الانفاق قسمان
عزّ الدين بحر العلوم
منذ 9 سنواتهناك قسمان من الانفاق:
أحدهما : جعل الانفاق في سبيل الجهاد ، أو في سبيل الخير لاغراضه الشخصية ولم يكن لوجه الله.
أما الآخر : فقد كان الإنفاق عنده وسيلة للوصول إلى مرضات الله والتقرب إليه.
فقالت عن القسم الأول :
( ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مُغرماً ) :
والغرامة ما يخسره الرجل وليس يلزمه لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين رياءً لا لوجه الله عزوجل وابتغاء المثوبة عنده.
وهؤلاء جزاؤهم نتيجة انفاقهم لغير وجه الله لأنهم يتربصون الدوائر بالمسلمين أن :
( عليهِم دائرةُ السّوءِ )
وعليهم تدور الدائرة يبتلون بنفس ما كانوا يدبرونه للمسلمين من سوء وما يعدونه لهم من عقبات
أما القسم الثاني فقد قالت الآية الكريمة عنهم :
( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر )
وهؤلاء هم المؤمنون بالله وبما أخبر عنه من يوم القيامة والجزاء وما يترتب على ذلك من غير شك وريب ، وقد أعطت وصفاً دقيقاً عنهم عندما ينفقون فقالت :
( ويتّخذُ ما ينفق قربات عندَ الله والرسولِ )
ولنقف قليلاً مع الفرد من هؤلاء لنرى كيفية انفاقه وما يقصد من وراء هذا العطاء.
أولاً : عندما ينفق تكون غايته التقرب إلى الله عز وجل ، ويجعل من عمله هذا وسيلة لنيل مرضاته فقط.
ثانياً : انه عندما ينفق يطلب من النبي صلىاللهعليهوآله أن يدعوا له بالخير والبركة ليكون هذا الدعاء أيضاً وسيلة أخرى للتقرب إلى الله والركون إليه.
وهنا تواجه الآية هؤلاء المؤمنين بأن هذا النوع من الإنفاق ، وبهذه الكيفية مشفوعاً بطلب الدعاء
من الرسول تحقق لهم الغاية التي يقصدونها
( ألا إنها قربة لهم )
وهذه أول بشارة لهم في تحقيق ما يريدون الوصول إليه فقد أخبرتهم الآية الكريمة بأن هذه النفقة قربة لهم ، وقد قبل الله قربهم.
أما البشارة الثانية فقد جاءت مترتبة على هذا الاخبار بحصول التقرب منه سبحانه :
( سيدخلهم الله في رحمته )
ورحمته هنا مطلقة لم تقيد بأنها في الدنيا فقط ، أو في الآخرة فقط ، بل هي شاملة لهما معاً ولا ينقص من عطائه شيء ويدل على ذلك قوله سبحانه في آخر الآية :
( إنّ الله غفورٌ رحيمٌ )
فما يعود إلى ذنوبهم فهو غفور.
وما يعود إلى جزائهم فهو رحيم.
يشملهم بكل جزاء في الدنيا بأن يبارك في أعمالهم.
وفي الآخرة بأدخالهم الجنة التي أعدها لعباده المؤمنين.
وعندما تتطور العلاقة بين العبد وربه فتخرج عن نطاق تقرب العبد إلى ربه لنيل جزاء أو لغفران ذنب بل لتصل إلى مرحلة الحب والفناء في سبيل الطرف الآخر نجد القرآن الكريم يتحدث باعتزاز لينوه عن هذا النوع من المحبين ويكشف عن نفسياتهم العالية ، والتي تتجه إلى خالقها اتجاه الحبيب يحن إلى لقيا حبيبه انصهروا في ذاته المقدسة فأخذوا يقدمون النفوس للتقرب لساحته المقدسة لا المال والطعام فقط فهم يحبونه ويحنون إليه.
يقول سبحانه عن هؤلاء :
( إن الابرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا * عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا * يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً * ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً * إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا * إنّا نخاف من ربّنا يوماً عبوساً قمطريرا * فوقاهم الله شرّ ذلك اليوم ولقّاهم نضرةً وسُروراً * وجزاهم بما صبروا جنّة وحريراً ) (١).
************************
(١) سورة الدهر / آية : ٥ ـ ١٢.
والملاحظ على هذه الآيات الكريمة انها مهدت للحديث عن هذه الشخصيات المؤمنة بأن ذكرت جزاءهم
في الآخرة وان مكانهم الجنة.
