الجوع وخفوت العقل والاحساس
مجلة الزهراء عليها السلام
منذ 8 سنواتلا يفكر الإنسان الجائع بالمسائل العقلية والعلمية ولا يهتم للحسن والجمال ولا يتحدث عن المنصب والجاه، ويفقد العشق والشهوة محتواهما لديه ويسكن ثأره وغضبه.. الإنسان الجائع ينسى مبادئه المعنوية والدينية ويتناسى العدل والانصاف والرحمة والرأفة والصحبة والصداقة والقرابة والرحم وكل المشاعر الانسانية.. وبإختصار: فإن الإنسان الجائع لا يرى شيئاً أجمل وأحب إليه من الطعام، وأمنيته الوحيدة أن تصل يداه إلى شيء يأكله، ولا يفكر إلاّ بسد رمقه وإشباع جوعه.
"كل شيء يحقق في طبائعنا حاجة اساسية يحمل في طياته بعض الامكانات الجمالية. فطبق الطعام يجب أن يكون جميلاً في نظر الجائع كما تبدو المرأة في الثلاثين في عين طالب الجامعة، المليء المعدة بالطعام ولكن دع طالب الجامعة sophomore يجوع، سوف تخمد حاسته بالجمال حتى لأجمل الغادات. إنه سيعتبرها مجرد شيء صالح للأكل"(1).
ثروة صاحب الزنج
في القرن الثالث الهجري ثار في البصرة رجل يسمى علي بن محمد عرف فيما بعد بـ(صاحب الزنج) وجمع حوله العبيد الذين كانوا كثراَ في البصرة حينذاك رافعاً راية التمرى وداعياً إلى تحريرهم. فأشعل نار الفتنة وأشاع الفوضى والاضطراب في مدينة البصرة. واستمرت تلك الفتنة المخيفة الدامية نحو خمسة عشر عاماً ساد خلالها الخوف وانعدم الامن في تلك المنطقة، وقتل فيها عشرات الآلاف من الاشخاص صغاراً وكباراً، وانتهكت اموال الكثير من الناس واعراضهم، وتوقفت الزراعة واختفى الطعام شيئاً فشيئاً. ووصل الجوع بالناس حداً جعلهم يتناولون من لحوم الكلاب والقطط ويقتسمون لحم احدهم إذا قضى نحبه، ولم يبق جنود صاحب الزنج بمنأى عن ضغوط القحط والجوع فكانوا يسدون رمقهم في جبهات القتال مع جيش الخليفة على لحوم الجنود القتلى(2).
زوال عاطفة الاخوة
ونقل أنه وفي الايام العصيبة التي مرّت بها البصرة شوهدت امرأة وبيدها رأس لإنسان وهي تبكي، ولما سئلت عن سبب بكاءها، اجابت: إن الناس تجمعوا حول اختي المحتضرة بإنتظار الحصول على قطعة من اللحم بعد موتها، لكنهم قطّعوها قبل أن تفارق الحياة وقسموا لحمها فيما بينهم ولم يصلني من لحمها شيء بل اعطوني رأسها، وهي قسمة ظالمة!(3).
إن بلاء المجاعة العظيم يجعل الإنسان ينسى نفسه واحاسيسه ويفني مشاعره الإنسانية حتى جعل المرأة لا تتألم من تقطيع اختها امامها وهي بعد على قيد الحياة، بل كانت تشكو وتبكي لان حصتها من جسد اختها كانت قليلة جداً ولم تحصل الاّ على الرأس!
الاُم الجائعة تلتهم ابنها
والأهم من العواطف الاخوية، هناك الاُم وحبها لولدها وهوحب جاف لكنه يزول إذا ما اشتد الجوع بالأم، وهذه حالة حدثت في سالف العهود وعلى وجه الحصر في قوم النبي دانيال حينما المّت المجاعة بهم بأثر كفران النعمة ووصل بهم الامر إلى التهام الإنسان للإنسان، يقول الرسول(ص):
"قالت إمْرَأَةٌ لاخْرى وَلَهُما وَلَدان يا فُلاَنَةُ تَعالَيْ حَتّى نَأكُلَ أنَا وَأنَتِ الَيَوْمَ وَلَدي وإذا كانَ غَداً أكَلْنا وَلَدَكِ قالَت لها نَعَمْ. فَأكَلتاهُ فَلَمّا أنْ جاعَتْ مِنْ بَعْدُ راوَدَت الاخْرى عَلى أكْل وَلَدِها فامْتَنَعَتْ عَلَيْها. فَقالَتْ لَها بَيْني وَبَيْنَكِ نَبي الله. فاخْتَصَما إلى دانيال(ع) فَقالَ لَهُما: وَقَدْ بَلَغَ الأمْرُ إلى ما أرى. قالَتا لَهُ: نَعَمْ يا نَبيَّ الله وَأشَدَّ. قالَ: فَرَفَعَ يَدَهُ إلى السَّماءِ فَقال: اللّهُمَّ عُدْ عَلَيْنا بِفَضْلك"(4).
وفي الخبر: وَأعوذُ بَكَ مِنَ الجُوع فَإنَّهُ بِئسَ الضَّجيعُ(5).
التحول بأثر الزراعة والصناعة
هناك عاملان كبيران في تاريخ الحياة البشرية أَدَّيا إلى حدوث اعمق تحول وثورة عامة في هذا التاريخ، وترك كل منهما اثره الضخم في جميع الشؤون المادية والمعنوية والاخلاقية والاجتماعية للشعوب، وكانا سبباً لوقوع الكثير من الحوادث وبالتالي تغيير مسار حياة الإنسانية، والعاملان هما: الزراعة والصناعة.
فظاهرة الزراعة وتأمين طعام السنة نقلت الإنسان من مرحلة التهام النبات والاعشاب والصيد إلى مرحلة الزراعة، فعمرت الارض وحلّت الحضارات الانسانية. واسست على طول قرون متمادية المدن الكبيرة ودونت القوانين والمقررات وتشكلت الحكومات والانظمة الادارية وبرز علماء في مختلف حقول العلم ودرسوا فيها والّفوا الكتب حولها حتى تسلق الإنسان بالتدريج مدارج الرقي.
ونقلت الظاهرة الصناعية الإنسان من المرحلة الزراعية إلى مرحلة الصناعات الآلية وحصلت تطورات كبيرة في جميع مظاهر الحياة الإنسانية، فحلت الالات الزراعية محل المحاريث التي كانت تجرها الثيران، واخذت المصانع الآلية الكبرى مكان المعامل والوسائل اليدوية.
وجاء تطور العلوم والصناعات ليسخّر الإنسان الطبيعة اكثر من ذي قبل ويرفع من قدرة استغلاله للمصادر والثروات الطبيعية الارضية بما لا يمكن مقارنته بالمرحلة الزراعية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مباهج الفلسفة: 236.
2 ـ موسوعة دهخدا، "صاحب الزنج": 31.
3 ـ تتمة المنتهى: 380.
4 ـ الكافي 6: 302.
5 ـ سفينة البحار، "جوع": 196.
التعلیقات