في يوم الرجل العالمي… قراءة تربويّة في قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 6 ساعاتيشكّل اليوم العالمي للرجل ، الموافق 19 نوفمبر للتاريخ الميلادي، مناسبة عالمية تهدف إلى تسليط الضوء على أدوار الرجال الإيجابية في الأسرة والمجتمع، وتقدير المسؤوليات التي يتحمّلونها في بناء الحياة الإنسانية وصونها. ومع أنّ الاحتفال بهذا اليوم لم يبلغ حجم الاحتفالات العالمية الأخرى، إلا أنّه أصبح في السنوات الأخيرة محطة مهمّة لطرح نقاشات هادئة حول التحديات النفسية والاجتماعية التي يواجهها الرجال، وبيان أثرهم المحوري في استقرار الأسرة، وصناعة التكامل داخل المجتمع.
ولا يمكن الحديث عن دور الرجل في الأسرة من منظور إسلامي دون الوقوف عند الآية الكريمة التي مثّلت أساساً عقدياً وتشريعياً في تحديد معالم الحياة الزوجية، وهي قول الله تعالى:
﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾ (1).
هذه الآية، التي أساء البعض فهمها أو توظيفها، تحمل منظومة متكاملة من المعاني التربوية والإنسانية التي تحفظ الأسرة، وتمنع الظلم، وتحدّد أدوار كلٍّ من الزوج والزوجة في إطار التعاون والمودّة والاحترام المتبادل.
تهدف هذه المقالة إلى تحليل الآية تحليلاً تربوياً شاملاً وفق محاور ثلاثة:
تبيين معنى القِوامة بوصفها إدارة وتكفّل ورعاية لا سيادة ولا استبداد.
الحديث عن الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين.
شرح منهجية معالجة الخلاف الزوجي كما حدّدتها الآية بخطوات متدرجة، تحفظ الكرامة وتمنع العنف.
أولاً: معنى القِوامة… مسؤولية لا استعلاء
تبدأ الآية الكريمة بقول الله تعالى: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ﴾، والقِوامة في اللغة مأخوذة من القيام على الشيء، أي: صيانته، وتدبير شؤونه، وحمايته. وعليه، فالقِوامة في السياق القرآني ليست سلطة مطلقة، بل هي وظيفة و واجب.
1. القِوامة إدارة وتكفّل ورعاية
الرجُل في الأسرة مكلّف بإدارة شؤون البيت، لكن الإدارة هنا ليست تسلّطاً، بل مسؤولية تكفّل بما يحتاجه البيت من حماية مادية ومعنوية. هو المسؤول ـ شرعاً وعرفاً ـ عن توفير مقومات الحياة، وعن اتخاذ القرارات التي تحفظ المصلحة العامة للأسرة، على أن تتقن القرارات بروح التشاور مع الزوجة، تأسّياً بقوله تعالى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ﴾ (2)، تشير الآية إلى أهم قضية اجتماعية وهي " الشورى " فبدونها تعتبر جميع الأعمال ناقصة، فالإنسان الواحد مهما كان قويا في فكره وبعيدا في نظره، إلا أنه ينظر للقضايا المختلفة من زاوية واحدة أو عدة زوايا، وعندها ستختفي عنه الزوايا والأبعاد الأخرى، إلا أنه وعند التشاور حول القضايا المختلفة تقوم العقول والتجارب المختلفة بمساعدة بعضها البعض، عند ذلك ستتوضح الأمور وتقل العيوب النواقص ويقل الانحراف.
لذا فقد ورد في حديث عن الرسول صلى الله عليه وآله أنه قال: « ما مِنْ رَجُلٍ يُشاوِرُ أَحَداً إِلَّا هُدِىَ إِلَى الرُّشْدِ » (3).
والملفت للنظر أن العبارة وردت هنا على شكل برنامج مستمر للمؤمنين، ليس في عمل واحد ومؤقت، بل يجب أن يكون التشاور في جميع الأعمال (4).
القِوامة لا تمنح الرجل حق إلغاء رأي المرأة أو مصادرة إرادتها، فالقرآن نفسه أثبت للمرأة أهليّة كاملة في التصرّف في مالها، ومراجعة القضاء، واتخاذ القرارات المتعلقة بحياتها الخاصّة. فالزوج ليس وليّاً على زوجته في شؤونها الفردية، بل هو قائد أسرة، لا مالك إنسان.
