اليوم الدولي للقضاء على الفقر / الأسرة في مواجهة الضغوط الاقتصادية
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 12 ثانيةيشهد العالم اليوم ضغوطًا اقتصادية متزايدة تواجه كثيرًا من الأسر، وتجعلهم أحيانًا يشعرون بالتوتر والقلق حول توفير الحياة الكريمة لأبنائهم. لكنّ التحديات المالية لا تعني فقدان الدفء الأسري أو ضعف الروابط بين أفراد البيت. فالعائلة الحقيقية تُقاس ليس بثروة المال، بل بالحبّ المتبادل، والتفاهم، والصبر على المصاعب.
اليوم الدولي للقضاء على الفقر ، نسلّط الضوء على طرق الحفاظ على دفء الأسرة في ظل الغلاء، ودور المرأة المدبّرة في إدارة المنزل وفق أسلوب السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، كما نتناول مسؤولية الأب العامل في توفير الرزق والحفاظ على كرامة العائلة. هدفنا أن نوفّر دليلًا عملياً وملهماً لكل أسرة تسعى للحياة بسلام ورخاء داخلي، رغم ضغوط الحياة المالية.
1. كيف نحافظ على دفء الأسرة رغم الغلاء؟
في زمنٍ تتزايد فيه الأسعار وتتقلّب الأحوال الاقتصادية، أصبحت معظم الأسر تعيش تحت ضغطٍ نفسيّ وماليّ كبير. ارتفاع الإيجارات، وتكاليف المعيشة، وغلاء المواد الغذائية، جميعها عوامل تُثقل كاهل الآباء والأمهات، وتجعل الجوّ العائلي مهدّدًا بالتوتّر والانفعال.
لكنّ الحفاظ على دفء الأسرة في هذه الظروف ليس أمرًا مستحيلًا؛ بل هو فنّ يحتاج إلى وعي، وتعاون، وتقدير متبادل.
أوّل خطوة هي أن نتذكّر أنّ المال وسيلةٌ للحياة لا غايةٌ لها. قد تتراجع موارد الأسرة مؤقتاً، لكن ما يبقيها متماسكة هو الحبّ، والتفاهم، والإيمان بأنّ الله هو الرزّاق. يقول تعالى: ﴿ وَمَا مِن دَآبَّةࣲ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزۡقُهَا وَيَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَا ﴾ (1).
حين يعيش الزوجان بهذا اليقين، تزول كثير من المخاوف. فبدلًا من الشكوى المتكرّرة واللوم المتبادل، يمكن تحويل الأزمات إلى فرص للتقارب. يمكن للزوجين أن يجلسا معاً ويضعا خطة بسيطة لتنظيم المصروفات، وتقليل الكماليات، وتشجيع الأبناء على المشاركة بروحٍ إيجابية، كأن يُطفئوا الأنوار غير الضرورية، أو يُعيدوا استخدام بعض الأشياء بدل رميها.
كذلك من المهم أن تُدار الحوارات في جوّ من الهدوء. فبدل أن تُصبح الأزمات سبباً للشجار، يمكن أن تكون سبباً للاتحاد. كثير من العائلات الفقيرة تعيش بسعادة لأنها اختارت الرضا بدل التذمّر. الدفء الحقيقي لا تصنعه وفرة المال، بل قلوبٌ مطمئنّةٌ ووجوهٌ متبسّمةٌ رغم التعب.
ولنا رواية عن الإمام الصادق عليه السلام فيها مبدأ عظيم، إذ قال: « اَلرَّغْبَةُ فِي اَلدُّنْيَا تُورِثُ اَلْغَمَّ وَ اَلْحَزَنَ ، وَ اَلزُّهْدُ فِي اَلدُّنْيَا رَاحَةُ اَلْقَلْبِ وَ اَلْبَدَنِ » (2). فمن رضي بالقليل عاش في سعة، ومن طمع بالكثير عاش في فقرٍ دائم.
2. المرأة المدبّرة: فنّ الاقتصاد المنزلي في ضوء السيرة الزهرائية
في قلب كلّ بيتٍ ناجح امرأةٌ حكيمة، تعرف كيف تدير الأمور بحبٍّ وذكاء. فالمرأة المدبّرة ليست تلك التي تُضاعف المال، بل التي تزرع البركة فيه. في هذه الأيام، تتضاعف مسؤولية المرأة أمام الغلاء؛ فهي التي تُحاول التوفيق بين احتياجات الأبناء، ومحدودية الدخل، وتعب الزوج، وضغط الحياة.