وقد ذكر المفسرون أن هذه الآيات نزلت في آل بيت محمد صلىاللهعليهوآله علي وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام ، حيث روي عن ابن عباس ان الحسن والحسين عليهمالسلام مرضاً فعادهما رسول الله صلىاللهعليهوآله في اناس معه ، فقالوا : يا ابا الحسن لو نذرت على ولدِك فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن عافاهما الله تعالى أن يصوموا ثالثة أيام فشفيا وما معهم شيء فاستقرض علي عليهالسلام ثلاثة اصوع من شعير فطحنتة فاطمة عليهالسلام صاعاً وخبزته خمسة أقراص على عددهم ووضعوها بين أنديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال :
« السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين اطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء فأصبحوا صائمين فلما أمسكوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه وجاءهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ علي عليهالسلام بيد الحسن والحسين عليهمالسلام ، ودخلوا على الرسول صلىاللهعليهوآله فلما أبصرهم ، وهو يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال :
ما أشد ما أرى بكم ، وقام فأنطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها ، وقد التصق بطنها بظهرها ، وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبرائيل بالسورة ، وقال خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فأقرئها السورة » (١).
وبين يدي هذه الآيات الكريمة والواقعة التي كانت السبب في نزولها نقف لنستفيد من نقاطها التالية دروساً قيّمة نكيف على ضوئها حياتنا لنسير على الخط الذي رسمه لنا هؤلاء القادة الابطال وبينوا الخطوط العريضة لنوعية العلاقة التي لابد من حصولها بين الإنسان وخالقة وبين الإنسان ومجتمعه.
( ويطعمون الطعام على حبّه ) :
هذا العلاقة الشفافة التي لا يشوبها رياء ، ولا يشوه منظرها من شيء من المقاصد والغايات الدنيوية كأنتطار جزاء من أحد ، ولا خوف من آخرين.
**************************
(١) الميزان في تفسير القرآن عند تفسيره لهذه الآية.
بل كل ما في البين هوحب الله والفناء في ذاته المقدسة ، وهو الغاية لهم في كل عمل يقدمون
عيله في هذه الحياة.
واطعام الطعام على حبه صورة من صور هذه العلاقة الأكيدة بين الله ، وعباده المؤمنين.
( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) :
عباد الله المؤمنين بهذه النفسية العالية يواجهون الطبقات الضعيفة المحرومة.
انهم لا ينتطرون منهم جزاءً ولا يريدون منهم التملق والشكر على ما منحوه لهم ذلك لأن الفقير ليس طرفاً للحساب معهم بل حسابهم مع الله ، والفقير إنما هو المسرح الذي يعرضون عليه صور حبهم لله سبحانه سواء كانت تك الصورة لمسكين ، أو ليتيم ، أو لأسير ، أوغير ذلك من القضايا والمشاكل التي تحيط بالمجتمع ككل وبالأفراد على نحو الخصوصية الفردية.
مع الحادثة التي كانت السبب في نزول الآيات :
وعندما تتأمل الحادثة التي كانت السبب في نزول هذه الآيات بما اشتملت عليه من نقاط حساسة نقول بالإمكان أن نستفيد منها الدروس التالية :
١ ـ فقالوا با ابا الحسن لو نذرت على ولدك نذراً :
يقول العائدون لأمير المؤمنين عليهالسلام لو نذرت على ولدك نذراً ، ويمتثل الأب العطوف ، والأم الحانية تتبعهما جاريتهما فينذرون لله ان عافى الحسن ، والحسين صاموا لله ثلاثة أيام.
ومن هذا الامتثال تتجلى روعة التقديس لله ، والحب له إذ
كان بأمكان الإمام أمير المؤمنين أن يتوجه إلى النبي محمد صلىاللهعليهوآله فيطلب منه أن يرفع يده إلى السماء ليدعوا لشفاء ولديه ، ولا بد من الاستجابة لأن الله لا يرد دعوة نبيه ، ولا يخيبه فيها ، وتنتهي المشكلة بسلام.
ولكن الإمام لم يسلك هذا الطريق لأنه كان يتحين الفرص لأن يتوجه إلى الله عبر صلاته ، أو صيام ، أو جهاد ، أو عمل فيه خير ، وما شاكل.
إن الدعاء يسد عليه هذا الطريق ، ويضيع عليه هذا الفرصة لذلك امتثل ابن أبي طالب ، ونذر صوم الأيام الثلاثة ، وتبعه موكب الإيمان يتمثل بنذر سيدة النساء ، وفضة جاريتها التي نشأت في هذا البيت الذي لا تسمع بين أروقته الا تلاوة القرآن الكريم ، أو الدعاء ، والتضرع إلى الله عز وجل.
التعلیقات