكس: ثِقْل البدن، وضيق القلب، وفتح باب الشهوة والفساد الروحي.
كيف نُترجِم هذه المفاهيم إلى واقع عملي في يوم الغذاء العالمي، وفي حياتنا اليومية؟
رفع الوعي
في هذا اليوم، يمكن إقامة ندوات ومحاضرات في المساجد والمراكز الثقافية تبيّن أن التبذير الغذائي ليس مسألة اقتصادية فقط، بل لها أبعاد روحية وأخلاقية وصحية. يمكن عرض هذه الروايات وشرحها كما فعلنا هنا:
توجيه السلوك الغذائي
تشجيع الأفراد على أن يتناولوا الطعام باعتدال، أن يملأوا بطنهم بثلث للطعام وثلث للماء وثلث للهواء، كالطبيعي في السنن.
مكافحة الإفراط في الولائم والمآدب الفخمة التي تُهوى إلى الإسراف.
نشر ثقافة الكمية الكافية بدل المزيد أفضل.
مبادرات مجتمعية
تخصيص أطعمة فائضة من المناسبات لتوزيعها على المحتاجين بدلاً من إتلافها.— حملة وجبة معتدلة أو وجبة خفيفة لكن كريمة في مطاعم المدارس أو في المناسبات العامة، بحيث يُعرض خيار وجبات أقل بكميات معقولة.
دعم المشاريع التي تعنى بالحدّ من الهدر الغذائي.
مراعاة الفئة الضعيفة
حين يعي المجتمع أن الطعام نعمة، يمكن تشجيع التصدق به، وتحويل فائض الطعام إلى مائدة محتاجين، أو جمع فائض الطعام وإعادة توزيعه بدل رميه.
الختام
دعا الروايات إلى أن يراقب الإنسان نفسه: متى يأخذ، ومتى يترك، وكم يحتاج. يمكن للمؤمن أن يسأل نفسه بعد كل وجبة: هل شعرت بعدم ارتياح؟ هل تجاوزت؟ هل كان النية واضحة أن أبتغي العبادة أو المحافظة على الصحة؟
وفي الختام، أدعو كلَّ قارئٍ ومشارك أن يُسهم بمعلومة، أو رأي، أو تجربة شخصية في هذا الموضوع: ربما لديكما تجربة وجدتها مفيدة في ضبط الغذاء أو مواجهة التبذير، أو رواية أخرى سمعتها في هذا الباب شاركنا إياها. فبهذا الحديث الجماعي نزداد غنى، وبالتبادل نصحو.
1. عيون الحكم و المواعظ / الليثي الواسطي / المجلّد : 1 / الصفحة : 456.
2. موسوعة ميزان الحکمة / الشيخ الري شهري / المجلّد : 3 / الصفحة : 39.
3. موسوعة ميزان الحکمة / الشيخ الري شهري / المجلّد : 3 / الصفحة : 40.
4. مجموعة ورّام (تنبيه الخواطر و نزهة النواظر) / ورّام بن أبي فراس / المجلّد : 2 الصفحة : 122.
5. الكافي / الشيخ الكليني / المجلّد : 6 / الصفحة : 269 / ط الاسلامية.
6. مستدرك الوسائل / المحدّث النوري / المجلّد : 16 / الصفحة : 210.
7. غرر الحكم و درر الكلم/ التميمي الآمدي / المجلّد : 1 / الصفحة : 448.
8. بحار الأنوار / العلامة المجلسي / المجلّد : 66 / الصفحة : 337.
9. الكافي / الشيخ الكليني / المجلّد : 6 / الصفحة : 268 / ط الاسلامية.
10. غرر الحكم و درر الكلم/ التميمي الآمدي / المجلّد : 1 / الصفحة : 527.
11. الكافي / الشيخ الكليني / المجلّد : 8 / الصفحة : 291 / ط الاسلامية.
12. الكافي / الشيخ الكليني / المجلّد : 8 / الصفحة : 273 / ط الاسلامية.
التعلیقات