الاعتدال في الانفاق
عزّ الدين بحر العلوم
منذ 9 سنواتان الإسلام قد أخذ بعين الاعتبار الاعتدال في الأمور كأساس للنظام الإجتماعي
، وبذلك يمكن التعديل وتسير الأمور على النحو الوسط.
وقد جعل من الآية الكريمة :
( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا ) (١)
مقياساً وضابطاً لتعديل الإنسان في حياته الإجتماعية. والآية الكريمة ، وان كان لسانها هو العطاء والبذل ، والمنع ، والشح ، ولكن ـ كما قلنا ـ آيات القرآن أحكام تشريعية لا تخص بمورد دون آخر ، ولا بوقت دون وقت إلا أن تقوم القرينة على الاختصاص ، ومع عدمها فالقضية تبقى عامة والحكم شامل وسار ، وقد اشتملت الآية الكريمة على مقاطع ثلاث ، ومن مجموعها تثبت القاعدة المذكورة.
١ ـ ( ولا تجعل يدك مغلوقة إلى عنقك ) :
وهذا هو المقياس ، والضابط للإمتناع ، وعدم الاقدام ومسك اليد كما لو كانت يد الإنسان مشدودة إلى عنقه فلا يقدر على البذل ، والعطاء
٢ ـ ( ولا تبسطها كل البسط ) :
وهذه هي الصورة المعبرة لإنبساط اليد ، وعدم الادخار بحيث يبذل الإنسان يبقى فلا شيئاً له.
فلا هذا ولا ذاك لأن كلاً من هاتين الحالتين تؤدي بالإنسان إلى عدم الاعتدال ، وحينئذٍ :
٣ ـ ( فتقعد ملوماً محسوراً ) :
ملوماً في حالة الإمتناع حيث تلوكه الألسن وتتحدث عن بخله الناس فيلومونه على هذه الحالة.
ومحسوراً في حالة البسط ، والعطاء الكلي لأنه سينقطع عن كل أحد ، والناس كما يقول الشاعر :
والناس من يلق خيراً قائلون له
لك البقا ولأم الخاسر البهل
****************************
(١) سورة الاسراء / آية : ٢٩.
قد جاء عن الإمام الصادق عليهالسلام في توضيح له لهذه الآية :
« أن أمسكت تقعد ملوماً مذموماً
، وان أسرفت بقيت منحسرا مغموماً » (١).
ومن هذا المنطلق والسير على ضوء هذه القاعدة الكبرى كأساس لحفظ التوازن والتعديل.
تأتي الآيات الكريمة لتضع الشرط الثاني للإنفاق فتقرر ضرورة الاعتدال فيه.
( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ) (2).
والآية جاءت في معرض الحديث عن عباد الرحمن حيث قال سبحانه فيما سبق هذه الآية :
( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً * والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً * إنها ساءت مستقراً ومقاماً ) (3).
وقال تعالى فيما بعد هذه الآية ، وهو يعدد صفات عباده الذين ارتضاهم لنفسه.
( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما ) (4).
هؤلاء هم عباد الرحمن الذين تحدثت عنهم الآيات الكريمة بشيء من الاعتزاز.
سمتهم الاعتدال في كل اعمالهم مع ربهم ، ومع مجتمعهم ، وفي ليلهم ، وفي نهارهم.
أما مع ربهم حيث رأينا الآية تقول عنهم : انهم يبتون لربهم سجداً وقياماً.
يحنون إلى الليل كما تحن الطيور إلى أوكارها يقومون بين يدي الله خاشعين مصلين يسبحونه ويعظمونه سجداً وقياماً.
وربما كان منظرهم هذا وانهماكهم بالعبادة موجباً لأن يتخيل الإنسان أن هؤلاء رهباناً عباداً تركوا الدنيا وعزفت نفوسهم عن كل شيء ، واتجهوا إلى الله فأين الاعتدال في أوضاعهم ؟
*****************************
(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية ٢٩ من سورة بني اسرائيل.
(2) سورة الفرقان / آية : ٦٧.
(3) سورة الفرقان / آية : ٦٣ و ٦٥ و ٦٦.
(4) سورة الفرقان / آية : ٦٨.
التعلیقات