الاقتصاد المنزلي ليس فقط حسابًا بالأرقام، بل حكمة في التصرّف ووعي في الأولويات. والقدوة الأسمى في ذلك هي السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، التي كانت رمزًا في البساطة والرضا.
يُروى أنّها كانت تطحن بيديها، وتخدم أهل بيتها بنفسها، ومع ذلك كانت تشكر الله على نعمه وتقول:
« الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدّم، من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن أولاها، جمّ عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتّصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها » (3)، هذه الكلمات هي من السيدة فاطمة سلام الله عليها، في ظروفٍ عصيبةٍ لا يتحمّلها غيرها، بعد ما لقيته من أذى القوم عقب شهادة والدها صلى الله عليه وآله، في أحلك وأصعب الأوقات.
لقد كانت الزهراء عليها السلام تُعلّمنا أن التدبير ليس حرمانًا، بل أسلوب حياةٍ راقٍ يحفظ الكرامة. فحين تكون الزوجة ذكيّة في تنظيم المائدة، واستعمال الموارد المتاحة، وإشاعة روح القناعة، فإنّها تحفظ استقرار البيت من الداخل.
يمكنها أن تُبدع في الطبخ من أبسط المكوّنات، وتخلق أجواء من البهجة بلمسات صغيرة: شمعة على المائدة، دعاء جماعي قبل الطعام، كلمة شكر للزوج على تعبه.
هذه التفاصيل الصغيرة تصنع السكينة الكبيرة. ومن الناحية الشرعية، وردت توصيات كثيرة في الاقتصاد وعدم الإسراف، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ﴾ (4).
فالمرأة المؤمنة تسير على خطى الزهراء عليها السلام، تجمع بين البساطة والجمال، وبين الاقتصاد والكرم، وبين التدبير والاعتماد على الله. إنّها تُدير بيتها لا بالخوف من الفقر، بل بالثقة في البركة، لأنّها تعلم أنّ الله يبارك في القليل حين يُنفق بالحلال والنية الطيبة. ولذلك جاء في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام: « قِوام العيش حسن التقدير، ومِلاكه حسن التدبير » (5).
المرأة المدبّرة إذًا لا تُقاوم الغلاء بالشكوى، بل بالإبداع والبركة. وهي التي تُربّي أبناءها على القناعة، وتُشجّع زوجها بكلماتها الدافئة : رزقنا يأتي من الله، وسنمرّ من هذه الأيام بخير إن شاء الله. هذه الروح الزهرائية هي التي تحفظ البيوت من الانهيار حين تضيق الموارد.
3. الأب العامل بين همّ الرزق ومسؤولية العائلة
وراء كل بيتٍ مستقرّ، هناك رجلٌ يتعب بصمت، يخرج مع الفجر بحثًا عن لقمةٍ حلال، ويعود في المساء وهو يحمل على كتفيه همّ الأسرة، والديون، والالتزامات.
الأب العامل هو جنديّ الحياة المجهول، الذي لا يملك وقتًا للراحة لكنه لا يتذمّر، لأنّ عينه على مستقبل أبنائه.
تقدير هذا الأب ليس مجرّد كلمات، بل شعورٌ عميق بالامتنان.
فالزوجة حين تُظهر له التقدير، تُخفّف عنه نصف الحمل. والأبناء حين يقدّرون جهده، يشعر أنّ تعبه لم يذهب سدى. في ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة، يعاني كثير من الآباء من ضغطٍ نفسيّ شديد. بعضهم يواجه شعور العجز أمام احتياجات أبنائه، والبعض الآخر يُرهقه التفكير بالمستقبل. هنا تحتاج الأسرة أن تُحيط الأب بجوٍّ من الدعم لا الضغط.
ليس المطلوب أن تُطالبه الزوجة بالمزيد، بل أن تُشعره أنّ وجوده وسعيه هو الكنز الحقيقي. أن تقول له: نحن نعلم كم تتعب، ووجودك بيننا هو أغلى من أيّ شيء. هذه الكلمات تُعيد له طاقته، وتُعيد التوازن للأسرة بأكملها.
قال النبي صلى الله عليه وآله: « الْكَادُّ عَلَى عِيَالِهِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ » (6).