2. القِوامة ليست لأن الرجل (جنسٌ أعل)
كان من المهم ـ كما ذكرت في خريطة البحث ـ التأكيد على أن القِوامة غير مرتبطة بتفوق جنس الرجال على جنس النساء. فالله تعالى لم يقل: الرجال أفضل من النساء، وإنما قال : ﴿ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ أي: بوجود توزيع إلهي للقدرات بين الجنسين، بحيث يكمل أحدهما الآخر.
والدليل على ذلك واضح: الولد الذكر يبقى طوال حياته تحت ولاية والديه، وبخاصة أمه، مهما ارتفع في العلم أو السياسة أو المال.
الأم هي مصدر البركة والطاعة وقد جاء في الخبر : « الجنة تحت أقدام الأمهات» (5).
في غير الأمور الزوجية، المرأة لا تقع تحت إدارة زوجها: فهي تملك مالها، وتُدير أعمالها، وتراجع المحاكم، وتُبرم العقود.
3. القِوامة تكليف ثقيل لا تشريف فارغ
القِوامة تعني أن الرجل مطالب بـ: توفير الأمن المادي، حماية الأسرة، تقديم القدوة السلوكية، ضبط النفس عند الغضب، مجاهدة ذاته في الإنفاق والتضحية.
وإذا قصّر الرجل في هذه الأمور، فهو مقصّر في قِوامته، ولا يحقّ له المطالبة بما يقابلها من طاعة أو احترام.
ثانياً: الحقوق المتبادلة… نفقـة وحفظ للأسرة
تقول الآية: ﴿وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾، هنا يربط القرآن بين القِوامة والإنفاق. فالقِوامة ليست تفويضاً مجانياً، بل هي قائمة على التزام مالي يتحمّله الرجل.
1. معنى النفقة
النفقة تشمل: الطعام، السكن، الأمن، العلاج، الحاجات الأساسية التي تضمن كرامة الزوجة حتى لو كانت الزوجة غنية أو تعمل، فذلك لا يسقط نفقة الزوج، ولا يجعل راتبها ملكاً له.
2. واجب الزوجة في حفظ الأسرة
يقابل ذلك قول الله تعالى: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾
أي أن الزوجة مسؤولة عن: حفظ شرف البيت وسمعته، حفظ أسرار الأسرة، إدارة البيت بروح المحبة، الحفاظ على العلاقة الزوجية من العبث أو الإضرار، وهذه ليست أوامر فوق الطاقة، بل هي أمور تقوم عليها أي أسرة ناجحة.
3. التكامل بين الدورين
الأسرة لا تستقيم بالإنفاق فقط، ولا بالطاعة وحدها، بل بمنظومة تكاملية بين: إدارة الرجل وحنان المرأة، عطاء الرجل وصبر المرأة، حكمة الرجل ورحمة المرأة، هذا هو الميزان القرآني، وليس ميزان الصراع بين الرجل والمرأة كما تحاول بعض الخطابات الحديثة تصويره.
ثالثاً: معالجة الخلاف الزوجي… خطوات متدرجة تراعي الكرامة
تتابع الآية الكريمة في بيان آلية تربوية دقيقة لعلاج التمرّد الزوجي أو ما سمّاه القرآن: ﴿ النُّشُوز َ﴾.
النشوز: هو الارتفاع والابتعاد العاطفي أو السلوكي من أي من الزوجين تجاه الآخر، لكن الآية هنا تتحدث خصوصاً عن نشوز الزوجة في إطار إدارة الأسرة.
وقد وضعت الآية ثلاث وسائل علاجية، تدرّجت من الأخف إلى الأشد، وكلّها جاءت لحفظ الأسرة لا لهدمها.
1. الموعظة بالحسنى: ﴿ فَعِظُوهُنَّ ﴾
الخطوة الأولى هي الحوار. تذكير برفق، بيان الأثر السلبي للسلوك، إعادة الروح للمحبة، تجنّب الاتهام أو الإذلال، الموعظة لا تعني الصراخ، بل إحياء التواصل الذي قد تعطّل.
