شروط ترك النهي عن المنكر
السيّد سعيد كاظم العذاري
منذ 11 سنةشُرِّع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهداية الناس وارشادهم ، وتغيير المحتوى الداخلي للنفس البشرية وما تحمل من أفكار ومشاعر ؛ لتكون حاكمة على الممارسات العملية من سلوك صالح واخلاق فاضلة وعلاقات حسنة
.والغاية منهما تخليص النفوس من ظلمات الاوهام والانحرافات العقائدية ، وتحريرها من ربقة الشهوات ؛ لتنتصر على الهوى وتتغلب على الشهوة ، عن طريق استحثاث الطاقة الكامنة في كيان الانسان ، وانماء القدرات الممكنة النماء.
كلّ ذلك يتم عن طريق الانذار والايقاظ بالحجة والبرهان والترغيب بالاستقامة والسمو والتكامل ، فإذا أغلق الإنسان منافذ الهداية في كيانه ، ورفض الاستماع أو التلقي غرورا وكبرا ، ولم يستجب للموعظة المراد منها تطهير القلب وتزكية النفس وتحسين الاخلاق ، أو آنس بواقعه العقائدي والسلوكي ، أو كان جاهلاً بما يصلحه جهلاً مركبا مطبقا على كيانه ، فإذا لم توقظه موحيات الايمان وموجبات الهداية ، ورفضت نفسه الوضيعة السمو إلى الكمال ، فانّ المواعظ والارشادات المصحوبة بعدم الاستجابة ستكون اضاعة للوقت ، وصرفا للجهد في غير محلّه.
وفي هذه الحالة فإنّ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر سيكون مخيّرا بين الاستمرار في اداء مسؤوليته ، وبين تركها إلى أن تحين الفرص المناسبة لها.
ويمكن تحديد شروط ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنقاط التالية :
أولاً : تجذّر الانحراف : إذا تجذّر الانحراف وأصبح جزءا من كيان الإنسان ، ويئس المكلّف من اصلاحه وتغييره ، فيجوز له ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لانّه لا يغيّر من الواقع شيئا ، بل قد يؤدي إلى نتائج سلبية على المكلّف نفسه.
قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى اذا رأيت شُحّا مطاعا ، وهوىً مُتّبعا ، ودنيا مؤثرة ، واعجاب كلّ ذي رأي برأيه ، ورأيت أمرا لا يدان لك به ، فعليك خويصة نفسك ، فإنّ من ورائكم أيام الصبر. الصبر فيهنَّ على مثل قبض على الجمر. للعامل فيهنَّ مثل أجر خمسين رجلاً يعملون بمثل عمله »
ثانيا : انحراف الأكابر : من طبيعة النفس البشرية أنّها تذعن وتخضع للأكابر والمتنفذين وتقتبس المفاهيم والقيم من الشخصيات البارزة في المجتمع ، والمؤثرة فيه ؛ لامتلاكها خصائص التأثير الذاتية والعملية ، كالملوك والعلماء ورؤساء القبائل والوجودات الاجتماعية ، فإذا انحرف هؤلاء انحرف المجتمع ، وهذه حقيقة ثابتة في جميع المجتمعات.
ففي مثل هذه الحالة يتفشى الانحراف ويستشري ويصعب اصلاحه وتغييره ، ولا يكون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي تأثير في العقول والنفوس.
وفي مثل هذا الظرف يكون الواجب على كلِّ مؤمن عالمٍ بالمعروف والمنكر أن يحافظ على نفسه بأن يروّضها بالعمل بالمعروف والترك للمنكر حتى لا يؤثّر فيه الجو العام في المجتمع ، وأن يحافظ أيضا على أهله وذويه ومن يهمّه أمره الذين ينصاعون لأوامره ونواهيه ، صونا لهم من الانحراف والانجراف.
ثالثا : وقوع الفتن : حينما تكون الاهواء حاكمة على الافكار والمواقف دون الرجوع إلى الاُسس الثابتة للمنهج الاسلامي ، وحينما تبتدع الاحكام المخالفة لكتاب اللّه تعالى ، ويتحكم التعصب بولاء الانسان والمجتمع بعيدا عن أسس الولاء التي حددتها الشريعة الإسلامية ؛ فان الفتن ستكون هي الظاهرة القائمة المتفشية في المجتمع الاسلامي ، قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تُتَّبع ، وأحكام تُبتدع ، يُخالف فيها كتاب اللّه ، ويتولى عليها رجالٌ رجالاً ، على غير دين اللّه ... »
وإذا وقعت الفتن فسيعيش المجتمع ظاهرة الاضطراب الفكري والنفسي والسلوكي بتبادل النظرة السلبية ، والموقف المتشنج ، ويدخل في صراع دائم مستمر بتبادل الاتهامات ودفعها ، ويصبح النبز بالكفر والانحراف والفسق هو الحاكم على العلاقات دون الاستناد إلى الاُصول الواضحة للمنهج الإسلامي.
ويدفع التعصب أفراد المجتمع إلى اتخاذ المواقف تبعا للمتعصّبين له، ويختلط الحق بالباطل ، وتلتبس المفاهيم والقيم على الناس ، فيندفعون دون روية ودون بحث عن الحقيقة أو رغبة في المعرفة ، ويتخلل اندفاعهم جدال لا ينتهي إلى شيء ، تصحبه المواقف المتشنجة من اتهامات وتعيير وتحقير ، فتعمى بصائر المتعصّبين وتنغلق منافذ الهدى في عقولهم ونفوسهم ومواقفهم ، ففي مثل هذه الحالة لا تنفع معهم المواعظ والارشادات والنصائح ، ولا يدركون الخطر المحدق بهم ، بل يحسبون انهم يحسنون صنعا ، فاذا أغلقوا قلوبهم وانفصلوا عن مصدر الاشعاع الفكري والسلوكي ، فلا يجب على المكلفين حينئذٍ القيام بدورهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهم يرون المجتمع يعيش في غبش الاوهام وضباب الاهواء ، واضطراب الولاء القائم على اساس التعصب للاشخاص.
قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ستكون فتن لا يستطيع المؤمن أن يغيّر فيها بيد ولا لسان » ، فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : « وفيهم يومئذٍ مؤمنون » ، قال : « نعم ».
قال عليهالسلام : « فينقص ذلك من ايمانهم شيئا؟ ».
قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا ، الاّ كما ينقص القطر من الصفا ، أنهم يكرهونه بقلوبهم »
وعن أمير المؤمنين عليهالسلام عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم ، وخفت أماناتهم ، وكانوا هكذا ـ وشبك بين أنامله ـ فالزم بيتك ، وأملك عليك لسانك ، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر ، وعليك بخاصة أمر نفسك ، ودع عنك أمر العامّة »
والفتن المقصودة هي التي تقع بين أهل الضلال ، وإلاّ فالذي يقع بين أهل الحق وأهل الباطل لا يسمى فتنة بالمعنى الحقيقي ؛ لأنّ الموقف واضح لا شبهة فيه ، ويستطيع الإنسان ان يشخّص موقفه من الرجال ومن الوجودات ومن الاحداث ، ويجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لارجاع المخالفين إلى المنهج السليم والموقف الصحيح.
التعلیقات