فما أعظم مكانة من يسعى لرزق أسرته بالحلال! هذه النظرة الإيمانية تُحوّل العمل إلى عبادة، والتعب إلى وسام شرف. ومن المهم أن يتعلّم الأب أيضًا فنّ المشاركة الوجدانية، فلا يجلب إلى البيت تعبه فقط، بل يحمل معه روحه الطيبة. أن يجلس قليلًا مع أطفاله، يسمع أحاديثهم، ويضحك معهم. أن يحافظ على صلاته ودعائه رغم التعب. فالأب المؤمن يُربّي أبناءه بالقدوة قبل الكلام، وهم يرون فيه نموذج الصبر والشكر. ولذلك من الجميل أن تُبادله الزوجة هذا الصبر، فتقول له كما قالت الزهراء عليها السلام لأمير المؤمنين عليه السلام: وعن أبي سعيد الخدري قال : أصبح عليّ بن أبي طالب عليه السلام ذات يوم ساغباً فقال : « يا فاطمة هل عندك شيء تغذينيه ؟ » قالت : « لا ، والذي أكرم أبي بالنبوّة وأكرمك بالوصيّة ما أصبح الغداة عندي شيء وما كان شيء اُطعمناه مذ يومين إلاّ شيء كنت اُؤثرك به على نفسي وعلى ابنيّ هذين الحسن والحسين ، فقال عليّ عليه السلام : « يا فاطمة ألا كنت أعلمتني فأبغيكم شيئاً ؟ » فقالت: « يا أبا الحسن إنّي لأستحي من إلهي أن أكلّف نفسك ما لا تقدر عليه » (7) . هذه الكلمات وحدها تُنير بيتًا بأكمله.
نصائح عملية للحفاظ على تماسك الأسرة في زمن الغلاء
ابدؤوا بالنية الطيبة: اجعلوا كل جهد تبذلونه في تدبير المعيشة خالصًا لله تعالى، فهو الذي يبارك في القليل ويعظّم الأجر.
خطّطوا معاً: اجلسوا كأسرة لمناقشة المصروفات والاحتياجات بصدقٍ وهدوء، فالشفافية تُخفّف التوتر وتزيد الثقة.
قلّلوا الكماليات لا الضروريات: يمكن الاستغناء عن بعض المظاهر غير المهمة، لكن لا تُهمَل اللحظات العائلية والضحكة المشتركة.
احفظوا الكلمة الطيبة: في زمن الضيق، الكلمة اللينة دواء، أما العتاب القاسي فيكسر القلوب.
تعاونوا في البركة: اجعلوا الدعاء جزءًا من يومكم، وابدأوا الطعام باسم الله، وانهوا يومكم بالحمد؛ فذلك يجلب الطمأنينة والرزق.
اذكروا نعم الله أمام أبنائكم: علّموهم الامتنان بدل التذمّر، وبيّنوا لهم أنّ السعادة لا تُشترى بالمال.
لا تفقدوا الأمل: فكم من عائلة بدأت بالضيق وانتهت بالرخاء، لأنّها لم تفقد الثقة بالله ولم تتخلَّ عن بعضها.
الخاتمة
إنّ الضغوط الاقتصادية مهما اشتدّت لا تستطيع أن تهدم بيتًا يقوم على الحبّ والإيمان. فالأسرة التي تتعاون في الصبر، وتُحافظ على روح الرضا، وتُدير مواردها بعقلٍ واعتدال، ستتجاوز كل أزمة. ليس الغلاء هو الخطر الحقيقي، بل فقدان التفاهم والسكينة.
وما أجمل أن نتذكّر أنّ الله وعد بالفرج لكلّ من صبر واتّقى، فقال تعالى: ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ (8).
فلنحوّل الضغوط إلى دروسٍ في الإيمان، ولنكن أسرةً مؤمنةً متعاونةً، نزرع الأمل رغم الضيق، والابتسامة رغم التعب.
فالأرزاق بيد الله، والبركة تُولد من القلوب الراضية، والدفء الحقيقي لا تصنعه النقود، بل قلب أمٍّ راضية، وأبٍ صابر، وأبناءٍ شاكرين.
1. سورة هود : الآية 6.
2. بحار الأنوار / العلامة المجلسي / المجلّد : 75 / الصفحة : 240.
3. الخطبة الفدكية للصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام.
4. سورة الفرقان : الآية 67.
5. عيون الحكم والمواعظ / عليّ بن محمّد الليثي الواسطي / الصفحة : 370.
6. بحار الأنوار / العلامة المجلسي / المجلّد : 100 / الصفحة : 13.
7. بحار الأنوار / العلامة المجلسي / المجلّد : 43 / الصفحة : 59.
8. سورة الطلاق :الآية 2-3.
التعلیقات