السيدة أم عيسى المسيح
الشيخ محمد الياس
منذ 8 سنوات
قالت لجبرئيل: إنّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا، فهذا مقال السيد مريم عليها السلام، وذلك عندما أتى جبرئيل، وكان قد تمثل إليها بصورة إنسان كامل، ولكن لما سمع جبرئيل منها هذا القول، أجابها قائلاً: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً .
إذا لم نكن نعرف من هي مريم بنت عمران عليها السلام وما هو مقامها؟ قد نستغرب من عبارتها لهذا الملك، ولكن عندما عرفناها وما تحظى بها هذه السيدة من مقام، فهناك لا نستغرب من مقالها
وعن باب مدينة علم النبي (ص) الإمام أمير المؤ منين (ع) قال: "ثلاث هن جماع الدين: العفة، والورع، والحياء"
فكانت مريم بنت عمران عليها السلام تحظى بهذه الخصال.
وأما حكاية حالها فتتحدث الأخبار عنها:
روي أنّ (حنة) و(أشياع) كانتا أختين تتسمان بالتقى والعبادة والأخلاق الرفيعة ، تزوجت الأولى (عمران) أحد أنبياء بني إسرائيل، وتزوجت الأخرى (زكريا) النبي (ع). مضت سنوات على زواج (حنة) بغير أن ترزق وليداً، وفي أحد الأيام بينما هي جالسة تحت شجرة، رأت طائراً يطعم فراخه، فأشعل هذا المشهد نار حب الأمومة في قلبها، فتوجهت إلى الله بمجامع قلبها تدعوه أن يرزقها مولودا، فاستجاب الله خالص دعائها.
بعد أن بلغ نبي الله عمران (ع) وزوجته الشيخوخة، وكبر سنهما، وأيسا من الإنجاب بشرهما الله سبحانه بأنه سيرزقهم ولداً طيباً، فهناك خبر يقول: قد أوحى إلى عمران قبل الولادة أنه سيوهب ولد مبارك يشفي تلك المرضى الذين هم عديم الشفاء، ويحيي الموتى بإذن الله، وسوف يبعث الله نبياً إلى بني إسرائيل، فأخبر عمران زوجته حنة بالأمر، لذلك عندما حملت ظنت أن ما في أحشائها هو ذلك الولد المبشر به من قبل. توفي عمران عليه السلام قبل الولادة، ولم تكن الزوجة تعلم مصير الولد، فنذرت ما في بطنها خالصاً لله ليكون خالصاً لله وأن تهبه للمعبد الذي كان مركز العبادة آنذاك في القدس. وهكذا كان يعتقد الجميع أن المولود القادم سيكون ولداً ذكراً وهو النبي الذي المنقذ لهم.
وعند ما توفى والد السيدة مريم (ع) تسلم كفالتها زوج خالتها النبي زكريا (ع) وهذا النبي هو الذي اهتم بتربيتها الدينية والعبادية حتى أنها صارت من أعلم الناس في عصرها.
فبناء على ما نذرته أم مريم، جيء بها إلى بيت المقدس وكان لابد أن يتصدى لكفالة (مريم) الصغيرة أحد الأحبار من رجال الدين الأتقياء المقيمين بالمسجد، فتنافس الأحبار على كفالة مريم ابنة عمران، وكان على رأس المتنافسين زكريا فاتفقوا على إجراء قرعة فيما بينهم لأخذها من يكفل مريم فلما جاءت القرعة من نصيب نبي الله زكريا عليه السلام، بنى لها زكريا غرفا في مكان عالٍ من المعبد في القدس لا يدخلها إلا زكريا (ع) ومريم (ع).
ومن القضايا الملفة للنظر أنه كان لا يقبلون الأنثى لخدمة المعبد آنذلك، فتواجد مريم في ذلك المكان المقدس غير مسبوق وفريد من نوعه. وكانت تصوم نهارها، وتقوم ليلها بالعبادة والتهجد والمناجاة ، حتى بلغت مرتبة رفيعة من الإيمان والتقوى والورع وعُرفت بين الناس بهذه الصفات
ولما بلغت هذه السيدة من الكمالات ما بلغت، أكرمها الله بالمعجزات، فكان يمر بها النبي زكريا (ع) ويشاهد عندها بعض الغرائب، فيرى طعاماً جهازاً لديها، أو يرى فواكه الشتاء في فصل الصيف و فواكه الصيف في الشتاء، فكان يسأل عن السبب، فتقول: إن الله رزقها إياها عن طريق الإعجاز. وهذا هو الذي ذكر الله في القرآن الكريم في سورة آل عمران (3) الآية 36:
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ.
فكانت عابدة زمانها حيث لا تنقطع عن العبادة ليلاً ونهاراً، ففي ذات يوم أتاها غلام أمرد فتمثل أمامها فانزعجت من ذلك وفزعت، وقالت إني أعوذ بالرحمن منك ان كنت تقيا فلما سمع جبرئيل منها هذا القول قال لها :إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا . ففوجئت وانزعت مرة أخرى و قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا.
وأما عندما الولادة خافت للمرة الثالة ويصفها القرآن الكريم ويقول: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إلىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا
فهذا الانزعاج والخوف الذي نحن عبّرنا عنه، فكله لإجل عفتها و الا هي كانت تدري أنها غير عاصية و مع ذالك كانت تخاف أن يرد عليها استفهام على عفتها التي هي احدى "ثلاث هن جماع الدين: العفة، والورع، والحياء.
من أجل هذا نرى بأن الله سبحانه أكد على دورها الأخلاقي وأن العفة حليفة هذه السيدة الجليلة الشريفة، وإن ولدت ابنها البني عيسى (ع) من غيرأب، فلا يمكن لأحد أن يوجه إليها التهم، فإنها أرفع شأناً وأعلى مرتبة مما يتفوه بها الآخرون، وهذا هو القرآن الكريم بين أيدينا ويحدثنا بما جرى عليها ويقول: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا . فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا . قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا.
ولهذه الدرجات العالية التي كسبتها هذه السيدة منحها الإسلام القداسة ووضعها إلى جانب سيدات النساء كالسيدة خديجة (ع) والسيدة آسية (ع) و سيدة نساء العالمين فاطمة (ع).
التعلیقات