2. الهجر في المضجع ﴿ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ﴾
هذه الخطوة تهدف إلى: لفت النظر إلى خطورة الموقف، إشعار الزوجة بأن هناك أزمة تحتاج إصلاحاً، تقليل الاحتكاك الكلامي.
والأهمية هنا أنّ الهجر في المضجع فقط، وليس هجر البيت، ولا هجر الكلام بأكمله. والهدف هو معالجة، لا عقاب.
3. الضرب غير المبرّح (التأديب الخفيف) ﴿ وَاضْرِبُوهُنَّ ﴾
هذه من أكثر الموضوعات التي أسيء فهمها. وقد اتفقت التفاسير على أنّ: الضرب يجوز فقط إذا فشلت الخطوتان السابقتان، يجب أن يكون غير مبرّح، أي لا يترك أثراً ولا يُسبب ألماً، لا يجوز أن يكون على الوجه، لا يجوز أن يصاحبه شتم أو إذلال، يُمنع إذا كان سيتحوّل إلى عنف أو أذى، ويجوز للحاكم أو القاضي منع الرجل إذا أساء استخدام الإذن؛ بل إن بعض العلماء قالوا إن هذا الإذن تعليقي وليس تنفيذياً، أي يُستعاض عنه بالوسائل التربوية الحديثة.
4. الهدف: الإصلاح لا الانتقام
ويقول الله بعدها مباشرة: ﴿ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ﴾
أي: إذا عادت الحياة الزوجية إلى طبيعتها فلا يجوز للرجل أن يتذكّر الماضي ليعاقب أو ينتقم.
هذا يبيّن أنّ الغاية من الخطوات الثلاث هي: استعادة السكينة، منع تفكك الأسرة، تحقيق العدالة، حفظ كرامة الزوجين معاً.
الخاتمة
في يوم الرجل العالمي، نستعيد معاً رؤية القرآن الحكيمة لدور الرجل في الأسرة. هذه الرؤية ليست تفوّقاً لجنس على آخر، وليست استبداداً أو تسلّطاً، بل هي تكليف ومسؤولية أساسها العطاء والرحمة والرعاية. لقد قدّم القرآن نموذجاً متوازناً يضع الرجل في موقع القيادة الأسرية، ويضع المرأة في موقع الشريك الكامل في الكرامة والحقوق. فلا قِوامة بلا إنفاق، ولا طاعة بلا احترام، ولا علاج للخلافات بلا حكمة ورحمة.
إنّ فهم قوله تعالى : ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ فهماً صحيحاً يساعد على تحصين الأسرة من التفكك، ويعيد الاعتبار لدور الرجل في زمن تزداد فيه الضغوط النفسية والاجتماعية عليه. كما يذكّر الرجال بأن القِوامة ليست امتيازاً يُطلب، بل عبئاً يُحمل، ورسالة أخلاقية تتطلّب الحكمة، والصبر، والرحمة، وحسن المعاملة.
وبهذه المناسبة، ندعو كلّ رجل إلى أن يكون مصدر أمانٍ لمن يحب، وقلباً يفيض رحمةً، وعقلاً يقود بالعدل، كما ندعو كلّ امرأة إلى أن تكون سنداً وشريكاً، لا خصماً ولا منافساً. فبالسكن والمودّة والتكامل ينهض البيت، وتُبنى المجتمعات، وتستقيم الحياة.
ونختم بدعوة صادقة لكل زوج وزوجة أن يشاركونا تجاربهم الواقعية في كيفية حلّ الخلافات وتحقيق التفاهم بينهما، لتكون خبراتهم الثمينة منهجاً يهتدي به الآخرون في بناء حياة أسرية أكثر استقراراً ومحبة.
1. سورة النساء : آية 34.
2. سورة الشورى : الآية 38.
3. مجمع البيان في تفسير القرآن / الشيخ الطبرسي / المجلّد : 9 / الصفحة : 57 / ط مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.
4. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل / الشيخ ناصر مكارم الشيرازي / المجلّد : 15 / الصفحة : 558.
5. مجمع البيان في تفسير القرآن / الشيخ الطبرسي / المجلّد : 8 / الصفحة : 11 / ط مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.








التعلیقات